النظام الحاكم يصف الزمن باعتباره "دائرة تدور على نحو لا
نهائي". إنه حاضر لا نهائي.. هنا أيضاً توكيد على الرؤية
السكونية للواقع، وإبعاد الفرد عن دراسة، أو مجرد التفكير في،
الإحتمالات البديلة، لأن ذلك يشكّل تهديداً للأشكال الراسخة
للسلطة.
ولأن النظام الحاكم واع لحقيقة أن الكاميرا أداة قادرة على
تسجيل وتوثيق الماضي، وأنها تمثّل الذاكرة التاريخية بامتياز،
فإنها تمنع مواطني ألفافيل من استخدامها.
في المجتمع
التكنولوجي المعاصر سنجد نقضاً أو نفياً للتاريخ.
وفيما يتنقّل التحري كوشن عبر المدينة كلها، ويجتاز المناطق
القاحلة، ملتقطاً الصور، ومتحرياً عن عمل المؤسسة التكنولوجية،
يتعيّن عليه أن يخفي مشاعره وأفكاره "الهدّامة".. إلى أن يتمكن
من العثور على العميل ديكسون، في أحد الفنادق، وهو في حالة
صحية سيئة، والذي يموت أثناء ممارسته الجنس مع إحدى "المغويات"
اللواتي تزدحم بهن المدينة.
الجانب القمعي المباشر من النظام يكشف نفسه في الأحوال التي
يتعامل فيها مع أولئك الذين لا يستطيعون الامتثال كلياً إلى
الأشكال المقبولة، المسلّم بها، من السلطة والمعرفة. النظام
يفرض على المواطنين التحرش بهؤلاء الخارجين أو المنشقين، الذين
لا ينسجمون، ومضايقتهم، ومحاولة دفعهم إلى الإنتحار، وهو
المنهج الذي يختاره النظام للتخلص من خصومه غير المرغوب فيهم.
عندما تخفق هذه المحاولة، يقوم النظام بتصفية المنشقين
وإعدامهم رمياً بالرصاص، أو الغرق، أو صعقهم بالكهرباء على نحو
مفاجئ بينما هم جالسون في صالة السينما مستغرقين في مشاهدة
فيلم ترفيهي.
السياسة التي يتبعها النظام لا تضمن السلوك المنطقي ولا اللغة
المتناقضة. النقيض من هذه الأيديولوجيا نجده في العاطفة والحب.
هكذا نرى العميل ديكسون يطلب من التحرّي كوشن أن ينقذ أولئك
الذين ينتحبون.
كوشن، متعمداً، ينتهك قوانين المدينة. يتعامل مع الآخرين
بفظاظة، يرفض محاولات "المغويات" لإغوائه، يتعارك مع حرّاس
الفندق. بعدئذ يركز جهوده على إسقاط ألفافيل والإطاحة
بدكتاتورية التكنولوجيا، فيثير شكوك المحيطين به ويؤجج مواقفهم
العدائية تجاهه.
عندما تأخذه ناتاشا إلى أبيها ليتعرّف عليه، يعرض عليه العالِم
أن ينضم إلى النخبة من التكنولوجيين العاملين لديه، ومقابل ذلك
سوف يحصل على المال والنساء، لكن كوشن يرفض العرض لأنه لا يريد
أن يكون مثل بقية سكان المدينة، ولا يريد أن يخضع نفسه لهيمنة
التكنولوجيا.
يسارع حرّاس الأب إلى اعتقاله، ويتولى ألفا 60 استجوابه. بعدها
يُسمح له بأن يأخذ جولة في المركز الذي يديره الكومبيوتر،
وهناك يكتشف بأن العالِم ينوي إعلان الحرب على المناطق النائية
أو ما تُسمى الأراضي الأجنبية.
من جهة أخرى، هو يقع في غرام ناتاشا، التي يراها مختلفة عن
الآخرين، وتحمل بذور العاطفة والمشاعر بداخلها، (عندما يتعرض
كوشن للضرب والاعتقال، تبكي ناتاشا) لذلك يسعى إلى
نزع الغشاوة عن عينيها لرؤية الواقع من منظور آخر، وإلى
تحريرها من هذا المناخ القمعي. بواسطة طاقة الشعر والحب هو
ينقذها من عالمها الذي، على نحو عدائي، فصل العواطف والمشاعر
عن اللغة وجعلها ميكانيكية واعتباطية. وهو يعلّمها معنى كلمات
مثل الحب. فالحب يعطي للحياة معنى وغاية.
إن اللغة التي يقترحها الفيلم، كشكل من أشكال المقاومة، هي
اللغة الشعرية التي نجدها في قصيدة بول أيلوار "عاصمة الألم".
لغة السوريالية المضادة للعقلانية. إنه إظهار للتناغم الذي قد
ينتج إذا استطاعت الصورة واللغة أن تتزامن في لحظةٍ من التعبير
الملائم.
إن اكتشاف ناتاشا للحب يكشف لها عالماً من العواطف
واللاعقلانية التي لم تعرف أبداً أنه موجود، فقد كانت طوال
الوقت سجينة أيديولوجيا قمعية، وحان الوقت لأن تتحرر.
