عذرية الشاشة المرعبة
الشيطان العظيم، ذو الأسنان البيضاء اللماعة والأذرع العارية،
يتكلم على الشاشة بلغة رائعة.. لغة الحب، وكل البشر يصغون.
أمام الشاشة يتعيّن علينا أن نفتح أعيننا، أن نحلل المشاعر
التي تحولنا، أن نفسرها في سبيل اكتشاف سبب ذلك التسامي الذي
تحسّه ذواتنا. أية فتنة وجاذبية جديدتين نجدهما – نحن المتخمون
بالمسرح – في هذه السيمفونية السوداء والبيضاء.. أكثر الوسائط
فقرا، والمجرّدة من الطيش اللفظي والمنظور المسرحي؟
إنه ليس مشهد العواطف والرغبات المتشابهة على نحو أبدي، ولا –
كما يود المرء أن يعتقد – النسخ المكرّر والأمين لمشاهد طبيعية
تضعها وكالة توماس كوك في متناول أيدينا، بل تمجيد تلك المواد
والأشياء التي، دونما حيلة أو خداع، يستطيع ذهننا الواهن أن
يرفعها إلى المرتبة الأسمى للشعر.
البرهان على ذلك يكمن في الضجر الذي نحسه إزاء الأفلام التي
تستلّ عناصر غنائيتها من المستودع البالي للأفكار الشعرية
القديمة التي صارت معروفة ومباحة: الأفلام التاريخية، الأفلام
التي يموت فيها العشاق بسبب ضوء القمر أو الجبال أو المحيط،
الأفلام الدخيلة، الأفلام التي تحمل كل الأعراف القديمة. في
حين تتوجه أحاسيسنا وانفعالاتنا نحو أفلام المغامرات الأمريكية
التي تتحدث عن الحياة اليومية، وتنجح في رفع مواد بسيطة وعادية
إلى مستوى درامي: ورقة نقدية تجذب انتباهنا على نحو آسر، مسدس
فوق طاولة، زجاجة، عند الاقتضاء، تصير سلاحا، منديل يفشي عن
جريمة، آلة كاتبة هي أفق منضدة، شريط تلغرافي ذو شفرات سحرية
تثري أو تدمّر المصرفيين.
الأطفال، هؤلاء الشعراء دون أن يكونوا فنانين، أحيانا يركزّون
انتباههم على شيء ما إلى درجة أن قوة التركيز تجعل هذا الشيء
ينمو ويزداد حجما بحيث يحتل مجالهم البصري كليا، فينتحل مظهرا
غامضا ويفقد كل صلة بهويته وغايته، أو نجدهم يرددون كلمة ما
بشكل متواصل إلى حد أنها تجرد نفسها من المعنى وتصبح صوتا
حادا، بلا غاية ولا خاصية، والذي يدفعهم إلى الصياح أو البكاء.
بطريقة مماثلة، على الشاشة نجد أن الأشياء التي كانت منذ لحظات
قليلة محض قطع من الأثاث أو كتب أو تذاكر، صارت تكتسب مدلولات
غامضة أو مهدّدة. هذا التركيز العاطفي يفتقر إليه المسرح، لهذا
هو أقل تأثيرا.
إضفاء قيمة شعرية (لم تمتلكها بعد)، وحصر مجال الرؤية على نحو
مقصود من أجل تكثيف التعبير: هذان هما الخاصيتان اللتان
تساعدان في جعل الديكور السينمائي محيطا ملائما للجمال
المعاصر.
إذا كانت السينما اليوم لا تكشف عن حقيقة كينونتها، أو ما
ينبغي أن تكونه، بوصفها استحضارا قويا، حتى في أفضل الأفلام
الأمريكية التي تخوّل شعر الشاشة لأن يتحرر من فوضى الاقتباس
المسرحي، فذلك لأن الفيلم لا يدرك خاصياته الفلسفية رغم أنه
أحيانا يمتلك وعيا حادا بجماله. كنت أتمنى أن يكون صانع الفيلم
شاعرا أو فيلسوفا.. كذلك المتفرج الذي يحكم على العمل الفني.
الأفلام، وحدها، هي معهد السينما.. تذكر ذلك. هناك سوف تجد
المادة النافعة، شريطة أن تتمكن من التعرّف عليها والتقاطها.
هذا الابتكار ليس مدّعيا: شارلي شابلن يحقق الشروط التي ينبغي
التأكيد عليها بإلحاح. إن احتجت إلى نموذج أو مثال فانظر
إليه.. هو وحده الذي بحث عن المعنى الجوهري للسينما. وفي
محاولاته الدءوبة، المتواصلة، استطاع أن يسحب الكوميديا تجاه
اللامعقول والمأساوي.
يجب على السينما أن تحاذر: جميل أن تكون مجرّدة مما هو لفظي،
لكن يجب أن يحل الفن محل الخطاب، وذلك يستلزم ما هو أكثر من
التمثيل الدقيق، الصارم، للحياة.
غير أن السينما تنزع لأن تظل سلسلة متوالية من الصور
الفوتوغرافية. "التصوير" المثالي ليس هو اللقطة الجميلة، وليس
كافيا البحث عن صانعي أفلام ممسوسين بالحس الجمالي، فهذا لن
يقودنا إلى مكان معيّن، بل سوف يتركنا مهملين في البرد.
نحن بحاجة إلى جمالية جديدة وجريئة، بحاجة إلى الاحساس بجمال
معاصر. وفق هذا الفهم، سوف تتحرر السينما من الخليط العتيق،
الملوّث، السام، والذي يربطها بالمسرح الذي هو عدوها.
أمر حيوي أن يكون للسينما موقع في اهتمامات الحركة الطليعية،
فلديها مصممون ورسامون ونحاتون، وينبغي اللجوء إليهم إذا أردنا
جلب شيء من النقاء إلى فن الحركة والضوء.
فن السينما ينتمي بعمق إلى هذا العصر، لذا لا يجب ترك مستقبله
بأيدي رجال الأمس. أنظر أمامك من أجل العون، ولا تخش جرح مشاعر
أولئك الذين يدلّلونك ويتساهلون معك، إعلم بأن أولئك الذين
يحملون عبء هذه المهمة، لابد أن يتوقعوا عدم الفهم والازدراء
والضغينة. ولا ينبغي أن يكبح ذلك جماحهم. كم هو رائع أن يهتف
الحشد ضد الفيلم. لقد آن الأوان كي يصفع شخص ما وجه الجمهور
ليرى إن كان ثمة دم تحت الجلد.
