كينجي ميزوجوشي هو واحد من المخرجين الثلاثة الكبار في
العصر الذهبي للسينما اليابانية، ومع ياسوجيرو أوزو
وأكيرا كوروساوا يمثل هؤلاء الدعامة الرئيسية لسينما
أبدعت روائعها الكلاسيكية منذ الأربعينيات وحتى
الستينيات.
ولد ميزوجوشي في 1898، ونشأ ضمن عائلة من الطبقة
المتوسطة في مقاطعة هونغو بطوكيو. كان في السابعة من
عمره عندما وقعت حادثتان ربما لعبتا دوراً محورياً
بالغ الأهمية في نوعية الأفلام التي سوف يحققها
مستقبلاً. في الحادثة الأولى، ثروة عائلته أصيبت بنكسة
عندما قام الأب، الطموح أكثر مما ينبغي، بتبديد أموال
العائلة في مشروع تجاري فاشل، مما أدى إلى انتقالهم
إلى منطقة أساكوزا الأكثر فقراً. الحادثة الثانية،
والتي نتجت عن الحادثة الأولى، عندما اضطرت العائلة
إلى عرض أخته سوزو، البالغة من العمر 14 سنة، لمن يرغب
في تبنّيها. وفي ما بعد، بيعت إلى أحد منازل الغايشا
geisha.
الحب الشديد الذي كان ميزوجوشي يكنّه لأخته سوزو ولأمه
التي توفيت عندما بلغ 17 عاماً، لم يكن يعادله سوى
بغضه الشديد لوالده. إن عجز هذا الأب عن دعم ومساعدة
عائلته أرغمت الإبن، الذي اتضحت إصابته بالتهاب
المفاصل، والذي سوف يعانى من أوجاعه طوال حياته، على
الاشتغال بحراثة أراضي بعض أقاربه. إنه من خلال تضحيات
أخته سوزو استطاع ميزوجوشي أن يدرس الفن، ويصبح
رساماً، ويخرج الأفلام في ما بعد، بدءاً من فيلمه
"انبعاث الحب" (1923)
هذه الشخصيات والأحداث من فترة شبابه - النهوض أو
الهبوط المفاجئ في المرتبة الطبقية، الشخصية السلطوية
الذكورية الجائرة والمستبدة والتي تضلل نفسها، المرأة
التي تعطي بلا أنانية وتضحي بنفسها من أجل الغير فلا
تحصل في النهاية غير التدمير - أصبحت الأساس لأفلامه
العظيمة: مرثية أوساكا، قصة زهرات الذهب الأخيرة، حياة
أوهارو، سانشو، أوجتسو.
في هذه الأفلام يوظف ميزوجوشي ببراعة اللقطات المديدة،
الكاميرا المتحركة، واللوحات التي تومض لتُظهر عبث
الوضع الراهن الإجتماعي والفلسفي، خصوصاً في حالة
اتصال ذلك بالمرأة.
أعمال ميزوجوشي الأولى تتألف أغلبها من مشاريع أنتجها
الأستوديو، بالتالي لم تكن للمخرج الكلمة الأخيرة أو
القرار الأخير، إذ لم يكن متحكماً كلياً في عمله، مع
ذلك فقد عكست هذه الأعمال بعضاً من اهتماماته. كان
تلميذاً للفن والأدب الياباني والغربي معاً، حقق
أفلاماً مبنية على مصادر أدبية متباينة مثل حكايات
هوفمان ومسرحيات يوجين أونيل والرسوم الهزلية. ومنذ
العام 1936 مع فيلمه "مرثية أوساكا" بدأ يعتمد على
مصادره الخاصة.. وقد صرّح قائلاً: "مع هذا الفيلم
(مرثية أوساكا) صرت قادراً أخيراً أن أتعلم كيفية عرض
الحياة كما أراها".
