(في ما يلي نص الحوار
الذي أجراه جاريد رابفوغل، مع كاي مينغ ليانغ، ونشر في مجلة
Cineaste، خريف 2004)
·
ما هي أهمية ومغزى فيلم كينج هُوْ "نزل التنين" بالنسبة لك؟
* هناك مستويات عديدة بهذا الشأن. قبل
كل شيء، هذا الفيلم من نوع الفنون القتالية "الكونغ فو" التي
مارست تأثيراً كبيراً عليّ وأنا طفل. كنت في العاشرة تقريباً،
وكنت أميل إلى محاكاة هذه الأفلام بلعب المبارزة بالسيف على
طريقة الكونغ فو مع أشقائي وشقيقاتي ورفاقي. المستوى الثاني
يتصل بالممثلين في "نزل التنين"، خصوصاً مياو تيين الذي عمل
معي في عدد من أفلامي.
·
واضح أنه ليست هناك أي صلة جليّة بين أفلامك وأفلام كينج هوْ،
لكن هل هناك صلة مقنّعة، خفية؟
* لا، ليس هناك أي تأثير مباشر. عندما
أحقق الأفلام، لا أفكر في أفلام كينج هوْ. لكن مع فيلمي
"وداعاً نزل التنين" لابد أن هناك علاقة ما. كينج هوْ كان
المخرج المفضل لدي، خصوصاً لأنه كان بارعاً جداً في توظيف عيون
الممثلين للتعبير عن شيء ما.
·
ثمة إحساس بحنين عميق لـ "نزل التنين" والأغاني الشعبية.
الحنين إلى الثقافة الشعبية نجده حاضراً في أعمالك بشكل عام،
وتحديداً في فيلم "الثقب". ما هي العلاقة بين تحقيقك للفيلم
ومشاعرك تجاه تلك الأفلام والأغاني القديمة؟
* بالنسبة لأشخاص من جيلي، والذين
نشأوا في جنوب شرقي آسيا، ومن ضمنها تايوان، ذلك النوع من
الثقافة الشعبية، في الأفلام والموسيقى معاً، كان له تأثير
هائل علينا. ذلك شيء عشناه على نحو عميق جداً. الموسيقى
الشعبية التي كانت تأتي من هونغ كونغ كان لها تأثيراً أعمق
علينا لأنها شملت الأفلام.
·
ذلك يوحي بفكرة توجيه تحية تقدير إلى تلك الأفلام، مع إقرار
بأهميتها بالنسبة إليك، لكن ضمن أسلوبك الخاص. غير أن في فيلمك
"كم الساعة هناك؟"، والذي هو أيضاً عن الأفلام إلى مدى معيّن،
هو مندمج أكثر.. إنه عن عشق الأفلام، لكن الأفلام هناك طريقة
بها يرتبط بطل الفيلم بالمرأة. كل الأفلام هي عن هذه الرغبة في
الارتباط، عن الأفراد الذين يحاولون الاتصال في ما بينهم.
الأفلام تعمل كشكل من أشكال الارتباط.
*ثمة شيء غريب يتصل بالأفلام ، إذ ما
إن تتحقق حتى تكون مكتملة، تبدو كأنها عالقة في لحظة من
الماضي، كما لو أنها نوع من عالم كامل متمتع باكتفاء ذاتي. على
سبيل المثال، مع أن بعض الممثلين فارقوا الحياة منذ زمن طويل،
إلا أنك دائماً تشعر كما لو أنهم لا يزالون على قيد الحياة،
كما نراهم على الشاشة.
في ما يتعلق بفيلمي "كم الساعة هناك؟"،
فقد استخدمت جزءاً من فيلم فرانسوا تروفو "الأربعمائة ضربة"
الذي مثّل فيه جان بيير ليو (عندما كان صبياً)، وهو لا يزال
على قيد الحياة. أردت أن أصور الفيلم في باريس، ليست باريس كما
هي في الوقت الراهن، لكن باريس تلك (في العام 1959)، التي ظهرت
في "الأربعمائة ضربة" والتي لا تزال موجودة في أذهاننا. أردت
أن أرى أين يوجد جان بيير ليو الآن. حالما رأيته شعرت أنني
أعرفه منذ زمن طويل، كما لو كنا أصدقاء حميمين. ومع أنه شاخ
قليلاً، وبعض التجاعيد غزت وجهه، إلا أن تعبيراته وإيماءاته هي
نفسها، لذلك يظل هو نفسه ليو الذي أتذكره. الجزء المطمور على
نحو عميق في ذاكرتي، عن ما تكونه باريس في ذلك الفيلم، نجده في
النهاية، عندما يرغب الطفل في الهرب بعيداً لكنه يقع في قبضة
الشرطة، فينخرط في البكاء. هذه اللقطة، بالنسبة لي، تمثّل
خلاصة لباريس.
