في حديثه عن الصالات السينمائية، يقول المخرج
التايواني تساي مينغ ليانغ: "العالم يتحرك على نحو
سريع. الآن، يكتفي الناس، عن رضا وقناعة، بمشاهدة
الأفلام في بيوتهم عن طريق أقراص
DVD.
لكن هل تتذكر العروض الليلية الأخيرة في صالة السينما،
حيث يجلس معاً ألف شخص، يضحكون معاً، ويبكون معاً؟ حتى
أخفّ تنهيدة كانت قادرة أن تحرّك القلب وتثير
المشاعر".
بهذا الكلام كان تساي يوجّه تحيةً لصالات السينما،
مثلما يوجّه تحية حب وتقدير استثنائية للسينما في
فيلمه "وداعاً نزل التنين" أو "وداعاً دراغون إن"
Goodbye Dragon Inn
(2003). إنها تحية ذاتية، شخصية، شعرية للصالة
السينمائية ومرتاديها.
في مقابلة له مع "الجارديان"، قال تساي: "في طفولتي،
صالة السينما كانت أشبه بالمعبد. الآن، صار الذهاب إلى
السينما أشبه بالذهاب إلى مجمّع تجاري".
في فيلمه "وداعاً نزل التنين"، يصوّر تساي صالة سينما
قديمة، معرّضة للهدم والإزالة، تعرض في آخر ليلة لها،
قبل الإغلاق، فيلماً قديماً كلاسيكياً أنتج في العام
1966 للمخرج التايواني كينغ هوْ، بعنوان
Dragon Inn،
وهو من نوعية أفلام الكونغ فو، عن مرحلة تاريخية
قديمة. وقد شاهد تساي هذا الفيلم وهو في الحادية عشرة
من عمره.
فيلم تساي مصوّر بأكمله في دار السينما هذه، بصالتها
ومكاتبها وحمّامها وممراتها وحجيرة جهاز العرض. إنها
المكان
الذي يجتمع فيه أشخاص لا يعرف بعضهم بعضاً، ويحاولون،
كل بطريقته، الاتصال بالصور المعروضة أمامهم على
الشاشة.
إن تساي لا يهدف من فيلمه إلى تقديم حالة نوستالجية،
أو نزوع حنيني إلى مرحلة مفقودة، بل يرثي فقدان
الاتصال الاجتماعي الذي كانت الصالات السينمائية ترعاه
وتعزّزه، باعتبارها مكاناً تلتقي فيه الجماعات
والحشود، ويوحّد البشر الذين يتشاركون في فعل
المشاهدة. كما يرثي أفول الصالات السينمائية، وعادة
ارتياد الأفلام.
الفيلم لا يندب الماضي ولا يرثيه، بقدر ما يمتدح
الجمال في ما تبقى. وهو لا يحتفي بالوهْم المتحرك على
الشاشة، بل يركّز بؤرته على الأمكنة بأركانها
وزواياها، بالأروقة الأشبه بالمتاهات، الأبواب
الجانبية، الحمامات، السلالم، شباك التذاكر، وأمكنة
أخرى. إن صالة السينما هنا ليست موقعاً اجتماعياً
تحتشد فيه الجموع، بل مكان وحيد يقطنه أفراد وحيدون.
"وداعاً نزل التنين" فيلم عن العزلة، وعن غزو الفضاء
الشخصي. ويُعد من بين أكثر أعمال تساي تقشفاً في
إنتاجه وفي أسلوبه الذي يمتد إلى السرد. هنا نحن لسنا
أمام قصة تُروى، إنما لمحات من الحياة تومض أمامنا.
خارج صالة السينما القديمة الطراز، المطر ينهمر بلا
توقف، والشوارع خالية من المارّة. ثم نرى سائحاً
يابانياً شاباً يدخل صالة السينما، ربما ليحتمي من
المطر. غير أنه يتسلل إلى الداخل، أثناء غياب العاملة
في شباك التذاكر. الصالة الكبيرة خالية تقريباً. عدد
الحضور قليل. بينهم كهلان متباعدان، يتابعان الفيلم
باهتمام (يتضح في ما بعد، أنهما مشاركان في تمثيل
الفيلم المعروض، وهما الآن يشاهدان نفسيهما في إيماءة
حنين). البقية من الرواد لهم مآرب أخرى، مثل البحث عن
إشباع جنسي.