متى، قبل أن تضاء الشاشة العارية، سوف يكون لدينا ذلك الاحساس
بالعذرية المرعبة، بالوعي الأبيض، لقماشنا؟
آه، ياللنقاء! يا للنقاء!
لوي أراجون،
1918
* * * *
حياة نشربها كالحليب
ولدت السينما مباشرة بعد أن شعرت أعين الفرنسيين بالإنهاك
والضجر من مشاهدة "شرائح من الحياة" الأزلية، على خشبة المسرح،
المرّة تلو الأخرى، وعندما كانت مسارح المنوعات وحدها القادرة
على تحريك عواطفنا المسكينة التي أذبلها الشعر.. للحظة على
الأقل.
لكن سرعان ما بدت الخدعة أكبر مما كنا نتوقع. الأفلام كانت
تافهة، مملة، وجديرة بالرثاء. إنها حتى لم تكن غبية إلى حد
يكفي لكي تجعلنا نحتج ضدها.. لقد أراد كتّاب السيناريو أن
يصلوا إلى الناس بأي ثمن.. أن يصلوا إلى أولئك الذين بهم تزدهر
الميلودراما والكوميديا العاطفية.
ولكي يجعلوا دموع الجمهور تفيض، بذر صانعو الأفلام الأذكياء
مقدارا وافرا من الزهور الزرقاء الصغيرة على السيلولويد.
والجماهير بدأت تبكي، لكن من فرط الضحك. كنت ترى فتاة صغيرة
يختطفها غجر أنذال ثم يعثر عليها ذووها من طريق الصدفة، أو
أماً مسكينة مع دزينة من الأطفال يضربهم الزوج السكّير
المتوحش، وفي النهاية يثأر لهم الخمر والهذيان الارتعاشي
الناشئ عن الإدمان.
آنذاك، لم يعد أي شيء ممكنا.
ضجر الأمسيات، الذي يطفو مثل دخان سيجارة ويجعلك تتثاءب إلى أن
ينحدر النوم، كان يزهر في الأنفاس المتقدة لبعض الأفراد
الشباب.. أصدقائي.
كنا نسير في الشوارع المهجورة والباردة بحثا عن حادثة، لقاءٍ
مفاجئ، حياةٍ ما. ولكي نذهل أنفسنا، كان علينا أن نشدّ
تخيلاتنا إلى أحلام حسّية. الجرائد، التي كانت أكثر غنى
بالألوان من خرائط العالم، أذهلتنا للحظة أو اثنتين. مقابل
بضعة بنسات كنت تستطيع أن تعبر العالم وتشهد الدراما الدموية،
المدهشة، التي للحظةٍ كانت تضيء نقطة ما على سطح الكرة
الأرضية. كنا في غاية العطش إلى تلك الحياة القوية والغريبة،
تلك الحياة التي كنا نشربها مثلما نشرب الحليب.
يوما ما رأينا ملصقات هائلة، طويلة كالأفاعي، تغطي الجدران. في
كل منعطف، ثمة رجل – ملثم بمنديل أحمر – يصوّب مسدسه نحو مارّة
لا مبالين. كنا نحسب أننا نسمع عدْو فرس، صوت سيارة، صرخات
موت. انحدرنا صوب صالات السينما وأدركنا أن كل شيء قد تغيّر.
لقد فهمنا أخيرا أن السينما ليست دمية مكتملة ومثالية، بل أنها
راية الحياة الرائعة والمدهشة. الصالات الصغيرة المظلمة، التي
جلسنا فيها، صارت مسرحا لانفجارات الضحك والغضب وإحساسنا
العظيم بالزهو. بأعين مفتوحة على سعتها، طالعنا الجرائم
والرحلات والظواهر النادرة. لا شيء كان أدنى مرتبة من شعر
عصرنا.
لم نكن نفهم ما يحدث. كنا نعيش في سرعة، وبشغف. كان زمنا
جميلا، وبلا شك ثمة أشياء أخرى عديدة ساهمت في جماله، لكن
السينما الأمريكية كانت إحدى أروع مفاخره.
فيليب سوبو،
1924
* * * *
هذيان واع في مملكة خارقة
تم الإعلان عن ميلاد تقنية جديدة. فورا جاء الفلاسفة راكضين
مسلحين بمعضلات زائفة ومضللة: هل السينما فن أم شيء آخر؟ هل هي
جديرة بالاهتمام؟
قال البعض: "السينما مجرد شكل متكامل من أشكال التصوير"..
رافضين بذلك الاعتراف بهذا الاكتشاف الجديد.
المتطرفون، الذين لا مفر من وجودهم في أي مجال، اتخذوا الموقف
المضاد. قالوا: السينما ليست فناً فحسب، بل أنها – علاوة على
ذلك – سوف تمتص تدريجيا كل الفنون الأخرى (محاضرة مارسيل
ليربيه التي نشرت العام 1923) وبرهانهم على ذلك أن السينما تحل
محل فن العمارة (القصور في فيلم لص بغداد) والموسيقى (فرقة جاز
زنجية تعزف لحنا في أحد الأفلام) والرقص (فالنتينو يرقص
التانغو).
إذا كانت الاستجابات تُستخلص وفق هذا المنطق المضحك، فسوف
يجعلوننا نؤمن بأن طعامنا في المستقبل سوف يُستبدل بصورة شارلي
شابلن والطفل وهما يأكلان بنهم طبقا من الفطائر.
كيف نرى مستقبل السينما؟.. هذا سؤال واقعي أكثر، وللإجابة عليه
يتعيّن علينا أن نتأمل، على نحو موجز، مسألة نشوء وتطور الفنون
الأخرى.
إننا ندرك بأن كل فن يتبع، في دورته وتحوّله، المخطط العام
ذاته: إنه يفلت، أولا، من التلويث الأدبي (التخلي عن الرسم
الرمزي والموسيقى ذات الثيمة الرئيسية) ثم يتمرّد على قيود
المنطق – الذي يعتبر عنصرا عقلانيا يكبح الحرية الحسيّة – في
سبيل استقصاء مبادئه وقواعده الموجهة وفق تقنيته الخاصة
(التكعيبية، الانطباعية الموسيقية).
بعدئذ نستطيع بسهولة أن نتنبأ بالمرحلة الثالثة: الفنانون، في
توقهم الشديد للتحرر الشامل، سوف يزيحون الركيزة الأخيرة
للتقنية ويطالبون بحقهم في استحضار، ومن ثم التلاعب – دون أي
تكيّف – بالمادة الحقيقية التي تشكّل أساس فنهم.