·
أحد الأشياء الأخاذة بشأن أفلامك يكمن في المنظور المستقل،
المنفصل، حيث أن الشخصيات تحاول، على نحو يائس، الاتصال في ما
بينها، بينما نحن في الصالة نرى أنها في الواقع قريبة من بعضها
وهي لا تعلم. كمثال، هناك مشهد في فيلمك "يحيا الحب" نرى فيه
المرأة تعود إلى شقتها، ثم تستلقي على السرير وتبكي، شاعرة
بالوحدة الشديدة، بينما الرجل يخرج زاحفاً من تحت السرير. إنها
تشعر بالوحدة، غير مدركة أن شخصاً هناك لا يبعد عنها سوى بضع
بوصات.
* الناس غالباً لا يستطيعون رؤية أي
نوع من المسافة تفصل بعضهم عن بعض. يتملك المرء غالباً شعور
بأن عائلته المباشرة هي في الواقع بعيدة جداً عنه، وأنه بين
الأصدقاء يشعر باتصال حميمي، وبقرب من الآخرين. لذلك في
أفلامي، أميل أن يكون لديّ هذا التناقض الظاهري حيث المسافة
الفيزيائية بين الشخصيات هي في الواقع قريبة جداً، لكن العلاقة
بينها بعيدة جداً. في "يحيا الحب" يلتقي الرجل والمرأة ذات
ليلة. إنها علاقة حميمية جداً من جهة، لكن من جهة أخرى،
المشكلة الجليّة تكمن في أن العلاقة بعيدة جداً. لا يبدو
عليهما أنهما قادران على بناء علاقة حميمة وقريبة، وليس
بوسعهما قهر تلك المسافة وتأسيس حميمية حقيقية. إذن هذا شيء
أفعله لكي أجعل الجمهور يدرك هذا التناقض الظاهري، ولكي يفكر
في نوع العلاقة التي يحاول الاثنان معاً تأسيسها وترسيخها.
·
من الجليّ أن ثمة مظهراً عالمياً لهذه العلاقة، لكن هل هناك
أيضاً شيء تايواني على وجه التخصيص، شيء خاص ومحدد ثقافياً؟
* عندما ذهبت لأول مرّة إلى تايوان،
حين كنت في العشرين، اختبرت ضرباً من الصدمة الثقافية، لأنني
من ماليزيا. أبي، الذي كان جاداً وصارماً جداً، شعر بسعادة
بالغة لانتقالي إلى هناك، لأن تايوان في تلك الفترة كانت تحت
الحكم العرفي، وأبي الذي لم تكن تعجبه ملابسنا الغريبة والشعر
الطويل، وجدها فرصة لتقويم سلوكنا في ظل سلطة حازمة. لكن ما لم
يعرفه أبي أن خلال سنتين تقريباً من إقامتي في تايوان، شهدت
البلاد انفتاحاً بعد التخلص من الحكم العرفي، ثم سرعان ما
أصبحت تايوان غنية جداً، وصار التلفزيون يعرض تشكيلة من
الأعمال العنيفة والمثيرة للجدل.
بين الحين والآخر، عندما أشعر بنوع من
المغايرة وعدم الانسجام مع تايوان، كنت أذهب إلى ماليزيا.
وعندما أعود إلى تايوان أشعر أن ثمة نوعاً من التحول والتغيّر
لا يزال قائماً.
الأفلام التي أحققها هي حقاً عن
الحياة، حياتي خصوصاً، ورؤيتي للحياة. شيئاً فشيئاً بدأت
أفلامي تتخلى عن البيئة التايوانية المباشرة، بالتالي هي ليست
عن الواقع بذلك المعنى.
·
فيلمك "كم الساعة هناك؟" كان متميزاً لكونه يعد امتداداً
للأفلام السابقة، وتدور أحداثه جزئياً في باريس. عالمه أكثر
رحابةً. أما "وداعاً نزل التنين" فإنه يتحرك في الاتجاه
المعاكس. إنه أكثر تقشفاً، بحوارات أقل. هل هذا هو الاتجاه
الذي سوف تسلكه أم أنه مجرد شيء أردت أن تجربه؟
* الفيلمان في الواقع مختلفان تماماً.
