* رواية "العطر" ليست من الكتب التي تُقرأ ثم تُنسى سريعاً.
إنها تمكث معنا، والقراء أحبوها وكوّنوا علاقة شخصية وحميمة
معها، وهذا يحمّلنا مسؤولية كبيرة، إذ يجب أن ننجح في عملية
تحويلها إلى الشاشة بحيث لا يشعر المتفرج بخيبة أمل، بل يشعر
أن الفيلم يختلف عن الرواية التي قرأها ومع ذلك هو – أي الفيلم
– أمين للمادة قدر المستطاع لكن يعكس وجهة نظر ذاتية، محددة،
تمليه رؤيتنا للرواية.
* أظن أن الخاصية الحقيقية للرواية هي أنها تفتح الكثير من
الأبواب على أقاليم مختلفة، على موضوعات غير مفروضة عليك أو
مدفوعة بقوة في اتجاهك. من الجلي أنها تتضمن الكثير من الأمور،
الكثير من الأفكار بشأن الشهرة والتلاعب بعواطف ومشاعر
الآخرين، وكيف أن السلطة والنفوذ قد مرّت بتحولات طوال قرون.
الغريب أن الأعمال التاريخية قادرة غالباً على جعلنا نقترب من
الموضوعات التي هي هامة في حاضرنا أكثر مما تفعله القصص
الراهنة التي تتناولها على نحو مباشر.
* ما يجعلني أتصل بشخصية جان هو حقيقة أنه بشري بعمق في دوافعه
ورغباته وطموحاته. الشيء الوحيد الذي يحاوله، والذي يتوق إلى
الحصول عليه من المجتمع الذي يعيش فيه، هو الاعتراف والتقدير،
أن يكون مرئياً، مقبولاً، محبوباً.. وهي الأشياء التي نتوق
إليها جميعاً.
* من الأشياء التي أحببتها في الرواية ذلك الحس التصويري الحي
في الوصف. إنها تتسم بالعنف والقسوة عندما يتعلق الأمر
بالتفاصيل. الرواية لا تحجم عن إبراز تلك الخاصيات ولا تقنّع
ذلك باستخدام غطاء شعري. الرواية تصف على نحو صريح وقاس قذارة
ونتانة شوارع باريس في القرن 18. إنها لا تصور العالم
الأرستقراطي والحياة الجميلة المرفهة في بيوت الأغنياء
والأرياف، كما تفعل الكثير من الكتب والأفلام في تصويرها لتلك
المرحلة. هذه الرواية تصور بصدق واقع تلك المرحلة التاريخية
حيث المدن تفتقر إلى شبكات المجاري، والناس يرمون الفضلات
والقمامة من النوافذ، ويخوضون حتى الركب في الأوحال. العيش
وقتذاك كان كابوساً، غير آمن وغير صحي تماماً، ونحن أردنا أن
نصور هذا الواقع، أن نُظهر هذه المظاهر دون التضحية بالخاصية
الملحمية للرواية.
* الفيلم يعكس الجوانب المظلمة من دواخلنا، وهذا يضفي على
الفيلم نسقاً قاتماً يتناسب مع الخاصيات المقلقة بشأن الشخصية
الرئيسية. أردت من الفيلم أن يكون قاتماً ومقلقاً، لكن أيضاً
يتسم بدفء بشري، ذلك لأن الشخصية تحمل بداخلها أيضاً الرغبة
التي هي مفهومة جداً ونعرفها جيداً.
* مع هذه الشخصية نحن لا نرى العالم من خلال عينيها فحسب، بل
أيضاً نشم العالم من خلال أنفها.
* لأنه فيلم يقوم على اللمس، حيث استنطاق الأسطح وأنسجة
العناصر، فإنه يمضي مباشرة إلى التفاصيل، ملتقطاً الأجزاء
ومنها يبني صورة كاملة، مثل تأليف المقطوعة الموسيقية التي
تنطلق من النغمات المفردة إلى النغمات المتآلفة إلى التركيب
المكتمل. هكذا يتم بناء اللقطات، من التفاصيل إلى الصورة
العريضة الكاملة.
