المخرج الأسباني بيدرو ألمودوفار هو واحد من أهم الأسماء الآن ليس في
السينما الإسبانية فحسب بل أيضا في السينما الأوروبية المعاصرة، أفلامه
تجتذب الجمهور الواسع وتحصد الجوائز في المهرجانات، وفيلمه الأخير (تحدث
إليها
Talk To
her (انتاج اسباني
٢٠٠٢) رشح لعدد من جوائز الأوسكار لكن لم يفز إلا بجائزة أفضل سيناريو
استلمها ألمودوفار نفسه كمؤلف للفيلم.
انه الفيلم الرابع عشر للمخرج ألمودوفار، وقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات
بعد عرضه فيلمه السابق )كل شيء عن أمي( الذي حققه في ٩٩٩١
وحاز عنه على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان وأوسكار أفضل فيلم أجنبي.
وفيلمه هذا (تحدث إليها) عمل جميل وممتع، ومحرك للمشاعر، ويظهر براعة
ألمودوفار في تقديم قصة مركبة في إطار بسيط معتمدا على إبراز المشاعر
والكشف عن الدواخل وكذلك يقترب في أسلوبه من الشكل السريالي الذي يتسم
بالدعابة، لكن ضمن بناء سردي صارم.
الفيلم يستنطق عن كثب التجليات العديدة للعاطفة، خصوصا مشاعر الرغبة والشغف
التي هي في حال يتعذر معها السيطرة عليها أو التحكم بها، وهذه التجليات يتم
التعبير عنها من خلال الصداقة القوية، الدافئة، بين رجلين يعبران عن
مشاعرهما الرومانسية، عن العاطفة، عن الصداقة والحب.. وذلك بانسيابية وحرية
وسلاسة، دونما أي تعقيد أو تحفظ أو خوف.
في البداية تتركز الكاميرا على رجلين يشهدان، دون أن يكون بينهما أي سابق
معرفة، عرضا مسرحيا راقصا، احدهما (ماركو) يتأثر وجدانيا بما يراه وبالأداء
الدرامي فيذرف الدموع بلا خجل وعلى نحو صريح (نعرف فيما بعد انه مر بتجربة
عاطفية فاشلة)، والآخر (بنينو) فيلاحظ هذا التأثر في انبهار وتتحرك مشاعره
مع هذه العاطفة الجياشة.
في اليوم التالي، ينجذب ماركو، وهو صحفي وكاتب سياحي أرجنتيني، الى مصارعة
ثيران تدعى (ليديا) ويتعرف عليها متذرعا بأنه ينوي إجراء تحقيق صحفي عنها،
أما بنينو فهو اسباني ويعمل ممرضا، انه يكرس كل وقته للعناية بفتاة جميلة،
تدعى أليسيا، وهي في حالة غيبوبة، ومع ذلك فإنه يتحدث إليها كما لو أنها
تسمعه، فيما بعد، وعبر الفلاش باك، نعلم حقيقة العلاقة بين الاثنين، فقد
كان بنينو - الذي ظل لسنوات يعتني بأمه المريضة قبل أن تموت - يتلصص من
شقته على دروس الرقص وبالذات على (أليسيا) التي تتدرب على الرقص، وعندما
تصدمها سيارة تقع في حالة سبات طويلة الأمد، فاقدة الوعي والحس والإرادة..
أشبه بدمية، ويقوم بنينو بالاعتناء بها، وهو لا يكف عن التكلم معها في كل
الشئون الخاصة والعامة.
هي علاقة قائمة خارج الواقع، خارج الحواس، خارج المشاركة انه اتصال على
مستوى الوهم والتخيل، وهو لا يهتم إذا كانت لا تسمعه ولا تستجيب اليه ولا
تشعر به.
في غضون ذلك، تتعرض ليديا الى إصابة خطيرة في الحلبة بعد ان يطعنها الثور
بقرنه، فيحضرونها الى نفس المستشفى حيث يلتقي بنينو بماركو من جديد وتنشأ
بينهما علاقة عميقة، ويحاول بنينو إقناع ماركو بأن يحدث حبيبته مثلما يفعل
هو، غير ان الآخر يعجز عن فعل ذلك، بل انه يشعر بأنها غريبة عنه، بعيدة
عنه.
المرأتان (أليسيا، ليديا) تظلان معلقتين في مكان ما بين الحياة والموت، في
حالة سلبية مطلقة، في إقليم الغياب التام حيث الحضور المادي نفسه ما هو إلا
غياب في الواقع، والأمر متروك للرجلين لرؤية مدى إمكانية الاتصال والتكيف
مع الوضع الغريب، الموجع، وهذه الحالة هي تجسيد مباشر للعرض المسرحي الذي
شاهدناه في بداية الفيلم حيث الراقصتان تتعثران عبر خشبة المسرح بالأشياء
وترتطمان بالإكسسوارات وتخران على الأرض غير واعيتين لمحيطهما بينما
الرجلان - الراقصان - يبذلان جهدهما في محاولة حمايتهما وانتزاع الأشياء
والعوائق من طريقهما.
