"فتاة تعود وحدها إلى البيت في الليل"
A Girl Walks Home Alone at Night
(2014) هو أول أفلام المخرجة
والكاتبة الإيرانية أنا ليلي أميربور
Ana Lily
Amirpour،
الإيرانية الأصل، البريطانية المولد، الأميركية
النشأة. والتي درست علم الأحياء (البيولوجيا) لمدة
سنة، ثم تحوّلت لدراسة الفن، والتحقت بمعهد السينما
UCLA.
بعد ذلك حققت أفلاماً قصيرة، وكتبت نصوصاً جرافيكية.
صوّرت أميربور هذا الفيلم – الناطق بالفارسية - في
كاليفورنيا، جاعلة الأحداث تدور في موقع إيراني مفترض،
متخيّل، مع ممثلين إيرانيين.
تقول المخرجة: "إيران الفيلم ليست هي إيران الواقع.
لقد أردت أن أصوّر بلدة إيرانية تنتمي إلى الحكاية
الخرافية.. مثلما تمثّل جوثام (مدينة باتمان) نيويورك.
إيران كما تبدو في القصص الهزلية".
لقد أصرّت المخرجة على استخدام اللغة الفارسية في
الحوار كوسيلة لإظهار جذورها الثقافية، على الرغم من
رجاء المستثمرين بأن تستخدم اللغة الانجليزية.
تقول أميربور: "في صغري، أردت أن أكون أميركية، مثل
أصدقائي الأميركان البيض، غير أني إيرانية وثقافتي
راسخة وقوية جداً، وذات حضور غامر في حياتي. كيفية
تفسير ذلك هو جزء مما تكونه، من هويتك".
من المعروف، بشكل عام، أن حصول المخرج على تمويلٍ
لفيلمه الطويل الأول هو أمر صعب للغاية، فأنت تطلب
المال من أشخاص أو جهات يبحثون عن أسباب ومبررات
تجعلهم يمنحونك المال. حتى لو كان السيناريو عظيماً،
فإن الآخرين يحاولون أن يقللوا من حجم المجازفة.
وحقيقة أنك لم تصنع من قبل فيلماً يعقّد الأمور أكثر،
ويجعل من تتوجّه إليه لدعم مشروعك يتردّد في اتخاذ
قرار حاسم، وربما يرتاب في مشروعك. لذلك تقول أميربور
"ونحن لم نرد أن ننتظر. أردنا أن تكون لنا السيطرة
الكاملة، وأن نستخدم الموارد التي لدينا. أن نستفيد من
العناصر الفنية التي وافقت على العمل معنا، من المواقع
التي اخترناها، من الممثلين المتوفرين. إنك تحتاج إلى
منبر يستقطب كل الذين يؤمنون بك ويدعمون مشروعك
وأحلامك".
المخرجة، في أحد حواراتها، وصفت فيلمها بأنه "حكاية
خرافية إيرانية عن مصاصة دماء، مصوّرة بالأسود
والأبيض".
وهي تنظر إلى مصاصي الدماء بوصفهم مخلوقات "وحيدة
جداً، رومانتيكية جداً، وشهوانية جداً. وهناك ذلك
الشعور بالذنب. لمصاصي الدماء ثقل الأبدية. إنهم
يشملون الزمن وتاريخ الإنسانية. مصاص الدماء متعدّد
الشكل والهوية: قاتل بالتسلسل، رومانتيكي، مؤرخ،
متعاطي للمخدرات.. هو يختزل في ذاته كل هذه الشخصيات".
النتيجة أننا أمام فيلم يستمد مصادره وعناصره من النوع
الغرائبي والفنتازي في أجوائه، وأفلام الرعب في رسم
شخصياته، والأفلام البوليسية الأميركية (أو ما يعرف
بسينما نوار، أي السينما السوداء) من ناحية التصوير
وتوظيف الإضاءة. بالتالي يصعب تصنيف الفيلم.. بالأحرى،
الفيلم يتحدى التصنيف. تقول المخرجة: "الفيلم أشبه
بمرآة أمامك، وما تراه في الفيلم هو انعكاس لنفسك".