فيلمه "مرثية أوساكا" أسس نموذجاً للعديد من أعماله
اللاحقة. أياكو عاملة تليفون شابة تصبح رغماً عنها
عشيقة لرئيسها الذي يهدد بحبس والدها المختلس. ثم تجد
نفسها مجبرة على الانحدار حتى تبدأ في ممارسة الدعارة
لتعيل عائلتها الذين يصبون عليها اللعنات لكن لا
يرفضون ما تقدمه لهم من عون مادي. ينتهي الفيلم بلقطة
قريبة مروّعة للبطلة الجريئة.
التحفة الفنية الأخرى التي قدمها في العام نفسه، فيلم
"شقيقات جيون" الذي من خلاله يستكشف، على نحو قوي
ومعبّر، الإقليم الذي كان ميزوجوشي يعرفه من تجربته
الشخصية: بيوت الغايشا في منطقة كيوتو.
فيلم "قصة زهرات الذهب الأخيرة" (1939) كرّس على نحو
حاسم شهرة ميزوجوشي كمخرج مدافع عن قضايا المرأة. ممثل
متخصص في الكابوكي يقع في غرام فتاة خادمة، لكن لا
يدرك ما تؤديه من تضحيات بالغة، لتصنع منه ممثلاً
عظيماً، إلا في نهاية حياتها.
هذا الفيلم يكشف عن تأثر ميزوجوشي (حسب اعترافه)
بالمخرج فون شتيرنبرغ، خصوصاً في تكويناته التشكيلية،
وطرائق توزّع الضوء والظل في اللقطة، وهي المؤثرات
التي برع فيها ميزوجوشي آنذاك.
الفيلم أيضاً يحتوي على أحد المشاهد الأكثر إثارة
للمشاعر والتي يستخدمها ميزوجوشي على نحو بارع:
الخادمة التي تحتضر، مختبئة تحت خشبة المسرح التي يمثل
عليها حبيبها، تصلي من أجل أن ينجح.
الفيلم يتحرك بعيداً وراء المازوشية التي يوحيها الوصف
البسيط للحبكة. هنا وفي أعمال مماثلة، النقد الاجتماعي
القوي يشكّل الأساس للدراما.
ميزوجوشي، اليساري الحساس و"مخرج المرأة"، كان أيضاً
ذلك الذي يسعى إلى بلوغ حد الكمال وجعل عمله خالياً من
العيوب والشوائب، لذلك كان مستبداً في الموقع. من
القصص التي تُروى عنه، والتي هي ربما مشكوك في صحتها،
تلك التي تتعلق بفيلمه "مضايق الحب والكراهية"(1938)
حيث أرغم الممثل فوميكو ياماجي أن يتدرب على أحد
المشاهد سبعمائة مرّة. أما كينويو تاناكا، وهي الممثلة
المفضلة لدى ميزوجوشي، وواحدة من أعظم ممثلات السينما،
فتتذكر بلا حقد أو ضغينة كيف أنه أجبرها أن تقرأ
عملياً محتويات مكتبة كاملة من أجل التحضير لدورٍ ما.
الموثوقية كانت واحدة من الأشياء التي لم يكن مستعداً
التنازل عنها، وأفلامه التاريخية كانت بوجه خاص موضع
تقدير واعجاب الجمهور الياباني بسبب دقتها في التفاصيل
التاريخية.
في فترة الأربعينيات، وجد ميزوجوشي نفسه مرغماً على
تحقيق أفلام تتلاءم مع توجه الحكومة للدعاية للنظام
ومنجزاته. لذلك اتجه إلى إقليم الساموراي، الفاقد لأي
صفة مميزة، بأفلام مثل: 47 محارباً مخلصاً (1942)
مياموتو موساشي (1944) السيف المشهور (1945).. العديد
من هذه الأعمال كانت ناجحة جماهيرياً إلى حد يكفي لكي
يكررها في ما بعد، كما في فيلم "حكايات عشيرة تايرا"
(1955). لكن حتى في الأعمال الوطنية هو رفض التخلي
عن اهتماماته، لنقل هواجسه، ومن بينها ما تتعرض له
المرأة من كبح وقمع واضطهاد. أفلام مثل: انتصار النساء
(1946) نساء الليل (1948) هي أعمال منشطة للجدل وفي
الوقت نفسه دراما موجعة عاطفياً.