نحن لا نرغب في حجب التبسيط المفرط لهذه الأفكار، أو المجازفات
الكامنة فيها، لكن لا أحد يستطيع أن يفنّد هذا الاستنتاج: في
تطوّر كل فن تأتي مرحلة، قد تكون مؤلمة أو لا تكون، يتجاهل
فيها الفنان كل سلطة ذات منشأ عقلاني أو منطقي لكي يستجوب
الإمكانيات التقنية لفنه.
يبدو، بالنسبة لنا، أن السينما قد وصلت الآن إلى هذه المرحلة.
سنتحدث هنا قليلا عن حركة أدبية ليست حديثة المنشأ والأصول،
لكنها تظهر نفسها في الحاضر بطريقة صاخبة جدا: ونعني
السوريالية. نحن الآن نعرف السمة الجوهرية للأطروحات
السوريالية (والتي نجد أصدق تعبير لها في بيان السوريالية الذي
كتبه أندريه بروتون): إن النشاط اللاواعي للعقل – والذي تركّز
حوله اهتمام عام من خلال أعمال مفكرين مثل فرويد وبابنسكي، أو
روايات مؤلفين مثل مارسيل بروست – قد أصبح مرتكزا للحياة
الذهنية. إن الغرض الرئيسي للفنان، من الآن فصاعدا، أن يسبر
ويستكشف الواقع في حلم أسمى من ذلك الواقع الذي يقترحه علينا
التفكير المنطقي، وبالتالي، الاستبدادي.
السوريالية، من جهة، تظهر نفسها كنقد للأشكال الموجودة في
الأدب، ومن جهة أخرى، كتجدّد تام للمجال والمنهج الفنيين، بل
ربما كتجديد لأغلب القوانين العامة للنشاط الإنساني.. باختصار:
الإطاحة الشاملة بكل القيم.
ثمة حقيقة ملفتة للنظر وهي أن اعتراضاتنا على تطبيق النظريات
السوريالية على الأدب تتلاشى وتفقد قيمتها ما إن تطبق في حقل
السينما. هنا، أكثر من المجال الأدبي، صحة وخصوبة الأطروحة
السوريالية تبدو أخّاذة ومدهشة.
الاعتراض على المنهج (صعوبة توحيد الوعي واللا وعي على المستوى
نفسه) لا يصمد عندما يتعلق الأمر بالسينما، ففي هذا المجال
ينسجم الشيء المرئي بدقة مع الهذيان الواعي. لندخل صالة
السينما حيث الشريط السينمائي المخرّم يطلق في الظلام صوتا
كالخرير. ذلك الشعاع المضئ يقود نظرتنا إلى الشاشة والتي،
لمدة ساعتين، سوف تظل ثابتة ومركّزة عليها: الحياة في الخارج
تفقد وجودها، متاعبنا ومشاكلنا تتلاشى، جيراننا يختفون، جسدنا
نفسه يخضع لنوع من الانسلاخ المؤقت والذي يقصي الاحساس بوجوده
الخاص. نحن في هذه الحالة لسنا سوى عينين مثبتتين بإحكام إلى
الشاشة البيضاء.
أندريه بروتون، الذي يرغب في ترسيخ سمو الحلم، يكتب: "إن ذهن
المرء الذي يحلم قانع تماما بما يحدث له. والسؤال المؤلم عن
الاحتمال لن يظل مطروحا". ويتساءل بروتون: "أي سبب، أي سبب
أفضل من آخر، يمنح الحلم هذا الإغراء الطبيعي، ويجعلني أرحّب
– دون تحفظ – بحشد من الأحداث التي تصعقني غرابتها في ما
أكتب؟"
الإجابة على هذا السؤال تكمن في ما يدعوه تين
Taine
"الميكانيكية المختزلة للصور". حين نكون في حالة يقظة، الصور
التي تتدفق وتجيش في خيالنا تملك مظهرا واهنا وشاحبا مما
يساعد، عن طريق التباين، على بروز وفعالية الصور الحقيقية التي
نتلقاها من خلال حواسنا. وهذا الاختلاف يكفي لأن يجعلنا نميّز
بين الواقعي والمتخيّل. أما في النوم فتكون حواسنا معطلة، أو
بالأحرى، توسلاتها لا تعبر عتبة الوعي، وينعدم التباين
المختزل، بينما سلسلة الصور المتتابعة المتخيّلة تحتكر
الواجهة، إذ لا شيء يعارضها ويناقضها، وبالتالي فنحن نؤمن
بكينونتها الفعلية. في اليقظة نتخيّل الحقيقي والممكن في آن،
بينما في الحلم نتخيّل الممكن فقط.
في السينما نرى حشدا كاملا من الشروط المادية تتآمر لتدمير
"الميكانيكية المختزلة للصور". عتمة الصالة تخرّب منافسة الصور
الحقيقية التي قد تتعارض مع صور الشاشة. إن من المهم صد
الانطباعات التي يمكن أن تصل إلينا عبر حواسنا الأخرى: من منا
لم يلاحظ الطبيعة الخاصة للموسيقى في السينما؟ إنها، قبل أي
شيء آخر، تخدم في محو الصمت الذي قد يدعنا نعي أو نتخيّل ظواهر
سمعية ذات نظام واقعي والتي ربما تخرّب الاستثنائية الضرورية
للرؤية.
قد يبدي البعض اعتراضه قائلا بأن هذه الشروط مشتركة بين جميع
أشكال العرض والفرجة، حتى في المسرح يكون الظلام موظفا لتسهيل
تركيز الجمهور على الخشبة. لكن لننتبه إلى أن الأفراد الذين
يمثلون على خشبة المسرح لهم حضور مادي، ويتحركون ضمن محيط
ثلاثي الأبعاد ويعيشون وسط جلبة الحياة الطبيعية. إننا نقبلهم
كأخوة لنا، كأنداد، بينما الكاميرا تتوق إلى تقديم وهْم الواقع
بواسطة صورة زائفة ذات طبيعة بصرية على نحو فريد. الهذيان
الفعلي مطلوب هنا، والشروط الأخرى للسينما تنزع إلى دعمه
وتقويته، تماما كما في الحلم. الصور المتحركة التي تفتقر إلى
ثلاثية الأبعاد وتتبع كل منها الأخرى في مستوى واحد هي مؤطرة
اصطناعيا بمستطيل أشبه بثغرة هندسية تشرف على المملكة الخارقة
للطبيعة.
غياب اللون (استخدام الأسود والأبيض فقط) يمثّل تبسيطا
اعتباطيا مشابهاً لما يستقبله المرء في أحلامه. التتابع الفعلي
للصور في السينما يملك خاصية اصطناعية تساهم في إبعادنا عن
الواقع. استمرار الصور، على نحو مثابر، في اتجاه شبكية العين –
الأساس الفسيولوجي للسينما – يوحي بتقديم حركة مماثلة لحركة
الواقع ذات الاستمرارية الحقيقية، لكننا ندرك جيدا بأنه مجرد
وهْم، صورة خادعة، حيلة حسيّة لا تستطيع أن تخدعنا بشكل كلي.