في هذه الأثناء نتابع حركة بائعة التذاكر، وهي امرأة
شابة عرجاء، فيما تغسل شيئاً في المرحاض، ثم نراها
تسخن طعامها، تأخذ نصف الكعكة وتسير على مهل، مصدرة
قعقعة صاخبة مزعجة بسبب الدعامة في قدمها، إلى حجيرة
العرض، لكنها لا تجد مشغل جهاز العرض هناك. تترك
الطعام وتعود إلى مكانها حيث تبيع تذاكر العرض.
الفيلم يسلط الضوء على الجمهور الحاضر، على سلوكهم في
الصالة وفي ممرات دار السينما. إنهم يتصرفون بغرابة
أحياناً، وبفظاظة أحياناً من دون مراعاة للياقة
وتقاليد المشاهدة، وبجنون أحياناً. إننا نراهم كأفراد
معزولين، مزعجين بعض الشيء، غير مكترثين كثيراً بما
يدور على الشاشة. يغيّرون أماكنهم باستمرار، في بحث
عقيم عن احتكاك أو اتصال إنساني. والفيلم لا يوضّح ما
إذا هم أشخاص حقيقيون أم أشباح؟ ما إذا نتخيّل حضورهم
أم أن وجودهم حقيقي؟ هل المكان مسكون فعلاً؟
إن بائعة التذاكر العرجاء تستمر في التجوّل بتثاقل،
حول صالة العرض، صاعدة درجات السلم أو نازلة. ربما هي
تبحث عن مشغل البروجكتور، ربما هي مغرمة به وتحاول أن
تجذب انتباهه، لذلك نراها وحيدة طوال الوقت.
إننا نرى التقاء عددٍ من رواد الصالة داخل الحمّام،
كما نتابع تجوال السائح الياباني خارج صالة العرض، حيث
يصل إلى الرواق ويلتقي بمشغل البروجكتر (لي كانغ شينغ)
الذي يخبره أن الصالة مسكونة بالأشباح (في الواقع، هذا
أول حوار بين الشخصيات نسمعه في الفيلم، أي بعد مرور
44 دقيقة من العرض الذي تبلغ مدّته 81 دقيقة. الفيلم
يكاد يخلو من الحوار. الكلمات التي نسمعها تأتي من
الفيلم المعروض على الشاشة والذي تشاهده شخصيات
الفيلم).
عندما ينتهي الفيلم المعروض في الصالة، تضاء الأنوار.
المرأة العرجاء تنظف الأرضية. المتفرجون يغادرون
الصالة. في الخارج، السماء لا تزال تمطر، والمياه
تتسرّب إلى الداخل (من الثيمات المتكررة في أفلام
تساي).
الممثلان (اللذان شاركا في الفيلم المعروض) يلتقيان
لفترة وجيزة في ردهة الصالة ويتبادلان حديثاً مقتضباً
يعكس الشعور بالحنين إلى ماضي الصالات السينمائية: "لا
أحد يتذكرنا الآن. لم يعد الناس يرتادون صالات
السينما".
هنا يستجوب تساي مصير السينما نفسها، وعلاقتها
بالجمهور، إذ صار ارتياد الصالات تقليداً منسياً
ومهمَلاً. وثمة إيحاء بأن الممثليْن الكهليْن صارا
شبحيْن ينتابان هذه الصالة.
مشغل جهاز العرض يعيد الشريط في الجهاز، نلاحظ أنه لم
يمس الكعك الذي أحضرته العاملة العرجاء، والتي الآن
تتفقّد الحمامات، ثم تعود إلى موقع عملها وتأخذ
أغراضها، تطفئ الأنوار وتخرج، لكنها تنتظر. مشغّل جهاز
العرض يقفل مدخل الصالة، ثم يخرج. العرجاء الواقفة
تنتظر، تراقبه وهو يغادر تحت المطر. بعد ذلك تسير
وحيدة قاصدةً بيتها.
هنا فقط ندرك أنها واقعة في غرامه، وتحاول التعبير عن
هذا الحب، في صمت، بإظهار الاهتمام به، بتقديم الطعام
له، بالبحث عنه ومحاولة الاتصال به، ساعيةً إلى إثارة
انتباهه، غير أنه يبدو غافلاً عن ذلك، ولا يبادلها
الاهتمام. هو غائب معظم الوقت. في الواقع، الفيلم لا
يوضّح موقفه أو حقيقة مشاعره. إن تساي بلقطاته
الطويلة، والكاميرا الثابتة المركزة على الشخصيات
الصامتة، لا يكشف عن مشاعرها وأفكارها واستجاباتها
وبواعثها، بل يركّز على أفعالها، تاركاً الأمر لنا
لنخمّن ونحدس ونتوقّع.