"كم الساعة هناك" فيلم عن الموت، بينما "وداعاً نزل التنين" هو
فيلم عن الذاكرة. أظن أن للموت علاقة بالزمن والمكان. بعد "كم
الساعة هناك؟" حققت فيلماً قصيراً عن اختفاء شيء ما. في ذلك
الحين، بدأت أشعر بالقلق من كون الأشياء تشيخ وتموت.. كمثال
الذكريات أو الأشياء أو حتى نفسي. لقد أدركت بأن الشخص إذا ظل
عالقاً في الماضي أو يعيش في الماضي، لنقل في سنوات الستينيات،
كما هو الحال معي في أغلب الأحوال، فإن هذا يعني أنني يوماً ما
سوف أتلاشى واختفي أيضاً. هكذا بدأت أصبح قلقاً بشأن هذا،
وهكذا تطور موضوع الفيلم.
·
"وداعاً نزل التنين" يبدو متطرفاً جداً في ما يتصل بالقصة. إنه
يتخذ طابعاً طليعياً في تجنبه خلق الشخصية والحوار. هل أنت
مهتم بتوسيع تلك التخوم؟
* أعتقد أن لفيلم "وداعاً نزل التنين"
منطق داخلي قوي جداً. إنه في الواقع فيلم عن ذاكرة صالة
السينما، الصالة التي هي "شخصية" رئيسية في الفيلم. عندما نذهب
إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم ما، فإن هذه الصالة تصبح ضرباً
من المكان السرمدي، والزمن يكون في حالة تعطل أو توقف مؤقت.
لذلك فإن ذكريات هذه الصالة هي حقاً نوع من الشظايا، تماماً
مثلما ترى أجزاء من "نزل التنين". الصالة تتذكر تلك الأوقات
التي فيها يجتمع الكثيرون لمشاهدة الفيلم، أو حين لا يرتادها
غير عدد قليل من المشاهدين. هناك ذكريات تتعلق بالأفراد الذين
يأكلون في الصالة، خصوصاً تناول بذور البطيخ الأحمر، الشيء
الذي يتجذر عميقاً جداً في ذاكرة الجمهور الصيني.
لو أننا فكرنا في الفيلم بوصفه الذاكرة
الكلية لصالة السينما، لرأينا أن كل شيء سوف يجتمع معاً في
النهاية. على سبيل المثال، بعد أن ينتهي الفيلم المعروض (نزل
التنين) والمرأة العاملة تضيء المكان، ويتلاشي الرجلان
العجوزان، فإننا في ما بعد نرى الرجلين ثانيةً في الرواق، في
الخارج. في الواقع هذه ليست مسألة ما إذا كانا حاضريْن أم
غائبيْن، بل بالأحرى أن هذه تشكيلة من أجزاء من الذاكرة.
إني أستخدم بعضاً من المواد القديمة
لأنني، بطريقة أو بأخرى، غير راضٍ عن العالم الحديث. في
الواقع، لا أميل كثيراً إلى العالم في حالته الراهنة، لكنني
أحب تلك الأشياء المتصلة بالماضي. عندما صوّرت مشهد المرأة وهي
تتناول بذور البطيخ، ظننت أنني أريد أن أصور هذه الذكرى الخاصة
بي عن أفراد يتناولون بذور البطيخ. بعد أن يغادر الرجل
الياباني، شعرت بأن ذلك كافٍ، وكان من المفترض أن أوقف التصوير
عند ذلك الموضع، لكنني لم أستطع أن أفعل ذلك، لهذا تركت
الكاميرا تستمر في التصوير لأن الشعور الذي حاولت الإمساك به
لم يطلع بعد إلى السطح. وذلك الإحساس الذي لا يقاوَم، والذي
ليس له علاقة حقيقية بواقع تناول بذور البطيخ بل بحقيقة أن هذا
الفعل، بالنسبة للشعب الصيني، يمثّل ذكرى عميقة جداً، حالة
يتذكرها كل فرد. وثمة ضرب من الحزن يتصل بذلك. الناس لم يعودوا
يتناولون بذور البطيخ كثيراً في صالات السينما. وفي المستقبل،
ربما لا أحد سيفعل ذلك.
·
في ما يتصل بتوسيع التخوم، تلك اللقطة التي فيها تضيء العاملة
المكان تبدو مدهشة. اللقطة التي تُظهر الصالة الخالية تستمر
لفترة طويلة جداً. اللقطة مأخوذة بطريقتك الخاصة المعتادة، لكن
في آخر الأمر أنت تتخطى ذلك، تصبح واعياً لحقيقة أنها تستمر
بلا توقف، وتبدأ في النظر إلى اللقطة بطريقة مختلفة، أعمق من
المعتاد، بمستويات متزايدة من نفاذ البصيرة.