أخيرا، إيقاع الأفراد، الذين نراهم يتحركون على الشاشة
الصامتة، ذو خاصية متقلبة تجعلهم يبدون كأقارب للأفراد الذين
يسكنون أحلامنا.
في السينما، كما في الحلم، ليس ضروريا البحث عن تفسير أو تبرير
لأفعال الشخصيات. حدث يلي آخر، وهذه الأحداث تلتمس التسويغ في
ذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى. إنها تتلاحق بدرجة كبيرة من
السرعة إلى حد أننا بالكاد نملك الوقت لاستدعاء التعقيب
المنطقي الذي قد يفسّرها، أو على الأقل يربطها.
السينما، إذن، تصوغ هذيانا واعيا، مستفيدة من التحام الحلم
والوعي، هذا الالتحام الذي ترغب السوريالية في أن تراه موظفا
في الحقل الأدبي. إن الصور المتحركة تضللنا، وذلك بتركنا في
حالة إدراك مشوش، سامحة لنا باستحضار – إذا اقتضت الضرورة –
موارد ذاكرتنا. (عموما، السينما تقتضي منا، فقط، ذاكرة تكفي
لربط الصور).
"الصورة الأقوى هي تلك التي تملك أعلى درجة من الاعتباطية"..
هكذا صرح بروتون الذي أورد، من بين الأمثلة الأخرى، هذه الصورة
من فيليب سوبو: "كنيسة كانت تنتصب برّاقةً مثل جرس". إن كلمة
"كنيسة" المشتملة – بفضل اللغة – ضمن نظام من العلاقات
المنطقية، تماما مثل كلمة "جرس"، تجعل عملية نطق هاتين
الكلمتين والمقارنة بينهما، تستحضر هذين النظامين، وتجعلنا
نقوم بعملية التطابق بينهما. وبما أنهما غير قابلتين للتجاور،
فإن القارئ يلجم التسليم بالمقارنة.
من جانب آخر، عندما تعرض علينا السينما كنيسة براقة ثم، بدون
أي انتقال أو تحوّل، تعرض جرسا براقا، فإن أعيننا تستطيع أن
تقبل هذا التتابع. إننا نشهد حقيقتين هنا، واللتين تبرّران
نفسيهما. ولو تلت الصورتان كل منهما الأخرى بالسرعة الضرورية
فإن الميكانيكية المنطقية التي تحاول أن تربط الشيئين بطريقة
أو بأخرى سوف لن يكون لديها الوقت الكافي لأن تبدأ في الحركة.
كل ما سوف يختبره المرء هنا هو اللمحة المتزامنة تقريبا
للشيئين، أي العملية الدماغية التي أوحت إلى المؤلف بهذه
المقارنة أو هذا التشبيه.
العامل الرئيسي في اللغة هو دائما الطابع المنطقي. الصورة تولد
وفق هذا الطابع، وتسهم في زخرفته وإضاءته. في السينما، العامل
الرئيسي هو الصورة التي أحيانا – وليست بالضرورة – تسحب أسمال
العقل وراءها.
لقد حان الوقت لكي يرى السينمائيون أي ربح سوف يجنونه من فتح
فنهم أمام أقاليم الحلم غير المستكشفة. لكن حتى الآن لم يتم
إنجاز هذا.. ربما إهمالا.
جان جودال –
1925
* * * *
نادل يبهج أعيننا بالصور
يتراءى لي أن من الطيش تحديد مستقبل السينما بما أن سلالة أكثر
تطورا منا قد تنشأ، والتي سوف تستسلم للوهم البصري، حيث أن
عينها، الأكثر حساسية، سوف تعي بسهولة الزمن الساكن الذي يصل
إطارا من الفيلم بآخر. بالتأكيد أن احتمالا كهذا لا يزعج ولا
يوجع أحدا، لأنه سيكون مرضيا ضمن تقاليد السينما، التي تطورها
الكامل يحمل سمة المؤقت والزائل.
المعجزة في متناول كل عين، في متناول كل جيب. فوق رؤوسنا يولّد
جهاز العرض مخروطا شفافا فيه تتدلى ذرّات كهربائية، شيء يشبه
المنيّ، نوع من اللقاح الذي يندفع ويبدأ في التبرعم على السطح
المستطيل للشاشة. الكائنات الساكنة لا تعود ساكنة، الكون
المتبلور في الفيلم والمختزل إلى سيمائه الأبسط والأقل تعقيدا
هو فجأة منتزع من سباته، مفصول عن قشرته الخارجية، وهو –
مستعيدا أبعاده الأصلية – يدخل كينونتنا وتفكيرنا. ها هنا، على
الشاشة، ينعكس كل سطح في العالم وكل بقعة على الكرة الأرضية.
ها هنا، على القماش الأبيض الرباعي الأضلاع، الذي يشبه راية
الاستسلام، تلتقي الصور.
كل ما يتعيّن علينا فعله هو أن نفتح الباب ونتحدث مباشرة مع
الأشباح: التعرّف يتم بسرعة. لا ستارة هنا، كما في المسرح، حيث
الواقعي مفصول عن المتخيّل. إنك هنا في نفس مستوى الخيال،
تعتبره مساويا وتعامله كالندّ.
في قمرته الشاهقة يحرّك مشغّل آلة العرض كأسه البلّورية
والمعدنية مثل نادل. إنه يسكب كوكتيلا من الصور في اتجاه
أعيننا التي قد لا تحدّق بابتهاج دون أن تصاب بالدوار.
أشعة إكس تحتفظ بصورة الموت فقط، تصف الهيكل العظمي السري. أما
هنا، فإن أشعة أخرى تُظهر الحياة وتجددها.
ألبير فالنتان
- 1927
* * * *
حياة سحرية تتوق إلى الضوء
قيل لنا أن السينما في مرحلتها الطفولية، وأننا نسمع صيحاتها
الأولى فحسب. أعترف بأنني لا أفهم السبب. السينما قد بلغت
مرحلة متقدمة في الفكر الإنساني، وهي تستفيد من هذا الفكر. لا
أشك أنها وسيلة تعبير لم تبلغ بعد درجة الكمال ماديا. هناك طرق
عديدة يمكن بها أن تحصل على الرسوخ والنبالة اللتين لا
تمتلكهما الآن، يوما ما ربما سيكون لدينا سينما ثلاثية
الأبعاد، بل وحتى أفلاما ملونة، لكن هذه مجرد وسائل ثانوية لا
تستطيع أن تسهم كثيرا في أساس السينما التي هي لغة، بقدر ما هي
موسيقى ورسم وشعر.