في النهاية، يتمكن كوشن من تدمير الآلة بإرباكها وتشويشها من
خلال طرح لغز متناقض ظاهرياً، يعلم سلفاً أنها لن تستطيع فهمه
أو الإجابة عليه، وبالتالي يفضي بها إلى التدمير الذاتي بجعلها
ضحية للشك. الإجابة الصحيحة للغز هي "السعادة".
بعدئذ ينجح في اختراق مقر العالِم واغتياله، ثم الهروب والعودة
إلى الوطن برفقة ناتاشا، بينما المدينة وسكانها ينحدرون نحو
الإرتباك والتشوش، ثم الانحلال والنسيان.
وينتهي الفيلم بإعادة توكيد لغة العاطفة، في مشهد يضم ناتاشا
وكوشن الذي يقود سيارته، حيث تحاول ناتاشا جاهدةً، وبمشقة
فائقة، أن تتذكر كيف ينبغي أن تعبّر عن شعورها. إنها تناضل من
أجل إيجاد الكلمات التي سوف تنقذها، حتى تتوصّل إليها أخيراً
وتقول تلك العبارة المحظورة: "أنا أحبك". كوشن لا يستجيب، مع
ذلك هي تبتسم في لقطة قريبة ينتهي بها الفيلم.
أغلب أحداث الفيلم، المنتج بميزانية متواضعة وتكاليف منخفضة،
تدور في مواقع داخلية، وفي أجواء ليلية.
ورغم أن الأحداث تدور في المستقبل، إلا أن جودار يصور فيلمه في
المواقع الحقيقية في باريس الستينيات، الضواحي الصقيلة
والمناطق التجارية، موظفاً على نحو مقنع المباني الحديثة
آنذاك، من دون اللجوء إلى مؤثرات بصرية خاصة، أو حيل بصرية، أو
تصميم مناظر مصطنعة، للإيحاء بمدينة المستقبل.. ألفافيل.
من خلال استخدام أسلوب شديد التباين في الإضاءة والأجواء،
واختيار زوايا الكاميرا، يحوّل جودار باريس العصرية إلى مدينة
مجهولة الإسم، يمكن أن تكون أي مدينة بمواقعها المضاءة
بالنيون، ومبانيها الشاهقة، وطرقاتها العامة التي لا نهاية
لها. ولأن أغلب المشاهد مصوّرة في الليل، فإن المواقع تبدو
قاتمة أو معتمة، وأسطحها وأشكالها غير مرئية بوضوح. وبدلاً من
إظهار المباني كاملة، فإن جودار يكتفي بالأجزاء والعناصر
الأساسية.
طوال الفيلم، يُدخل جودار، على نحو متكرر، لقطات لصور ورموز
بصرية بين ثنايا السرد من أجل توكيد البنى الأساسية
للأيديولوجيا التي تحدد وجود المدينة (الفافيل)، المعادية
لحرية الإنسان وإرادته ورغباته، والتي تخنق كل تجليات التفكير
الحر وحرية الإرادة وحق تقرير المصير، وتدمر أي إمكانية لحق
المرء في الإختيار.
في أفلامه السابقة، عالج جودار موضوعاته ضمن تقاليد الأنواع
المعروفة في سينما هوليوود (لكن من دون أن ينتج عملاً تقليدياً
يندرج ضمن النوعية الرائجة): لفيلمه الأول "على آخر نفس"
(1960) لجأ إلى النوع البوليسي، ولفيلمه "المرأة هي المرأة"
(1961) النوع الموسيقيّ، ولفيلمه "الجنود الرماة"
les carabiniers
(1963) النوع الحربي.
أما هنا، في "ألفافيل"، فإن جودار يستخدم مزيجاُ من الأنواع
المهيمنة في السينما السائدة، حيث نجد عناصر من نوعية أفلام
التحري (خصوصاً ما تُسمى الأفلام السوداء
film noir)
وأفلام الخيال العلمي وأفلام الجريمة، على الطريقة
الهوليوودية، لكنه يستخدم ذلك الهجين بطريقة مبتكرة، رؤيوية،
شعرية، بالغة الحيوية.. مبدعاً أحد أكثر الأعمال أهمية في مجال
الكشف عن "الشمولية (التوتاليتارية) التكنولوجية"، من خلال
رؤية هجائية ونقد إجتماعي ومجاز سياسي. وعبر إشارات تاريخية
ونصوص ثقافية.
المتابع لأفلام جودار، بالذات الأعمال المبكرة، يدرك أن القصة
التي يرتكز عليها الفيلم ما هي إلا ذريعة لاستقصاءات وتحريّات
يقوم بها جودار لتشكيلة من القضايا الفنية والفلسفية
والسياسية، من ضمنها طبيعة ووظيفة الفن، قوة اللغة، وعلاقة
الأيديولوجيا والثقافة. لهذا السبب سوف يتخلى جودار لاحقاً عن
السرد لصالح عناصر أكثر تجريبية.
الفيلم أخاذ بصرياً صوّره ببراعة، وعلى نحو جميل، المبدع راؤل
كوتار، بالأسود والأبيض. |