لقد استطاعت المخرجة، عبر كل هذه التأثرات
والاستلهامات المتنوعة، مع نزوع تجريبي جليّ في الطابع
والأسلوب، أن تتحكم ببراعة في مادتها وفي النسيج الذي
به حافظت على عناصرها الفنية من الانفلات والتفكك.
ونجحت في خلق وحدة كاملة، فريدة وآسرة.
تقول المخرجة: "لست مهتمة بالعالم الواقعي. أنا مهتمة
بالسحر، بالمغامرة، واعتقد أن العناصر الفنتازية تصبح
مدخلاً نحو العديد من الأشياء. مثلما الحلم الذي
يستطيع أن يكون أشياء كثيرة. يمكن للحلم أن يحتوي على
قاتل بالتسلسل، أو يمكن أن تكون القاتل في حلمك، أو
هناك كلب مستذئب عملاق يطاردك في الشارع، ثم تستقل
سيارة أجرة، وتكتشف أن أمك هي التي تسوق السيارة.
الفيلم، كما الحلم، يمكن أن يكون أي شيء، وهذا هو
الممتع والرائع في العمل السينمائي".
إذن هي لا تنظر إلى الفيلم بوصفه فيلم رعب عن مصاصي
الدماء، إنما هو، على حد تعبيرها "يقترب من الحلم،
بالأحرى هو نتاج حلم".
الفيلم معدّ عن رواية مصوّرة (جرافيك) كتبتها أميربور
نفسها، وقد ساهم في إنتاجه الممثل الأميركي إليجا وود.
فكرة الفيلم خطرت للمخرجة أثناء تصويرها لفيلم قصير.
في الموقع رأت ممثلة ترتدي الشادور، فطلبت منها أن
تجربه. عندما ارتدت الشادور ونظرت إلى المرآة، تخيلت
نفسها مصاصة دماء إيرانية. وسرعان ما تصوّرت فيلماً
قصيراً بالأسود والأبيض، بلا حوار، وبحبكة بسيطة: فتاة
إيرانية تعود ليلاً إلى بيتها، وحيدةً، ويبدأ رجل غامض
في ملاحقتها حتى يصلان إلى مبنى، وهناك تقتله. ومن هذه
الخطوط الأولية تولّد فيلمها الطويل.
هذا الفيلم يقيم جسراً بين الشرق والغرب، بين المواقع
الأميركية والثقافة الإيرانية، بين القدامة والحداثة،
الأسطورة واليومي، بين أفلام الرعب والأفلام الفنية
غير الرائجة.
في ما يتصل بالتأثرات، يشير عدد من النقاد إلى تأثر
المخرجة الواضح بالكتب الهزلية
comic،
وبثقافة البوب الأميركية، وأفلام جيم جارموش وديفيد
لينش، من دون أن ينفي ذلك الصوت المتفرد، المتميّز،
الذي كشفت عنه أميربور بوضوح مما أكسبها ثناء النقاد
وترحيبهم بتجربتها الأولى بوصفها عملاً فنياً جميلاً،
مدهشاً، وجذاباً.
العنوان يوحي بعكس ما نشاهده، فهو يوحي بأننا سنكون
أمام فتاة مسكينة، خائفة، قد تكون ضحية لأي متحرش أو
لص أو حتى قاتل. ولن يخطر ببالنا أنها هي التي ستكون
مصدر الخطر، المهدّدة والمخيفة، والتي تخرج ليلاً
لتطارد ضحاياها وتمتص دماءهم.
الأحداث تدور في بلدة إيرانية متخيلة، صغيرة وهادئة
جداً، تدعى "المدينة السيئة".. بيوتها آيلة للسقوط،
ومأهولة بشخصيات تضم المومسات والقوادين ومتعاطي
المخدرات وجثث بشرية مرمية في ما يشبه الخندق ولا أحد
يتقدّم للتعرّف عليها ودفنها، ولا توجد جهة أمنية
تحقّق في ما يحدث. كما أن البلدة مسكونة بحضور شيطاني
يتمثّل في فتاة جميلة
ترتدي الشادور والحجاب (تؤدي دورها شيلا فاند، التي
شاهدناها من قبل في فيلم
Argo)
تجوب المناطق ليلاً، إما سائرة على قدميها أو على
مزلجة ذات عجلات (سلبتها من طفل)، لتنتقي ضحاياها (من
الأشرار) وتمتص دماءهم.