حصل ميزوجوشي على الشهرة العالمية بعد أن حاز فيلمه
"حياة أوهارو" (1952) على جوائز عديدة في اليابان
وأوروبا، وهو عمل يدور في مرحلة تاريخية قديمة، عن
ابنة أحد فرسان الساموراي، تدعى أوهارو، تعيش في القصر
الإمبراطوري. بعد أن تقع في غرام رجل من الطبقة
الأدنى، يقومون بنفيها وقتل الرجل. من هنا تستحيل
حياتها إلى كابوس مروّع حيث تحاول أن تقتل نفسها، ثم
تصبح عشيقة رجل غني من طبقة النبلاء، بعدها تتحول إلى
محظية ثم خادمة وأخيراً تعاني من الفقر الشديد وتصبح
عاهرة مقعدة. إن ميزوجوشي يضع بطلته في حالة من الفوضى
تسببها قوى اجتماعية وتاريخية، وتبلغ ذروتها في
محاولتها، التي تسجلها كاميرا متحركة برشاقة، لاستعادة
ابنها الذي أنجبته عندما كانت عشيقة الرجل النبيل، هذا
الابن الذي بدوره يصير غنياً وصاحب نفوذ.
أفلام ميزوجوشي، من أواخر الأربعينيات وحتى آخر أعماله
"شارع العار" (1955)، تشمل مجموعة من الأعمال التي لا
تُضاهى في عالم السينما.. أعمال رائعة وملفتة تتسم
بكمال الميزانسين وخلوه من العيوب، وتتميّز بفتنة
الصور، والنقد الإجتماعي، وأحياناً بالكثافة العاطفية
الغامرة.
في حين أن كوروساوا يحقق مشاركة الجمهور من خلال
المونتاج واستخدام اللقطات القريبة، كان ميزوجوشي
يتجنب الشيئين ليخلق حالة أقوى من خلال الإضاءة، وضعية
الكاميرا وحركتها، والتلاعب غير الاعتيادي بالممثلين
ضمن الكادر.
في لحظات الأزمة، تكون الكاميرا عادةً على بُعد مسافة
حذرة، كما لو أن المشاعر التي تختبرها الشخصيات هي
حادة وكثيفة أكثر مما ينبغي بحيث لا يمكن تسجيلها.
في المشهد الختامي الشهير من فيلم "سانشو"، على سبيل
المثال، الشاب الذي سبق بيعه كعبد، يلتقي أخيراً على
الشاطئ بأمه التي تعرضت للاغتصاب، وصارت مقعدة
ومهجورة. وميزوجوشي ينهي هذا اللقاء المؤثر بلقطة
مأخوذة من كاميرا مثبتة على رافعة
crane
والتي ترتفع عالياً بحيث يبدو الاثنان ضئيلين.
إن المآسي التي تختبرها شخصياته هي محتومة بفعل القدر
من جهة، والطبيعة البشرية الممعنة في الضلال، ولا سبيل
إلى إصلاحها أو تغييرها.
إن قدرة ميزوجوشي على انتزاع المشاعر المكثفة من أصغر
الإيماءات هي بيّنة طوال أحداث فيلم "أوجتسو"، خصوصاً
عندما يزور الصبي قبر أمه، التي تعرضت للاغتصاب
والقتل، ويضع عليه طبقاً من الرز. بعد انحناءة بسيطة
ترتفع الكاميرا المحمولة بالرافعة وتبتعد. هذا المشهد
ينجح في التأثير بسبب رفض ميزوجوشي إضفاء صبغة وجدانية
عليه وعلى أيّ من الأحداث التراجيدية التي سبقته.
في العام 1956 توفى ميزوجوشي، بعد سنوات قليلة من
إحرازه الشهرة العالمية. في فيلمه "أوجتسو" رأينا روح
المرأة الميتة تقود الزوج الآثم، الذي يسمع صوتها
الحزين لكن الملهم فيما هو يصنع آنية فخارية.
صوت ميزوجوشي يمتلك النوع نفسه من الرنين الروحي، ومثل
المرأة في "أوجتسو"، صوته يسمو فوق موته. |