المصدر الرئيسي الذي استخدمته، كعامل ملهم، كان قراءة نقدية لكتاب "ألف
ليلة وليلة". قراءة نقدية غريبة.
أنا لست مطلعاً بشكل جيد على الأدب العربي، ولا على التاريخ العربي. هل من
الممكن بناء قراءة نقدية لعمل ما من غير أن نكون واعين للبيئة أو السياق
الاجتماعي - التاريخي؟ بالطبع لا. لكن هناك بعض التعويضات.. على سبيل
المثال، معرفتي الوجودية بالعالم العشربي. وأستطيع أن أقول بأني أعرف عن
العرب على نحو أفضل مما أعرف عن أهالي ميلانو. (وهو الشيء الذي ينسجم مع
اهتمامي المفرط بالأمور التي تتعلق بالعالم الثالث). هكذا كنت قادراً على
إضفاء صبغة تاريخية على "ألف ليلة وليلة" لما تكونه هذه الحكايات الآن في
سياقها الشائع: وضعها قبالة العالم الذي تتحدث عنه، حتى لو تغيّر ذلك
العالم إلى حد ما.
علاوة على ذلك، البنيوية منهج نقدي يتيح للمرء أن يحلّل النص بحكم حقه
الشخصي، وكيف أن النص يتصل بمحيطه، وكيف يتم إنتاجه، وكيف يعمل، وكيف
يتشكّل عالمه. هذا ما فعلته. وينبغي أن أشير إلى أن الاكتشافات التخطيطية
الأولى لملاحظتي النقدية كانت ثنائية.
الاكتشاف الأول، أن الحكايات في "ألف ليلة وليلة" هي نتاجات سلسلة من
مراوغات والتواءات القدر. القدر يولّد، في نمط مخفي، كل الحوادث المألوفة
(ولادات، أعراس، وفيات). لكن أحياناً هو يستيقظ، يرسم لنا علامات مباشرة.
إنه "يظهر"، وهذا يعد شذوذاً، خروجاً عن القياس. كل حكاية في "ألف ليلة"
تبدأ بـ "ظهور" للقدر، والذي يُبدي نفسه من خلال الشذوذ، وكل شذوذ ينتج
آخر. هكذا تنشأ سلسلة من الأشياء الشاذة، الخارجة عن القياس. وكلما كانت
هذه السلسلة أكثر أساسية، ومعقودة بإحكام، ومنطقية، صارت الحكاية أكثر
جمالاً.. وبالجمال أعني الحيوية، الانتعاش، البهجة. سلسلة الأشياء الشاذة
دوماً تنزع إلى العودة إلى الحالة السوية. إن نهاية كل حكاية في "ألف ليلة"
تتألف من "اختفاء" للقدر، والذي ينحدر نحو النعاس السعيد في الحياة
اليومية.
إذن ما ألهمني في صنع الفيلم كان رؤية القدر وهو يعمل بخفّة، والمركّز على
واقع مربك. أنا لم أكن أريد أن انزلق نحو سحر أو سوريالية (والتي يمكن
العثور، في فيلمي، على بضعة آثار متفرقة منها غير أنها أساسية) لكنني أردت
أن أقترب من اللاعقلاني بوصفه كشفاً عن الحياة التي لا تصبح ذات دلالة أو
مغزى إلا إذا تم استنطاقها بوصفها "حلماً" أو "رؤيةً".
بناءً على ذلك، أنا حققت فيلماً واقعياً، مليئاً بالغبار ووجوه الفقراء.
لكنني أيضاً حققت فيلماً رؤيوياً، حيث الشخصيات تكون كما في حالة غشيان أو
نشوة، يكتنفها قلق لا إرادي في ما يتعلق بالأحداث التي تصادفهم وتحدث لهم.
هذا القلق يجعل سلبيتهم، بطريقة أو بأخرى، شهوانية بغرابة.
هناك مخطط إجمالي في لعبة القدر هذه (إرادة الله): هو منكبّ على إرغام رفاق
يوليسيس البسطاء، حتى لو لفترة وجيزة، على إتباع طريق الاستقامة والضمير،
في إطار "الكل باطل".
الاكتشاف الثاني كان هذا: بطل القصص، في الواقع، هو القدر نفسه، المدرَك
كحالة سويّة، وبوصفه أساس كل حادثة وحالة إنسانية. هنا نجد إضفاء الحالة
السوية، من خلال الدين والعرف، على الكثير مما كان مكشوفاً كشيء شاذ، غير
سوي.
غير أن مثل هذه النظرية في طبيعة الوجود لها أيضاً مناوئين، لكنها لا تكون
مرئية أبداً هكذا في "ألف ليلة". الخصوم الذين بلا اسم في القدر "السوي"
هم، في الواقع، السحر والمثلية الجنسية. القدر، دون أن يكون واعياً لذلك،
على ما يبدو، وبالتأكيد دون إظهار ذلك، يستخدم هذه التعبيرات لخلق أشياء
شاذة خارجة عن القياس. إلى السحر والمثلية الجنسية نستطيع أن نضيف السلطة
التي، في "ألف ليلة" تكون مرسومة بوصفها متشظية جداً، بما أن الحكام
العديدين (الملوك أو الأمراء، مع وزرائهم وحواشيهم) هم جميعاً متشابهون إلى
حد يمكن اعتبارهم أنماطاً. مع ذلك سيكون صعباً إظهار أن "السلطة" هي خارج
علم الوجود الذي يفسر الحياة. لكن ربما تكمن قوتها المعادية، القاتمة، في
أنها ليست سلطة وطنية مركزية. برغم ذلك ليس ثمة أي شك في أن البطل (القدر)
يستفيد بشكل واسع، في لعبته، من تشظي السلطة.