في السينما كنت دائما أميّز الطبيعة الخاصة بسر الحركة ومادة
الصور. للسينما جانب غامض وغير متوقع لا نجده في أي شكل فني
آخر. حتى الصورة الأكثر جفافا وابتذالا وعادية تتحوّل حين
عرضها على الشاشة. أتفه التفاصيل، وأكثر الأشياء ضآلة، تنتحل
معنى وحياة تخصها وحدها، مستقلةً عن مدلول الصور نفسها،
والفكرة التي تترجمها، والرمز الذي تشكله. ولكونها معزولة، فإن
الأشياء تكتسب حياة بذاتها والتي تصبح مستقلة أكثر فأكثر بحيث
تحرر الأشياء من معناها المألوف.. إن الورقة والقنينة واليد
وغيرها تعيش حياة حيوانية تقريبا وتصرخ من أجل أن تُستغل.
ثم أن هناك تحريفات الكاميرا، واستخدامها المفاجئ للأشياء. ما
إن تتلاشى الصورة حتى تعود تلك الأجزاء الخاصة والمستقلة،
والتي كانت غائبة عن انتباهنا، إلى الحياة بقوة استثنائية،
وتتحرك لتلقى التعبير المطلوب. هناك أيضا ضرب من الإثارة
الجسمانية حيث أن تعاقب الصور يتصل مباشرة بالدماغ. إن العقل
يتحرك وراء نطاق سلطة التمثيل. هذا النوع من السلطة الفعلية
للصور يسبر حتى يومنا احتمالات جديدة في أعماق العقل.
جوهريا، السينما تكشف حياة مستترة وسحرية كاملة، وتجعلنا نتصل
بها على نحو مباشر. لكن علينا أن نعرف كيف نتنبأ بهذه الحياة
السحرية. ثمة وسائل أفضل من تعاقب الانطباعات المفرطة للتنبؤ
بأسرار أعماق الوعي. السينما الفجة، المقبولة كما هي، تفرز
القليل من هذا المناخ الشبيه بالغيبوبة، الواعد بمكتشفات
معينة. لاستخدامها من أجل سرد قصة ما، يعني تجاهل إحدى أفضل
ثرواتها، والإخفاق في تحقيق غايتها الأكثر عمقا.
أعتقد أن السينما تم اختراعها، في المقام الأول، لكي تعبّر عن
شؤون العقل والوعي الباطني.
الفكر الواضح ليس كافيا. إنه يحدّد عالما تعرّض للاستهلاك
تماما. ما هو واضح هو ما يمكن الوصول إليه مباشرة، لكن ما يمكن
الوصول إليه مباشرة هو مجرد بشرة الحياة. نحن سرعان ما ندرك
بأن هذه الحياة، المألوفة على نحو مفرط، والتي فقدت كل رموزها،
ليست الحياة بكاملها. إن يومنا هذا هو زمن السحرة والقديسين،
زمن أفضل مما كان. إن مادةً غير مدركة بالحس أو العقل تتشكّل
وتتوق إلى الضوء.. والسينما تقرّبنا أكثر من هذه المادة أو هذا
الجوهر.
السينما لا توجد إذا لم تهتم بتأويل الأحلام أو ما يتصل بمملكة
الأحلام في الحياة الواعية. ليس ثمة اختلاف بين السينما
والمسرح. لكن السينما لغة مباشرة وسريعة، لا تحتاج إلى منطق
بليد ومضجر لكي تحيا وتزدهر. السينما يجب أن تقترب أكثر فأكثر
من الخيال، الخيال الذي يبدو أكثر حقيقية، وإلا فإنها لا توجد،
وسوف تبلغ النهاية ذاتها التي وصل إليها الرسم.
سوف لن تكون هناك سينما تصور الحياة وأخرى تصوّر وظيفة العقل.
لأن الحياة، أو ما تسمى كذلك، تصبح غير منفصلة عن العقل. ثمة
حقل عميق ينزع إلى الظهور على السطح، والسينما أكثر من أي فن
آخر، قادرة على تفسير هذا الحقل، ذلك لأن النظام الأخرق
والوضوح المعتاد هما من أعداء السينما.
أنتونان أرتو
– 1930
* * * *
حلبة مظلمة لحب مطلق
مالومبرا،
تشنج الجمال، وهن الذاكرة، لون الندم، سحر الحياة، اعتدالية
الحركة، ندرة الحب، جنون الحواس، جمال الجنون، حزن البحيرات،
سطوة القمر، حياة ما بعد الموت، نبالة الفجور، اشتعال لمحةٍ،
ذاكرة الجنون، مستقبل الماضي، سرنمة الفكر، موت المنظر، فعل في
البُعد، انزلاق النوم، الحلم الحي، غطرسة التدنيس، فجور
الهستيريا، رفض العيش، جمال الهستيريا، جمال الجمال: كل هذا في
مالومبرا.
أبداً لم تكن مشقة رفع الثورة إلى مرتبة الشعر مذهلة إلى هذا
الحد، مغرية إلى هذا الحد.
أبدا لم يكن جلياً في نظرنا أن في الجمال المشع لامرأة منذورة
للحب تتركّز أكثر لحظات العالم الجدلية إقلاقا.
أبداً لم يتراءى لنا أن الشعاع الذي يمرّ عبر الكائنات هو أكثر
هشاشة، أسرع زوالا، منه حين ينسلّ عبر تلك الأجزاء الصغيرة من
مخرّمات، حركات، نظرات.. والتي فيها تجيء القوة الفعلية التي
تنشّط العالم لتعقد سلامها في تهكم العاطفة.
هل تذكر تلك الأمسية، يا ريناتو؟ البحيرة، المنارات، الأصوات
البعيدة.. غريب ما يحدث لي. أنا لا أنتمي إلى هذا العالم. وأنت
لم تفهمني، أنت لا تفهمني لأنك لا تعرف. اليوم سوف أغادر إلى
مصير مجهول. وداعا، أيها القارئ المجهول.
عبور، للحظة خاطفة، أوشك أن يعمي العين.. شيء كعقرب عصبي. الظل
عبَر الضوء النهاري الكئيب مثل جرح، مثل خراب، مثل شلال ناعس.
الهواء كان متخما بحيوانات رهيبة. والبحار البنفسجية البعيدة
وراء التخوم الآمنة للكرة الأرضية، كانت تؤرجح أطرافها التي
تسلب اللبّ.