الشخصيات لا تتفاعل في ما بينها ومع من يحيط بها، بل
تظل متقوقعة في عالمها الخاص، النائي. إننا نشعر بأنها
تسعى إلى الاتصال الإنساني، بإقامة نوع من الحوار مع
الآخر، بطرق متعددة ومتنوعة، لكنها تخفق في تأسيس أي
علاقة، مثلما تخفق في تلبية رغباتها. لذلك نجدها
معزولة، منفصلة عن الآخرين، وليس ثمة أي علاقة سببية
في ما بينها.
الإحساس بالفقد، والعزلة، ورغبة المرء في أن يكون
محبوباً، من الثيمات الأساسية التي تتخلّل هذا الفيلم.
كعادته، يوظّف تساي عناصره الفنية وأسلوبه المميّز في
توصيل ثيماته: اللقطات الطويلة المتواصلة من كاميرا في
وضع ثابت غالباً، اللقطات العامة، لحظات الصمت
المديدة، الحوارات القليلة، الإيقاع البطيء، السرد
الذي يخلو من الأحداث الهامة.
الفيلم يكاد يخلو من الأحداث "الدرامية" المثيرة
والمشوّقة. الكاميرا تركّز بؤرتها على الأفعال اليومية
التي لا تسهم في دفع السرد إلى الأمام. إننا نتفرج،
مثلاً، على بائعة التذاكر لمدة ثلاث دقائق وهي تسخن
طعامها، أو نتفرج لدقائق على مشغّل جهاز العرض وهو
يفرغ دلاء الماء، أو مشهد جلوس بائعة التذاكر في حجيرة
مشغل جهاز العرض وهي تنتظر عودته وعندما تيأس بعد
دقائق، تنهض وتخرج. ونحن ننظر إلى هذه الأفعال، وفي
الوقت نفسه، نصغي بانتباه إلى ما يصلنا من خارج الشاشة
من أصوات وضجيج.
وأنت دائماً تتوقع حدوث شيء ما، لكن لا شيء يحدث، أو
بالأحرى لا تحدث أمور كثيرة. مع ذلك، كل لحظة تبدو
ضرورية. تساي يرغمك فحسب على التحديق في اللقطة
الطويلة، المتواصلة والساكنة، وفحصها واستنطاقها،
وكذلك استنطاق الموقع والمحيط، المعروض أمامك، برويّة
ومن غير استعجال. إنه لا يلهيك بحركات كاميرا مستمرة
واستعراضية. من خلال هذه اللقطات نشعر بحالة العزلة
التي تعيشها الشخصيات دونما حاجة إلى الحوار المباشر.
وبهذه الطريقة أيضاً، نجد التجانس بين الفيلم والشعر.
كما أن الفيلم، من خلال استمرارية اللقطات الطويلة
وانعدام الحوار وغياب الحدث أو حدوثه ببطء شديد،
يجعلنا نشعر بمرور الزمن، بكثافة لحظاته وثقلها. وتلك
اللقطات ليست مضجرة، بل بالأحرى هي جميلة، آسرة.
مشحونة بالتوتر. إنها تغوي تحديقة المتفرج.
أفلام تساي ليست ترفيهية أو مبهجة، بالمعنى التقليدي.
هي لا تحتوى على أحداث وأكشن وقصص مسهبة في حواراتها.
إنها ليست مصنوعة لإمتاع المشاهدين. وإذا كان المتفرح
يتوقّع من أفلامه ما يتوقعه من أفلام أخرى فسوف يصاب
بخيبة أمل شديدة. إذ يحلو لتساي أن يخرّب توقعات
المتفرج.
في الواقع، أفلامه تحتاج من المتفرج أن يتحلّى بالصبر
والحلم، وعدم التسرّع في إصدار الأحكام، والانفتاح على
ما هو تجريبي وغير تقليدي.
إن مشاهدة أفلامه تجربة جديرة بالاهتمام والمعايشة إن
جاء إليها المتفرج بذهنية منفتحة ومرنة، وسمح لنفسه
بأن تتفاعل مع رؤية المخرج العميقة للعالم.