سلاسل الأشياء الشاذة هي عموماً متصلة بالرحلات الطويلة. في الواقع، يمكن
للمرء حتى أن يصوغ فرضية تقول أن البناء السردي في "ألف ليلة" يتألف من
التحام "سلاسل الأشياء الشاذة" مع "الرحلة الطويلة"، وفقاً للمخطط: الخروج
عن القياس.. سلسلة من الأشياء الشاذة.. الإزاحة.. العودة. تلك الإزاحة،
بصرف النظر عن الرحلة إلى نطاق جديد، رغم أنه محاذ لنطاق السلطة، يمكن أن
تكون إلى موضع سحري أو حتى حلم. من المفيد هنا أن نتذكّر أن الأساس لدراما
كالدروني، الحياة هي حلم، يمكن الآن إيجادها في "ألف ليلة".
الأيديولوجيا: كل الشخصيات في الفيلم هم من الصنّاع المهرة، من التجار
والفلاحين، وعلى نحو طبيعي، من الحكام والأشراف، لكن كما في كل المجتمعات
الإقطاعية، الفقراء والأغنياء يفكرون بالطريقة نفسها: هذا يتكشّف في نمط لا
يقبل الجدل بواسطة الحس الجمالي الشائع بينهم جميعاً.
حسب موقفي الماركسي، أنا أشجب عالم "استغلال الإنسان من قِبل أخيه
الإنسان"، وهذا الشجب أو الإدانة ليست ارتجاعية على الإطلاق. أنا لا أعتبر
"فقراء" الماضي "دون البشر" لمجرد عدم امتلاكهم الوعي الطبقي، ولأنهم لم
يثوروا، إلا على نحو نادر وغير نظامي، وبطرائق تماثل ما تفعله البروليتاريا
الرثة والفلاحين. أنا لا أدين ولا أزدري استسلامهم وإذعانهم وسلبيتهم. هذه
أيضاً أشكال من الحياة.
إذا كان الفقراء، في أغلب الحالات، "دخلاء ثقافياً" بالنسبة لثقافة السلطة،
فإنني لا أظن بأن الحال هكذا في العالم العربي كما هو مصور في "ألف ليلة".
هنا، الفقراء لديهم الثقافة ذاتها التي لدى الأغنياء: عالم السحر، المثلية
الجنسية، الإحساس بالجماعة، تشظي السلطة. هذه العناصر تبدو قديمة وتقليدية
بقوة، وهي ليست مقصورة على ثقافة الفقراء، لكنها أيضاً جزء من ثقافة
الأغنياء وذوي الامتياز والنفوذ.
ربما في وحدة الحكام والرعايا هذه تكمن فتنة وسحر عالم "ألف ليلة"، الفتنة
التي أجدها شخصياً قوية وفعالة جداً. ليس هناك رجل واحد، في عالم "ألف
ليلة"، لا يمتلك إحساساً عميقاً جداً بكرامته وشرفه، حتى الشحاذ الأكثر
بؤساً ليس محروماً من هذه الكرامة. لكنني لا أعرف بأي الوسائل الغامضة،
وعبر أي وحدة ثقافية، التي فيها يمتلك كل شخص حقه الخاص في الكرامة
الإنسانية، يتشكل ذلك الإحساس العميق، الصارخ والسعيد بإيروس (الحب
والجنس)، ويصبح جزءاً من التجربة الثقافية.
أليس في أوان الكبح والكبت تصبح التجربة الحسيّة أكثر حدّة، تصبح إيجابية
ومكثّفة؟
ما يؤخذ بعين الاعتبار هو التسامح الشائع بين عامة الناس، وليس التسامح من
قِبل السلطة. كل أخلاقية شعبية مؤسسة على الإجلال والاحترام هي متسامحة.
لقد صرت أبغض عالم البورجوازية الصغيرة الفعلي، الذي يتظاهر بالتسامح
(بقرار من السلطة الاستهلاكية). بذاك العالم أنا أعارض هذا العالم المتلاشي
والذي يظل باقياً على قيد الحياة في مناطق معينة من العالم الثالث، من
نابولي وجنوباً، مع أن ذلك قد تغيّر الآن إلى حد بعيد بفعل نماذج من
البورجوازية الصغيرة ذات النزعة الاستهلاكية والتسامح الزائف. وكلما تبدأ
هذه الصيغ الجديدة في الانسلال إلى الداخل، فإنها تخلّف وراءها القيم
الأكثر قُدماً.
