(نتابع
حديث المخرج الفرنسي جورج فرانجو عن أفلامه)
* * * *
الرجل ذو
القناع القرمزي، في فيلم "رجل بلا وجه"، هو شخصية مسرحية متعددة. إنه يخلق
الشخصيات لنفسه، و هو ذاته صنيع مركـّب. إنه لا يؤدي دوره بل يلهو به. من
الإشارة إلى المعنى: أسلوبه واحد مع القصة و تعبيرها.
أردت في
هذا الفيلم أن أخلق مشهدية و التي بها أعني فيلما مستمدا من جمالية بصرية،
فيها تتعايش الضغينة و الدعابة في تناغم مثالي. المشهدية التي فيها الفعل
الشبيه بالحلم سيكون مؤكدا بقسوة عن طريق مشهدين واقعيين و قاسيين، بما أنه
من المفيد تذكّر أنك لا تستطيع أن تبدّد كل شيء بالضحك. الصورة السينمائية
موهوبة بقوتين مزدوجتين: قوة الاستبصار السيكولوجي و قوة الجاذبية أو
الافتتان.
البحث عن
الافتتان هو شأن آسر. الافتتان ينطوي بداهة على مقاومة معينة، لكن ينطوي
أيضا على وعي، عند الشخص المفتون. جاذبية الشر.
ولا علاقة
لهذا بالإغواء، الذي يتضمن سابق تصوّر و تصميم، رغم أن هذا موجود في
الافتتان الذي تمارسه المرأة على الرجال.
* * * *
الفنتازي
في فيلم "عينان بلا وجه" هو العملية الجراحية.. لأن الفنتازي ينبغي خلقه.
الغرابة تكمن في شخصية الطبيب. إذا ارتكبت الشخصية الشاذة، غير السويّة،
فعلاً شاذا، فإن ذلك أمر طبيعي تماما و بالتالي لا يكون مخيفا.
لكن
شخصية الطبيب ليست مخيفة على الإطلاق، فهو يحب ابنته، كما أنه شخص لطيف و
حنون جدا. و عندما يرتكب فرد سويّ ظاهريا، كهذا الطبيب، أفعالا شاذة و
شنيعة، عندئذ نكون أمام حالة غير طبيعية و مخيفة أيضا.
* * * *
حين تحدثت
ذات مرة عن "الفراغ المسكون" فإن ذلك كان متصلا بالجدران أكثر من النوافذ.
هذا يعود إلى حادثة وقعت لي عندما كنت في السابعة من عمري و ذلك حين أوشكت
على الغرق. يقال أن الغريق يرى في تلك اللحظة الحرجة كل ماضيه كما لو أمام
شريط سينمائي. لقد مررت بهذه التجربة عندما سقطت في النهر. في لحظة خاطفة
تبدت أمام بصري كل حياتي الماضية: أمي، جدي، جدتي.. و ذلك في سرعة فائقة و
بصفاء لا يصدق. مضيت بعيدا عائدا إلى الماضي، و لأنني كنت في السابعة فقط،
فإنني لم أضطر إلى قطع مسافة أبعد.
استفدت
كثيرا من هذه التجربة، صرت قادرا على بلوغ الذكريات الأكثر بعدا و غورا، و
بطريقة لم تكن متاحة لطفل في السابعة، محدود التجربة و بلا ذكريات وفيرة و
ماض مزدحم.
من بين
الذكريات المبكرة، أذكر حادثة مارست تأثيرا كبيرا علي: التدمير الذي لحق
بدكان جدي بفعل الحريق. ما أذهلني بشكل خاص هو منظر الجدران. التدمير شمل
كل الأجزاء الداخلية. و عندما وقفت أمام الواجهة بنوافذها الأشبه بمحاجر
جوفاء، شعرت بأنه لم يعد هناك أي شيء خلفها، لكنني لم أكن واثقا تماما من
ذلك. فبالرغم من كل شيء، تشعر بأنها كانت مأهولة يوماً ما. عندما تنظر إلى
تلك الواجهة من زاوية جانبية فإنها لا تبدو مثيرة للاهتمام. الأنقاض
الإغريقية أو الرومانية لا تثير الشعور ذاته لأنها آثار تاريخية. لكن عندما
تنظر من الأمام مباشرة، إلى هذا الشيء الذي لا يملك عمقا، و لم يعد مأهولا
و لا قابلا للإقامة فيه، فإن الهيكل الأجوف يعطي إحساسا لا يصدق بالغرابة.
ذلك هو ما أعنيه بالغرابة، ليس الفنتازي لكن الغريب. فراغ، لكنه الفراغ
المسكون. الخلاء الذي كان مأهولا ذات يوم.