الموسيقى لعبت دوراً كبيراً في تحديد اللغة السينمائية للفيلم.
لقد جعلنا الموسيقى تعمل مع السيناريو، ذلك لأننا كنا نؤلف
الموسيقى على نحو متواز لكتابة السيناريو، بحيث تكون الموسيقى
حاضرة عند شروعنا في تصوير الفيلم، فيتفاعل معها الممثلون،
وبها نخلق الأجواء.
* في الرواية نوع من الدعابة السوداء التي حاولنا أسرها في
الفيلم أيضاً. ثمة مشاهد تدفعك إلى الابتسام رغم أنها مخيفة
حقاً.
* كنت جالساً في مسرح الأولد فيك، أشاهد أداء بن ويشو لشخصية
هاملت وأنا أحمد الرب على أنني عثرت، بعد بحث طويل وشاق، على
الممثل الشاب الذي سوف يؤدي شخصية جان- بابتست جرينويه في
فيلمي المقبل "العطر: قصة قاتل". بطريقة ما كنت أعرف أن اللحظة
سوف تحين عندما أعثر على الشخص المناسب معتمداً على الحدس
والصدفة. كان الاختيار مباشراً وفورياً.
بن ترك نفسه تنزلق نحو الشخصية، لكنه يتمتع بالذكاء الذي جعله
قادراً على استيعاب كل التعقيدات التي احتوتها الرواية.
أحياناً كنت أطلب منه شيئاً غريزياً أو بدنياً محضاً، وفي
دقائق ندخل في نقاش حول أمور معقدة كنت أرغب في الإمساك بها.
بن ممثل مدهش، يمتلك مزيجاً من المهارات، ولغة جسده تنسجم مع
الطريقة التي ينطق بها، والتي ينظر بها. إنها الطاقة الغامضة
التي جلبها معه. وهو يمنحنا الإحساس الكلي بأنه شخص برئ للغاية
وفي الوقت نفسه غامض للغاية، بأنه كائن بشري متوحش وفي الوقت
نفسه سهل الانجراح، وحساس جداً.
قبل أن نعثر على بن ويشو، كنت مدركاً لحاجتنا إلى الانتظار،
حتى لو اقتضى الأمر الانتظار عشر سنوات للعثور على الممثل
المناسب.
* لدور بالديني، تاجر العطور، مباشرة فكرت في دوستين هوفمان،
لأن بالديني شخصية آسرة، جميلة، مرحة، مراوغة، ومتوهجة، وهي
الصفات نفسها التي يتحلى بها هوفمان.. إلى جانب عبقريته في
الأداء.
* من الأعمال التي مارست تأثيرا فيلم "سائق التاكسي" لمارتن
سكورسيزي. بن ويشو لم يكن قد شاهد الفيلم، لذا استأجرت صالة
عرض صغيرة وجلسنا، نحن الاثنين، نشاهد "سائق التاكسي". إنه
واحد من أفلامي المفضلة، العمل الكلاسيكي الذي تجد نفسك فيه
مقحماً داخل منظور الشخصية. هذا ما أردت من بن أن يشاهده، كيف
أن من الممكن البقاء مع شخص والذي يمضي خارج المسار على نحو
مقلق. ترافيس بيكل (روبرت دي نيرو) يتحول إلى شخص فاشستي لكنك
في الوقت نفسه تفهم دوافعه. عزلة الشخصية تجعلك تبقى إلى
جانبه، تنحاز إليه وتتعاطف معه، وهذا شيء خطر. ذلك هو ما سحرني
بشأن هذا الفيلم، عندما تخضع لإغوائه بالدخول، ويتعيّن عليك أن
تكون قوياً بما يكفي لتبدي رأيك الخاص وتصدر حكمك الخاص.
المصدر:
Close- up Film, August 2007
Groucho Reviews, October 2007