جنون التواجد في مكانين، وفي وقت واحد، كان قد تحطم فوراً في
ذلك العصر المبشّر بانتصارات الخيال. العقل كان مكبلا
بالسلاسل.
عشاء على مائدة مستديرة، قتل بلا جرح، شلال فاتن، المضجع
والنيلوفر، رحم العاصفة، غيوم في كل مكان، منتزهات لا حد لها،
أحاديث مؤجلة.
المشاهد التي تصوّر مالومبرا وهي تمنح نفسها لحبيبها في الليل
عند حافة البحيرة، أو تعبر الماء مشحونة ببرود عدائي تجاه
الرجل الذي ينتظرها، أو تستسلم إلى هستيريا رائقة تحت الريح
الرمادية التي تطفئ المشاعل.. هذه المشاهد انتصار لما نرغب أن
نسميه الحب المطلق.
الحرق والبحث عن الاحتراق.
شخص ما، يده ملطخة بالدم، قد ألقى بنفسه في ذلك الامتقاع
الشديد.
هل تذكرين كل شيء؟ كل شيء. أنا لا أذكر شيئا لكنني أعرف أن تلك
اللحظة قد حانت يا سيسيلي. أي عالم هذا الذي تعيشين فيه؟ إني
أختنق. البحيرة لا يمكن رؤيتها إلا من الجناح الأيسر للقصر.
مالومبرا: استنطاق عند البحيرة، حركات هشة في العتمة، ألعاب
أشبه باستفزازات عرَضية، اشمئزاز من كل ما هو ليس حبا، لقاء
مفاجئ في حاضر الماضي.
إنها تتمدّد على محفّة، عاجزة عن الحركة أو الكلام. ثمة جياد
ممغنطة تثب فوق الحواجز، وبحيرات تمدّ أعناقها الشفافة، وعلى
مقربة كانت المرأة تجسّ نيراننا، حمّى أعصابنا، بأطراف
أهدابها: النيران كانت تدخل عينيها وتغادر دموعها.
سيسيليا، آه سيسيليا، ها قد جئت مع حبيبي لأراك تموتين، لأراك
تموتين، أراك تموتين. ثمة الكثير من العتمة في روحي، الكثير من
الكآبة. أنا على شفا التحوّل إلى حجر، أبرد من الحجر.
إلى جانب عشق القلب، عشق الحواس، عشق القريب.. هناك أيضا ذلك
النوع من العشق الذي فيه كل شيء ينكفئ ويتقهقر. الحياة موجة
العاطفة التي لا تُقهر. بعد ناديا ودورا وماتيلدا، مالومبرا
بدورها تلج الأقاليم السرمدية حيث الرغبة والشعر والصدفة تجدّد
السفر من الحياة إلى حياة جدلية تماما، محسوسة على نحو حتمي.
الكبح المبهم ينبغي أن يعلن عن عودته قبل أن يسدل الستار: لكن
الإلحاد الذي لا يتزعزع، الذي يرفعه رعب العيش الهستيري، يرفض
الفكرة الغيبية (التي تحاول عبثا التسلل إلى العاطفة) والتي
تقلّصت سابقا إلى غبار.
الحب النقي، ذو الجوهر المطلق، هو الشعور الذي يصبح غريبا على
نفسه. إنه يمكث ليُظهر إلى أي مدى خاصية الذوبان في الآخر تأخذ
شكلا محددا، وعلى المرء أن يتأمله فحسب في اقترانه بذلك الآخر.
نبضها واهن، أظافرها زرقاء، هي عادة تضطجع على ظهرها بعينين
مغمضتين. حين تبزغ من سباتها وتفتح ثانية عينيها، فإن حيادها،
لا مبالاتها الماكرة، تصعق كل ما حولها.
إن تحديقة هذه المرأة –التي تقمصاتها الفذّة ما تزال تقودنا
نحو الجرف المخملي- تختم الحب بنداء راسخ.
أعصاب قوية، قطط مضيئة، ألم شمسي، صرخات، أذرع ملتوية، خطوة
مترنحة على موجات من بلّور، تمتمة متفجّرة، بكاء موجع، تنهيدات
عميقة، غضب سحري، رعب العيش، صيحات خشنة، شَعر ملطخ بالدم،
ملابس ممزقة بشفرة حادة، معرض الانتحار، سرعة النظرات
المجنونة، احتيال متغطرس، فضيحة قاتلة، صرخات ضالة، تشنجات
شهوانية.. كل هذا، وشحوب الصمت أيضا، سوف لن يكون كافيا أبدا
للتعبير عن التحدي العنيد لكل ما هو ليس منبثقا من سحر الحب
الأبدي.
آه مالومبرا.
الجماعة
السوريالية في رومانيا
بوخارست 1947
هذا النص مستوحى من الفيلم السوريالي، على نحو غير مقصود، "مالومبرا"..
إخراج الإيطالي ماريو سولداتي، سنة 1942.
* * * *
كما لو في غابة
آنذاك رأينا في السينما مادة غنائية ببساطة تتوسل لأن تُجذب
كلية، بعون من الصدفة. أعتقد أن ما أثار اهتمامنا في السينما،
أكثر من أي شيء آخر، هو قدرتها الهائلة على إفقاد المرء حس
المكان والزمان.
هذا الإفقاد يحدث على مستويات عديدة. العجيب، الذي إلى جانبه
فضائل فيلم معيّن لا تؤخذ في الاعتبار إلا بدرجة قليلة، يكمن
في استعداد الوافد الأول إلى الصالة لأن يفصل نفسه عن حياته
الخاصة، إذا رغب في ذلك، على الأقل في البلدة الكبيرة، حالما
يجتاز أحد الأبواب التي تشرف على الظلمة. من لحظة جلوسه في
الصالة وحتى لحظة انزلاقه نحو القصة الخيالية التي تحدث أمام
عينيه، يجتاز النقطة الحرجة الآسرة وغير المدركة بالحس كتلك
التي توحّد اليقظة والنوم.
كيف يمكن لهذا المتفرج المتوحّد أن يضيع وسط غرباء بلا وجوه،
والذي في الحال يستغرق معهم في مغامرة لا تخصه ولا تخصهم؟ أي
إشعاع، أية موجات تتيح هذا الانسجام؟
المرء يرتاد السينما بالطريقة نفسها التي يرتاد بها شخص
الكنيسة، واعتقد أن، من زاوية معينة، وباستقلالية تامة عما
يدور على الشاشة، هناك –في السينما- يتم الاحتفاء بالطقوس
العصرية.