من شخصيات الفيلم الرئيسية، الشاب أراش الذي يمارس
العديد من المهن الصغيرة. وهو قليل الكلام، يتجول في
أنحاء البلدة الخالية تقريباً ومعه قطته. كما أنه
يعتني بوالده حسين، المدمن على المخدرات. الاثنان
يتعرّضان للمضايقة على يد قواد ومروّج مخدرات (سعيد)
يطالبهما بتسديد ديونهما له، وينتزع منهما سيارة أراش
التي يعشقها. كما أن سعيد هذا يسئ معاملة المومس التي
تتعرض باستمرار لتحرّشات حسين.
مصاصة الدماء، الهادئة والتي يخلو وجهها من أي انفعال،
تلتقي بسعيد الذي يأخذها إلى بيته، غير أنها تهاجمه
وتقضي عليه. يدخل أراش بيت سعيد ليجده مقتولاً، يأخذ
كمية من المخدرات لبيعها لحسابه. الملاحظ هنا غياب
القانون ورجاله الذين من المفترض أن يفرضوا الأمن.
بالتالي نحن في مكان لا يحكمه القانون.
في حفلة هالوين، أراش يرتدي زي دراكيولا، ويسمي نفسه
دراكيولا.
أثناء عودته تظهر أمامه مصاصة الدماء وتأخذه إلى
مسكنها، لكن بدلاً من أن تهاجمه فإنها تنجذب إليه،
وتنشأ بينهما علاقة عاطفية معقّدة، دون أن يدرك
حقيقتها. هذه العلاقة تظهر الجانب الإنساني والعاطفي
في شخصية مصاصة الدماء.
مثل بقية أهالي البلدة، مصاصة الدماء تعيش في وحدة
مطلقة. بعد كل مغامرة لها، كل تجوال ليلي، تعود إلى
منزلها، ترقص على أنغام موسيقى البوب، وتقضي أمسياتها
وحيدة. نحن لا نعرف شيئاً عنها، عن ماضيها وتاريخها
(كذلك الحال مع الشخصيات الأخرى). لكن نكتشف جانباً من
الخير في طبيعتها العدوانية، إذ أنها تحجم عن إيذاء
المضطَهدين من الجنسين، بل أنها تهدّد صبياً بإيذائه
إن ارتكب فعلاً شريراً، وتحذّره من أنها ستراقب سلوكه
طوال حياته.
أجواء الفيلم مخيفة بعض الشيء، يعزّز ذلك التصوير
بالأسود والأبيض (تحت إدارة المصور لايلي فنسنت)،
لكنها ليست قاتمة وكئيبة. كما يعزّز الأسود والأبيض،
بإمكانياته البصرية التعبيرية والعاطفية، الأجواء
الشبيهة بالحلم.
الفيلم لا يحتوي على الكثير من الأحداث الدراماتيكية
المثيرة. الحوارات قليلة، الإيقاع بطئ. مع استخدام غير
محدود للقطات الطويلة المتواصلة.
مع ذلك، يبدو جلياً تحكّم المخرجة في مادتها وفي خلق
الأجواء الملائمة، وفي الإيقاع. وقد أبدت مهارة في
توظيف العناصر الفنية، خصوصاً الضوء والظل، واستخدامها
للموسيقى كوسيلة للتعبير عن مشاعر الشخصيات. في تصريح
للمخرجة تقول أنها كانت تعدّ الموسيقى في محاذاة كتابة
السيناريو، وأن كل مشارك في الفيلم كان يحتفظ بشريط
للموسيقى، يستمع إليه باستمرار قبل مباشرة التصوير.
الأداء جيد، فمع قلة الحوارات كان على الممثلين
الاعتماد على تعابير الوجه ولغة الجسد. وقد نجحت
الممثلة شيلا فاند في أداء شخصية مركّبة، ومثيرة
للاهتمام، وقدّمت لنا، عبر أداء بارع وحاذق، شخصية
مخيفة وفي الوقت ذاته تثير التعاطف.
هذا عمل يتجاور فيه العنصر الغرائبي، والمخيف،
والهزلي، لكن من دون أن ينتمي إلى أي نوع معيّن.
|