إكراماً لمستوى البورجوازية الصغيرة، ذات السمات الغربية، في الحياة، صارت
الشعوب العربية (محتذية في ذلك حذو الشعب الروماني والصقلي) تتخلص من روح
التسامح الحقيقية، التي كانت تتحلى بها منذ أزمان قديمة، وتصبح متعصبة وغير
متسامحة على نحو رهيب (فيما تبدأ فئاتها النخبوية في إرضاء نفسها – كما حدث
في العالم الغربي – بالتسامح الصوري).
من أجل تخليص مستقبل كهذا من الروح الشريرة، حلمت أنا، في توق شديد لا يمكن
وصفه، بعالم يشبه العالم المصوّر في فيلم "ألف ليلة".
بالنسبة للقواعد الأسلوبية، فقد اتبعت قواعدي المألوفة والمعتادة: لا لقطات
متعاقبة، لا شخصيات خارج الشاشة، لا مخارج أو مداخل ضمن نطاق الكاميرا..
الخ. مع ذلك، ومن نواح معينة، ضاعفت من سلبية الكاميرا. باستثناء لقطتين أو
ثلاث لقطات مصورة بحركة (بان)، الكاميرا تكون غائبة أو غير محسوسة تماماً.
لقد سمحت للعالم المصور أن يتدفق تماماً مثلما تتدفق الأحلام والواقع.
بالتأكيد، في تلاعبه ولهوه البطولي بالأحداث، القدر لا يحتاج إلى عون من
الكاميرا. هذه الآلة لا يمكن إلا أن تكون تأملية.
أعرف أن النقاد ليسوا ميالين إلى اتخاذ موقف ودّي من إصراري على أفلام لا
تتعامل مع الحالات الواقعية، والتي هي غير أيديولوجية (على الأقل ليس
بطريقةٍ يمكن تمييزها أو إدراكها على نحو شائع ومبتذل). غير أني أعرف أي
التزام متّقد تجاه الواقع، وأي انشغال أيديولوجي مركّب، دفعني إلى تحقيق
هذه الأفلام.. أيضاً حس الطموح المطلوب. لو أن فلليني وجّه أدنى اهتمام
لتذمرات ومناكدات النقاد لما حقق أبداً فيلمه الجميل جداً "أماركورد". زمن
المبدع يختلف تماماً عن زمن الجرائد. لإرضاء نفسه، المبدع دوماً يحب أن
يكون مفرطاً. المشكلات الثقافية التي يجد النقاد سهولةً في التعرف عليها
وإدراكها، هي ليست مشكلات المبدع. حتى تمثيل الإيروسية في ثلاثيتي ليس لها
الوظيفة التي يميل النقاد إلى أن ينسبوها إليها: أعني أنها ليست ذريعة
لتحررية العلاقات الجنسية.
لا.. في الواقع، إذا توجّب على أفلامي، بالصدفة، أن تسهم في الأشكال
الراهنة من الإباحة، فسوف أرفضها. في الحقيقة، أنا أرى أن مثل هذه الإباحة
مخطط لها وموجّهة من قِبل أولئك الذين في السلطة. إنها تصدر من الأعلى، ثم
يتبناها الشعب، تحديداً الجيل الشاب الذي يبدو عصابياً بسبب الحصر النفسي
والقلق من إمكانية أن يكونوا على مستوى الحريات الممنوحة لهم. التمثيل الحر
للإيروسية في فيلمي الأخير هو تمثيل للعلاقات الجنسية في عهود تتسم بالكبت.
أظن لهذا السبب هي مجرّدة تماماً من أي مسحة من الابتذال والبذاءة.
الثلاثية [الديكاميرون (1970 عن قصص جيوفاني بوكاشيو) حكايات كانتربري
(1971 عن قصص جوفري شوسر) ألف ليلة وليلة] كانت من أكثر مشاريعي طموحاً،
والتي اقتضت مني اهتماماً شكلياً أكثر، والتزاماً أسلوبياً، أكثر حدّة
وكثافة. الفيلم السياسي – الأيديولوجي سهل، لكن الأكثر صعوبة هو تحقيق فيلم
صرف، محاولة خلق فعل صرف في السرد كما فعل الكلاسيكيون، مع إبقاء المرء
نفسه خارج الأيديولوجيات بينما، في الوقت نفسه، يتجنب التهرّب من الواقع.
إن أكثر من "عنصر" أيديولوجي متوار في هذه الأفلام الثلاثة التي حققتها.
العنصر الرئيسي هو الحنين إلى مرحلة ماضية سعيت إلى إعادة خلقها على
الشاشة.
مرئيةً من الداخل، مرئيةً من قِبلي، يجب أن أقول أن أفلامي الأخيرة، أفلام
"ثلاثية الحياة"، تصوّر تجربة آسرة ومدهشة. لكن النقاد كانوا عاجزين عن فهم
المعنى الذي اقترحته لي هذه التجربة، والتي تمثّل، بالنسبة لي، مدخلاً إلى
أكثر الاشتغالات الباطنية غموضاً في العملية الفنية.
المصدر: كتاب "بيير باولو بازوليني"، تحرير: بول ويليمن، مطبوعات المعهد
السينمائي البريطاني. |