في ما يتعلق بهذا الطقس، ليس ثمة شك بأن الحب والرغبة من
الإسهامات الرئيسية فيها.. يقول رينيه كلير: "كل أسبوع، ولمائة
وخمسين مليونا من البشر، تتكلم السينما عن الحب (..) وقد
نتساءل عما إذا كانت صور الحب تلك لا تعتبر إحدى المفاتن
الأساسية للسينما، وإحدى أسرار السحر الذي تمارسه على
الجماهير".
الغريب في الأمر أن كلير ليس واثقا تماما من هذه الحقيقة. ما
هو أكثر تميّزا وخصوصية من بين فعاليات الكاميرا، قدرتها على
جعل قوى الحب تبدو مادية ومدركة بالحواس. وهذه القوى، رغم كل
شيء، تظل ضعيفة أو عاجزة في الكتب، ذلك لأنها ببساطة لا تستطيع
أن تصور إغواء أو حزن لمحةٍ ما أو أحاسيس معينة من الدوار الذي
لا يقدّر بثمن.
عجز الفنون التشكيلية في هذا الحقل بديهي (يتراءى لنا أن
الرسام لم يخوّل له بأن يعرض علينا صورة مشعة للقبلة). السينما
وحيدة في نشر وتعزيز إمبراطوريتها هناك.. وهذا وحده سيكون
كافياً لتكريسها.
السينما هي أول جسر مفتوح يصل النهار بالليل الذي يحطم
التناقضات.
قلت ذات مرّة: "إننا نعرف الآن بأن الشعر يجب أن يقودنا إلى
مكان ما". السينما لديها كل ما تحتاجه لكي تشترك في تحقيق ذلك
الهدف، لكن عندما نتأمل فعاليتها الخاضعة للمراقبة والتوجيه،
ندرك بأنها لم تتحرك خطوة واحدة في ذلك الاتجاه.
أندريه بروتون
– 1951
* * * *
صور تمارس الحب
حين أشاهد فيلماً فإنني أمارس عليه، بشكل محتوم، فعل الإرادة،
وبالتالي أحوّله، ومن عناصره المكشوفة أجعله "فيلمي الخاص".
إني أستل منه شظايا من المعرفة وأرى، على نحو أفضل، داخل نفسي.
من خلال التأويل يمكن أن تولد أفلام جديدة تجعل غموضها مرئيا
للجميع، وهذا قد يهيئ الأفلام لتأويل إضافي. التجربة ستكون
مثيرة. لو عهدنا بفيلم ما إلى عدد من الأفراد فإن كلا منهم،
فيما يشاهده من زاوية مختلفة، سوف يحوّله بحيث يؤكد "ما يراه"،
وهذه الرؤية الجديدة سوف تُعهد إلى شخص آخر، وهكذا. هذه الصورة
المحرّرة سوف تملأ العالم وفي النهاية تدمّر كل التناقضات.
تحويل فيلم ما يمكن تحقيقه بطرق مختلفة. أخبرني مان راي بأنه
إذا شعر بضجر أثناء مشاهدته الفيلم فإنه يقوم بتحويله تلقائيا
عن طريق فتح العينين وإغماضهما على نحو سريع، أو بتحريك أصابعه
أمام عينيه، أو بشبك الأصابع بطريقة متقاطعة، أو بوضع قماش
شفاف إلى حدٍ ما على وجهه. بهذه الوسائل، وبعشرات غيرها،
الشخصيات على الشاشة، والتي تفتقر إلى الغموض، تكتسب بعداً
إضافيا، والتشوش الآلي لوجودها يصبح منبّها قويا وفعالا
للمخيلة.
من جهتي، غالبا ما يحدث لي أثناء مشاهدتي فيلما مثيرا للاستياء
أن أستحضر مشاهد من فيلم آخر، أو رواية ما، ثم أقوم متعمدا
بمزج الشخصيات والعلاقات معا. النتيجة هي دائما رائعة
واستثنائية، ففي تقابل غير متوقع لعنصرين متناقضين تتخلق صور
جديدة ورائعة. ينبغي القول بأن ظلمة صالة السينما، المناخ
الفريد بجلاء لأفراد من ظلال يتحدثون ويعيشون لأجل أناس جامدين
من لحم ودم، تخلق محيطا مؤاتيا بشكل خاص لهذا النوع من تخطي
المشهد السينمائي، ومن ثم الحياة نفسها.
نقاد الواقع الظاهر والمدرَك هم صحفيون. ليس مجديا التمعن في
هذه المهنة (..) نقاد الواقع الكامن والمستتر هم شعراء
(بالتالي هم أكثر من مجرد نقاد). بتخطي المرحلة الصحفية، يجب
على نقاد السينما أن يصبحوا شعراء. إن المظهر الجليّ للأفلام
نادراً ما يكون فرصة مناسبة لتمجيد الروح. إنه محتواها الكامن
الذي لابد من التنقيب عنه. دعونا نمعن النظر بأعين جديدة في
أكثر الأفلام شعبية ورواجا لنكتشف فيها ثروة غير متوقعة.
النوع الشعري، شديد الاهتياج، من النقد، والذي يُدخل في
اعتباره كل ما هو غير مرئي، كل ما هو خفي وغامض في الفيلم، هو
النوع الوحيد الذي فيه الأساسي والضروري لابد أن يطفو على
السطح. يجب على الناقد أن يبدأ بانطباعه الذاتي العنيف، الصدمة
التي أحدثتها المجابهة بين كينونة الفيلم وكينونة الذات، من
أجل الكشف عن جماله المخبوء وجعله محسوسا.
الجانب الأول من هذه العملية، الشكل السوريالي-الذاتي، ذو
أهمية بالغة، ليس فقط كفعل نقدي بل أيضا كوسيلة لمعرفة ذاتية.
في أحوال كثيرة، حين أغادر الصالة، بعد أن فجّر الفيلم في
داخلي شيئا ما، أتجه إلى أقرب مقهى أصادفه وأجلس أمام الطاولة
ثم أدوّن، آلياً، انطباعاتي. دونما استقصاء أفكار أو تسلسل
منطقي، أملأ الصفحة تلو الصفحة. علاقات غريبة إلى أبعد حد
تتأسس بيني وبين الفيلم، تفسيرات فجائية ومبهرة تعرض نفسها،
تفاصيل دقيقة تتبدى بشأن معضلات تتخطى الفيلم وحياتي المكشوفة
أيضا. منابع مجهولة للإضاءة تلقي ضوءا على أقاليم معتمة
ومبهمة. المعرفة، الشكل الأسمى لكل فعالية، تبدو في حوزتنا وفي
متناول إدراكنا.