* * * *
النوافذ
منافذ، مخارج، أمل. الكاميرا عندما تتحرك نحو النافذة فيما يغادر الضيوف
عند انتهاء الحفلة الراقصة في بداية فيلم "توماس المحتال" فإنها –
الكاميرا- توحي ربما بلمسة القدر: إلى أين هم ذاهبون؟ لكن في فيلم "تيريز
ديكيرو" النوافذ لا توحي بالأمل بل باليأس. إذا كنت بالداخل و نظرت إلى
الخارج، فإن النافذة تعني الأمل.. أما إذا كنت في الخارج و نظرت إلى
الداخل، فذلك يعني اليأس.
أذكر
عندما كنت أسجل موسيقى موريس جار، المؤلفة لفيلم "تيريز ديكيرو" – القطعة
المعزوفة على البيانو- قلت له أريد أن يكون صوت البيانو مدويّا في مصاحبته
لمشهد السيول المصور خارجيا. بعد ذلك تتحرك الكاميرا دائريا بحركة "بان"
فنرى تيريز في المنزل قادمة نحو النافذة. تقترب الكاميرا من النافذة و صوت
البيانو ينخفض تدريجيا، فيما الخارجي يتقهقر حتى نصبح داخل الغرفة و لا
نعود نسمع صوت البيانو على الإطلاق.
موريس جار
لم يستطع أن يفهم سبب رغبتي في ذلك المؤثر، لقد شعر بأننا ينبغي أن نفعل
العكس تماما. البيانو جوهريا آلة داخلية، تنتسب إلى الصالون، لذا عندما
تكون داخل البيت فمن الطبيعي أن تسمع البيانو على شريط الصوت. لكن في حالة
هذا الفيلم لا أحد يعزف على البيانو داخل البيت. بالتالي فعلى المستوى غير
السوريالي يكون مشروعا استخدام الصوت بشكل سوريالي.
من وجهة
نظري، البيانو الذي يُسمع من الخارج يمارس عليك تأثيرا أشد مما لو كنت
تستمع إليه داخل غرفة، ذلك لأنك لا تستطيع أن ترى العازف، عندئذ ربما تتخيل
فتاة جميلة و رقيقة تقوم بالعزف، و عندما تتخيل ذلك تصبح الموسيقى مفعمة
بعاطفة جياشة و تحرّك مشاعرك بقوة. بتحريك العملية الاعتيادية و المألوفة
في الاتجاه المعاكس، أعتقد أنني قد أمسكت بالمعنى الحقيقي لذلك المشهد،
مانحا عزلة تيريز حسا استثنائيا.
* * * *
هناك
دائما جانب جنائزي يتصل بأفلامي. إحساس بالطقس المشؤوم، الشعائري. ربما هذا
يفسر التماثلات التي قد تجدها بين أفلامي و أفلام كوكتو. في الواقع، لم أكن
قد شاهدت بعد فيلمه "أورفيوس" حين أنجزت "عينان بلا وجه". بعد انتهائي منه
عرضته على كوكتو، فأرسل لي مقالة رائعة كان قد كتبها عن الفيلم، بعد ذلك
دعاني لمشاهدة "أورفيوس". كذلك كتب مقالة ملفتة عن فيلمي "المسلخ". كان
واحدا من القلة الذين لاحظوا الجانب الشعائري للفيلم.
* * * *
كان إميل
زولا ينظر إلى نفسه ككاتب طبيعي. كان يهتم بالموضوعات الاجتماعية إلى حد
الاستسلام للواقع و انتهاكاته. هو بهذا المعنى كاتب واقعي، لكنه كان رؤيويا،
و قبل كل شيء: كان شاعرا. أنا مغرم جدا به رغم أن الجميع ينظرون إليه ككاتب
فقير الموهبة و ضئيل القيمة. إنهم يقولون: "زولا يكتب بشكل سيء بينما بروست
كاتب عظيم". هذا صحيح من ناحية الأسلوب. أسلوب مارسيل بروست، على المستوى
الأدبي الصرف، رائع و مثير للإعجاب، بعكس أسلوب زولا.
لست
متعصبا أدبيا، فأنا أحب القراءة لكنني متكيف بصريا أكثر. توجهاتي بصرية
أكثر منها أدبية. و بالنسبة لي، فإن روايات بروست مضجرة، أما روايات زولا
فهي مثيرة و مهيجة بشكل كبير. يضجرني المجتمع الذي يصوره بروست، بينما
يثيرني مجتمع زولا، ذلك لأن ثمة ما ينشط و يهتاج في هذا العالم: إثارة،
رغبات متقدة، شهوة إلى الحياة.
بروست
فاتر جدا و كل شيء لديه محسوب و مدروس بعناية. إنه يتجول في صالوناته راصدا
و شارحا. زولا لا يتجول في الصالونات بل في المجتمع البورجوازي، المجتمع
العمالي، مجتمع المعاناة و العذاب و المرض، مجتمع في حالة ثورة، و هو يصبح
مشاركا على نحو انفعالي و مشبوب في تلك الثورة.. إنها خاصية نادرة.
فرانسوا
مورياك، على الأرجح، يوجد في مكان ما بين هذين الكاتبين. و مع أن مورياك
كان يمقت زولا، إلا أنه كان أقرب إلى زولا منه إلى بروست. |