كنت شاباً حساساً وسريع التأثر عندما قرأت حوار تروفو مع
ألفرد هيتشكوك، مطبوعاً في كتاب، والذي فيه يصف هيتشكوك كأس الحليب بيد بطل
فيلم
Suspicion
(اشتباه)، كاري جرانت، وهو يرتقي درجات السلّم، قائلاً: "لقد وضعت الضوء
مباشرة داخل الكأس لأنني أردت أن يكون الكأس مضاءً".
عند قراءة هذه الكلمات، اختبرت ما يسميه علماء النفس الوعي
غير السوي بالمعنى أو الدلالة.. أو كما يقول إيتالو كالفينو في نصه "لو أن
مسافراً في ليلة شتوية": "لقد فهمت أن الشيء يحتوي على رسالة لي، ويتعيّن
عليّ أن أكتشف معناها".
بصبر لا متناه، بدأت في جمع اقتباسات واستشهادات بدت أنها
توضح أو تركّب اللغز، مدوّناً إياها باختصار كلما صادفتها في كتاب أو
مطبوعة أثناء قراءاتي العامة. شعراء (ريلكه، ييتس، كوكتو، جاك سبايسر)
يزعمون، مثلما يزعم الوسيط الروحاني، أنهم يكتبون ما يُملى عليهم من
الخارج، من مكان خفي. اللاوعي هو بمثابة الخارج داخل كل واحد منا. يقول
روبن بلاسر، في كتابه ممارسة الخارج، "الكلمات، التي يتم العثور عليها أو
اكتشافها في كتاب ما، هي مستوى واحد من الإملاء".
التثبيت الموضوعي من قِبل حشد من المؤلفين المتفاوتين يؤكد
إحساسي الباطني اللاواعي: كأس هيتشكوك كان مضاءً لأن محتواه كان روحياً،
خارقاً للطبيعة.
يقول إي. نيوتون هارفي، في كتابه "تاريخ التألق"، "ظهور
الضوء بلا نار أو بلا حرارة يعني أنه متشرّب مباشرةً بالدلالة الخارقة
للطبيعة".
عندما وضع هيتشكوك ضوءاً داخل الكأس (لأنني أردت من الجمهور
أن يعتقد بأن الحليب مسموم.. حسب قوله) أنتج ضرباً من الضوء المضاد، مع
خاصيات تكون عادةً مرتبطة بالظلام. ضوء بارد، رطب، حيادي.. والذي يخفي أكثر
مما يضئ ويكشف.
لن يكون الحال هكذا لو أن الكأس يحتوي على سائل آخر غير
الحليب، حتى لو كانت مواداً سائلة غنية التركيب مثل النبيذ، الدم، الحبر،
الزيت أو الماء. هذه كلها مواد انبساطية وودية. في فيلم كوكتو "أورفيوس"،
الممثل جان ماريه يتلقى الأوامر من راديو في سيارة الموت الرولزرويس. إحدى
الرسائل المبهمة التي يتلقاها تقول: "كأس واحد من الماء يضئ العالم".
العالم المضاء بالماء سيكون عالماً مغموراً بضوء النهار، ذا
وضوح متألق، في الطرف المعاكس للطيف من العالم كأس من الحليب يضئ بنوره
المضاد: عالم داخلي من الظلال حيث هناك "الواقع في ما هو مخفي أكثر مما في
ما هو مرئي".. كما يقول غاستون باشلار.
رولان بارت، في "النبيذ والحليب"، يكتب: "النبيذ يشوّه، إنه
جراحي، يحوّل وينقل. الحليب تجميلي، إنه يضم، يغطي، يجدّد. علاوة على ذلك،
نقاء الحليب، المرتبط ببراءة الطفل، هو علامة قوة، وهو ليس محوّلا، ليس
محتقناً، بل هادئ، أبيض، رائق، مساو للواقع. بعض الأفلام الأمريكية، التي
فيها البطل، القوي والعنيد، لا يحجم عن شرب كأس من الحليب قبل أن يشهر
مسدسه المنتقم، قد مهّد السبيل لهذه الأسطورة الجديدة... الحليب يبقى مادة
غريبة جداً".
هنا، يقدّم بارت الحليب في هيئة خيّرة كما تروّج لها صناعة
إنتاج اللبن. لكن مثل البياض، الحليب متناقض. أسفل المظهر الخارجي للنقاء
والبراءة والقوة والسكون والرصانة، يكمن حليب آخر "فوسفوري بفعل كل
مناوشاته مع الظلام" (أنتونان أرتو). ومثلما "السر العميق للبراءة هو أيضاً
مصدر للقلق" (كيركجارد)، كذلك السر العميق للحليب هو، حسب تعبير الشاعر
الفرنسي جاك أوديبرتي، "سواده (أو ظلمته) السري".
بوضع الضوء فيه، يُظهر هيتشكوك أن الشيء الحميد ظاهرياً
يمكن أن يكون ضاراً أو شريراً. بياض الحليب لا يتضمن البراءة والنقاء فحسب،
بل أيضاً الفساد والفقدان.
يقول روبرت دونكان في قصيدته "ظلال":
انكسر الكأس
وانحسر الضوء عن الكأس
من جديد سوف نصنع الكأس.
ويقول جون كيج، في "محاضرة عن
لاشيء":
إنه مثل كأس من الحليب. نحن نحتاج الكأس، ونحتاج الحليب.
ويقول شارلز سيميك، في إحدى قصائده:
"العودة إلى مكان يضيئه كأس من الحليب".
إذن اية رسالة، إن كانت هناك رسالة، تمكّنني هذه الأجزاء من
الاقتباسات (التي سوف تتضاعف مع مرور السنوات) من استخلاصها من كأس
هيتشكوك؟ الكأس يصبح، بالنسبة لي، رمزاً للنفس المتكاملة، وقد تصالحت
المظاهر الواعية واللاواعية.
أعرف أن الكثيرين سوف يجدون شيئاً من الادعاء الذي لا يطاق
في مثل هذا الاستحواذ، متسائلين في استنكار: "هل حقاً رأيت كل هذا في كأس
من الحليب؟"
كدفاع أخير، وبالعودة إلى السينما، فإني أود أن أختم هذه
المقالة بهذه الكلمات التي قالها لويس بونويل، والتي أتفق معها تماماً:
"هذا الكأس نفسه، الذي يتأمله أفراد مختلفون، يمكن أن يكون ألف شيء مختلف،
لأن كل شخص يشحن ما يراه بفعالية. لا أحد يرى الأشياء كما هي، بل وفقاً
لرغباته وحالته الروحية. أنا أناضل من أجل السينما التي سوف تُظهر لي هذا
النوع من الكأس، لأن هذه السينما سوف تمنحني رؤية متممة للواقع، سوف توسّع
معرفتي بالأشياء والناس، سوف تكشف لي عالم المجهول المدهش، العالم الذي لا
أجده في الجريدة ولا في الشارع".
المصدر:
Sight and Sound, April 1993
|