إني أعتبر هذه الممارسة ذات أهمية لا تقل عن أهمية تسجيل
الأحلام عند اليقظة. في حالته الفجة، غير المصقولة، يمكن أن
يكون لهذا النقد قيمة نسبية فقط لجمهور يحتاج إلى التنوير بشأن
الفيلم لا الانطباعات الشخصية للناقد، لكن نصوصا كهذه سوف تكون
ذات أهمية بالغة بالنسبة للفهم المتقدم عند أفراد معينين
يثيرون اهتمامنا بوجه خاص.
أعتقد أن النقد الحقيقي، الذي يجد المتعة والتشويق في المظهر
السرّي للفيلم، ينبغي أن يبدأ بالنقد الذاتي والآلي. ذلك النص
سيكون المرشد الضروري لإعطاء الانطباعات صفة الموضوعية،
ولتحليل الفيلم من جميع جوانبه.
السوريالية قبضت على المواد والأحداث لتنتزع الخصوبة والضوء
منها. الكلمات تحررت من قيودها، إنها "تمارس الحب". ثمة الكثير
من العمل الذي ينبغي القيام به من أجل الحقيقة السينمائية..
فالصور أيضا تستطيع أن تمارس الحب.
أدو كيرو
* * * *
عبور الجسر
طرح رينيه كلير اعتراضا هاما في مقالة بعنوان "السوريالية
والسينما" (1925) واضعا إمكانية التعبير التلقائي (الآلي) على
الشاشة في موضع الشك: "ما يهمني في السوريالية ما تكشفه لي من
قيم فنية نقية. إن ترجمة المفهوم السوريالي الأنقى إلى صور
يعني إخضاعه إلى التقنية السينمائية، وهذا قد يؤدي إلى فقدان
تلك (الآلية النفسية المحضة) قسطا كبيرا من نقائها (..) وحتى
إذا تعذّر على السينما أن تكون وسيلة تعبير كاملة بالنسبة
للسوريالية، فهي تبقى، مع ذلك، حقلا لا يضاهى للفاعلية
السوريالية بالنسبة لذهن المتفرج".
قد يبدو غريبا أن يصدر هذا التحفظ من الرجل الذي حقق فيلم
"استراحة". شخصيا أعتقد أن المرء لا يستطيع أن يؤيد هذا
الاعتراف دون الارتياب في الإلهام الجزئي الذي يتحرك في كل
الفنون الأخرى، بخاصة الرسم. صحيح أن الشعر وحده، الشفوي أو
المكتوب، قد برهن – طوال قرون وعلى نحو واسع- امتيازه في تزاوج
كل الانحرافات والحركات اللاواعية للقلب والعقل بشكل مباشر،
ذلك لأن الوسيط الذي يستخدمه – الكلمات- هو، من بين كل
التقنيات، الوسيط الذي يبدو، على نحو حميمي أكثر، جزءا من
ذواتنا. لكن "الآلية النفسية المحضة"، المحددة من قبل
السورياليين، لا تعمل في المجرد أو الفراغ، بل يمكن أن تشرع في
الحركة عن طريق أية أداة تصلح لتدوين ما تمليه من كلمات أو
صور. السوريالية كانت دائما تعترف بهذا التفاعل بين الفكر
الواعي واللاواعي والأداة. في البيان السوريالي الأول هناك
تعليمات بشأن تقنية الكتابة الآلية، وفي ما بعد، كانت هناك
الأدوات المساعدة للإلهام عند ماكس إرنست.
يبقى لنا أن نتأكد من أن الكاميرا كأداة هي مرضية مثلما اللغة
أو الفرشاة.
خلال سنواتها الخمس والعشرين الأولى، السينما لم تكن مؤهلة
تماما للواقعية (بمعنى وهْم الواقع) إلى حد أن أي تمثيل صادق
للحلم هو مستحيل إراديا كما هو النسخ الأمين للعالم الظاهري.
من جانب آخر، الفيلم كثيرا ما يصل إلى المحاكاة الإلزامية
للحلم. ظلمة الصالة، معادل لإغماضة الأجفان على شبكية العين،
وبالنسبة للفكر، معادل لظلمة اللاوعي. الحشد الذي يحيط بك
ويعزلك. الموسيقى المخدّرة على نحو مبهج. تصلّب العنق الضروري
لتوجيه تحديقة المرء.. كل هذا يثير حالة شبيهة بالنوم الجزئي.
على الشاشة حروف بيضاء على خلفية سوداء، خاصيتها النعاسية
واضحة. في الأخير، حين تُضاء الشاشة المبهرة، الشبيهة
بالنافذة، التقنية الفعلية للفيلم تستحضر الحلم أكثر من
اليقظة. الصور تظهر وتختفي، تتداخل، الرؤية تبدأ وتنتهي في
الحدقة، الأسرار تُفشى من خلال ثقب المفتاح، الصورة الذهنية
لثقب المفتاح. ترتيب صور الشاشة في الوقت المناسب هو مشابه
تماما للترتيب الذي يمكن أن يبتكره الفكر أو الحلم. لا النظام
الكرونولوجي ولا القيم النسبية للزمن هي حقيقية على نحو مخالف
للمسرح. الفيلم مثل الفكر، مثل الحلم، يختار بعض الحركات،
يؤجلها أو يوسعها، يقصي حركات أخرى، يجتاز ساعات وعصورا
وكيلومترات عديدة في ثوان قليلة، يسرع، يبطئ، يتوقف، يعود إلى
الوراء. إن من المستحيل تخيّل مرآة أصدق للفاعلية الذهنية.
على الرغم من رغبات غالبية صانعي الأفلام، فإن السينما هي
الشكل الأقل واقعية من بين كل الفنون، حتى عندما ينجح النسخ
الفوتوغرافي في خلق الوهم بالواقع المادي لكل عنصر منفصل.
السينما أصبحت الأداة الأفضل لترجمة الحلم. في كل مرحلة، من
معالجة الأساطير الغابرة بموضوعية إلى خلق أساطير جديدة، من
حلم اليقظة أو النوم الجزئي إلى الحلم الليلي، من هلوسات
أحدثها الجوع أو الإرهاق أو المخدرات أو الاختلال العقلي إلى
الأشكال الأكثر تعقيدا أو درامية للمدهش والخيالي.. هذه
الترجمة هي الحقل الحقيقي للسينما.
جاك برونيو -
1954
* * * *
* هذه المختارات من كتابات عدد من السورياليين في السينما
مترجمة عن كتاب "الظل وظله"
The Shadow and its Shadow، تحرير: بول هامون، منشورات معهد الفيلم البريطاني، 1978.
* العناوين من وضع المترجم.
|