* أشعر أن الصورة السينمائية أشبه
بمرآة. حين كنت أصور ذلك، لم أدرك إلا متأخراً أن الإحساس الذي
كنت أسعى إليه قد انبثق أخيراً. لم أستطع أن أجبر نفسي على
إنهاء التصوير. في الواقع، ظننت أن اللقطة سوف تستمر فترة
أطول، ربما خمس دقائق إضافية، عندما التفتْ نحوي المصور
وأخبرني أن الشريط قد نفد. عندئذ اضطررت إلى إنهاء التصوير.
أنا لم أرد فقط أن أعرض مكاناً مهجوراً، بل أردت أيضاً أن
أتوصل إلى هذا الإحساس بأن الأشياء تختفي. أردت أن أعطي
الجمهور الفرصة ليس فقط للتفكير بشأن كيفية اختفاء الأشياء،
مثل صالة السينما التي سوف تغلق أبوابها ومن ثم سوف تتلاشى في
آخر الأمر، بل أيضاً عن التغيير في الحياة. لماذا وكيف تتغير
الحياة، وما إذا هناك امكانية لأن تتغير الحياة نحو الأفضل.
·
حين أشاهد أفلامك، غالباً ما أتذكر ّ صمويل بيكيت، حيث هناك
تلك المجازات المنظمة والتي هي قاتمة ويائسة، لكنها أيضاً
هزلية. ثمة توازن بين الكوميديا والقنوط..
* أفلامي هي حقاً عن رموز أو مجازات،
وليست عن الواقع على الإطلاق، حتى لو كان الفيلم يحتوي الكثير
من التفاصيل الواقعية، والفعاليات اليومية. نعم، أنا أيضاً
أعتقد أن الحياة عبثية إلى حد ما، وإننا نقوم بأمور عبثية ولا
معقولة. على سبيل المثال، ثمة ما هو عبثي بشأن المهرجانات
السينمائية، مع ذلك نحن نستمر في إقامتها. في الحقيقة، كلما
حققت أفلامي بطريقة واقعية، بدا مظهرها عبثياً أكثر. ثمة شيء
عبثي ومثير للضحك بشأن الطريقة التي يتصرف بها الناس في
الواقع، لهذا السبب عندما يشاهد الجمهور أفلامي فإن الكثير
منهم يضحكون، لأنها واقعية جداً، وبالتالي فإن الحالات العبثية
تتجلى. أظن أن السبب الذي يجعل الحياة عبثية جداً، والذي
يجعلنا نستمر في التصرّف بتلك الطرق العبثية، هو أننا لا نفتش
داخل أنفسنا عما نبحث عنه. إننا نحاول دائماً أن نجد الشيء
خارج أنفسنا، ولم نكن قادرين على إيجاد أي شيء مستقر أو ثابت
وراسخ، ولهذا السبب أقول أن الأفلام هي عن رموز.
·
الممثل لي كانج شينغ يعد طرفاً حاسماً في أفلامك، وقد شارك في
معظمها.. كيف عثرت عليه؟ وما هو الدور الذي يلعبه في عملية صنع
الأفلام؟
* التقيت به للمرة الأولى في العام
1991، حين كنت أعمل في برنامج تلفزيوني. كنت وقتذاك أبحث عن من
يجسد الفتى الشرير. أجريت لقاءات مع العديد من الشباب ولم أجد
من يقنعني، حتى تصادف أن رأيت (لي) يوماً في الشارع وسرعان ما
لفت نظري. ألقيت عليه التحية وسألته إذا كان يرغب في المشاركة
في عرض تلفزيوني. جاء إلى مكتبي، وكان يبدو لي مناسباً. غير
أنني في الأيام الأولى شعرت بالندم لاختياره ذلك لأنه كان
بطيئاً جداً وغير طبيعي في حركته وردود أفعاله. بصبر نافد
سألته: هل يمكن أن تكون طبيعياً بعض الشيء؟.. فقال لي: لكن هذه
هي طبيعتي.
تفاجأت. لقد جعلني أدرك الخطأ الذي
نرتكبه نحن المخرجين في التعامل مع الممثلين. على الأرجح لدينا
جميعاً هذه الأفكار المتصورة سلفاً بشأن كيف ينبغي أن تكون
إيقاعات الحركة، وكيف يجب أن يتصرّف الأفراد. لقد أدركت أن كل
شخص يتصرف بطريقة مختلفة، في إيقاع مختلف. منذ تلك اللحظة،
شعرت بأنني قادر على قبول الطريقة التي يؤدي بها، ومنذ ذلك
الحين عملنا معاً على نحو متواصل.
الممثلون العاملون معي يفهمون على نحو
عميق جداً كيف أريدهم أن يعملوا. إني أمنحهم وقتاً طويلاً
للعمل على مشهد ما أو لتأدية حركة ما ببطء شديد لكي يدعوا
الأحاسيس تتجلى تدريجياً. |