فيما بعد، يمارس بنينو الجنس مع أليسيا وهي لا تزال في حالة غيبوبة: بلا
وعي، بلا مقاومة، بلا جسد، وعندما يتضح أنها حبلى، توجه الى بنينو تهمة
الاغتصاب ويسجن، غير انه ينتحر، أما أليسيا فتتعافى على نحو غير متوقع
نتيجة صدمة الحمل.
الفعل الجنسي هنا فعل غير أخلاقي، رهيب ووحشي لأنه يحدث رغما عنها ودون أن
تكون واعية له، لكن المخرج لا يظهره كذلك، فهو لا يصوره بل نعلم عنه..
بالتالي لا يظهره كفعل عنف بل كإيماءة رومانسية وحدث إعجازي يفضي الى شفاء
الضحية، ان الرغبة الجنسية تدفع به الى ممارسة هذا الفعل وهو يدفع حياته
ثمنا لهذه الرغبة دون أن يعلم بأنه أحياها بعد موت، المخرج بالأحرى لا
يدينه ولا يبرئ ساحته، وكأنه لا يريد منا أن نتخذ موقفا ضده ونكف عن
التعاطف معه هو يجعلنا نفهم حساسيته ورقة مشاعره تجاه من يحب، لذلك لم
يظهره كشخص شهواني أو عنيف، بل كشخص متوازن، يكرس ذاته للآخرين بإخلاص
وتفان.
الشخصيتان الرئيسيتان متناقضتان ومختلفتان فى مظاهر عديدة وبارزة: ماركو
رجل ذو خبرة وتجربة فى الحياة وفى العلاقات العاطفية، وهو قوي الشخصية لكنه
مرهف الحساسية الى حد أنه لا يخجل من دموعه، بمعنى أنه ذكوري الجسد، أنثوي
العاطفة.. أو بمعنى اصح الذكورة والأنوثة تتعايشان فى داخله بلا تعارض. أما
بنينو فهو ناقص التجربة، يبدو أشبه بطفل بملامحه وتصرفاته، ولا يقدر ان
يتواصل إلا عبر المخيلة وعلى الرغم من ذلك تتأسس بينهما صداقة عميقة وجميلة
وبالغة الحساسية.. وفى النهاية - بعد انتحار بنينو - ينتقل ماركو ليقيم فى
شقته ويتلصص - مثلما فعل صديقه - على أليسيا وهي تتدرب على الرقص، لكنه
يكون أكثر جسارة عندما يتعرف عليها فى النهاية لتبدأ بينهما علاقة حب.
الشخصيات تعبّر بشكل جميل ورقيق عن وحدتها وعن توقها الى الاتصال أنها
تعبّر عن مشاعرها الرهيفة - بإيقاع سلس وإيماءات رقيقة - على نحو صريح
ومكشوف الفيلم بدوره لا يدغدغ مشاعرنا، لا يتلاعب بحواسنا وأحاسيسنا، بل
يكشف لنا شخصياته وعلاقاتها بشفافية دون فرض وجهة نظر خاصة ان كثافة
العاطفة هنا متحدة مع شفافية الأسلوب حيث حركة الكاميرا المتدفقة بسلاسة
ونعومة، وعناصر الميلودراما تتمازج مع لمسات الدعابة.
لكن ما يبدو بسيطاً ومباشراً على السطح يتضح فى الغالب أنه مركب، فالسرد
يتحدى أي قراءة تبسيطية ولأن الفيلم يهتم بالمشاعر أكثر من الأفعال فانه
يقتضي من المتفرج تركيزاً فى التأمل والتأويل. ان الحبكة تقدم سلسلة مركبة
ومتعددة من الثنائيات.. ليس من خلال الشخصيات وحدها بل أيضاً الإحداث..
كمثال، يمكن قراءة الاستعراض الراقص فى بداية الفيلم كعالم مصغر لما سوف
نراه.
الفيلم في جوهره يتحدث عن العزلة، عن الرغبة والصداقة، من زاوية الرجل ومن
منظوره فهو الذي يرغب ويشتهي، وهو الذي يتعذب ويتألم بسبب هذا الاشتهاء،
ونتيجة غياب المرأة، نرى الرجلين يفصحان بحرية عن مشاعرهما، ويفشيان
دواخلهما أمام بعضهما البعض.. وهذا ما يكون صعباً أمام آخرين قد يسيئون فهم
أو تأويل حقيقة الكائن.. لذلك يلجآن الى الكبت، الى الكبح.. إما فيما
بينهما فأن الأمر أيسر بكثير.
الصداقة الذكورية هنا فى البؤرة.. يقول المخرج بيدرو المودوفار:(الفيلم هو
قصة صداقة بين رجلين.. هو عن العزلة، وعن النقاهة المديدة لجروح يحدثها
الولع أو الشغف.. إنه أيضا فيلم عن فقدان الاتصال بين الرجل والمرأة، عن
كيف ان المونولوجيات أمام شخص صامت يمكن ان تكون شكلاً فعالاً ومؤثراً من
أشكال الحوار انه عن الصمت بوصفة بلاغة الجسد.. عن السينما بوصفها الأداة
المثالية للعلاقات الشخصية وكيف ان السينما تكبح الزمن وتتخذ مسكناً فى
حيوات المتكلم والمستمع). |