تكملة الحوار الذي أجراه ديفيد ستيريت، ونشر في
Film Comment
عدد يوليو/ أغسطس 2000
·
أنت واحد من جماعة صغيرة تسعى على نحو ثابت و مثابر إلى تحقيق أفلامها وفقا
لمبادئ و أفكار معينة تؤمن بها.. و هذه الجماعة تحرص على تربية جمهور
أفلامها و تعليمهم كيفية تقدير نوعية معينة من الأفلام و التي تشكّـل تحديا
صعبا. مع كل فيلم، نحن نفهم على نحو أفضل قليلا كيف نتعاطى و نستوعب
أعمالك..
# أعتقد
أن الفرصة التي توفرت لهذا النوع من السينما في الوقت الحاضر، لم تكن
متوفرة قبل عشرين سنة. الجمهور شعر بالضجر من نوعيات الأفلام التي يشاهدها
في هذه الأيام، و هم يرغبون في مشاهدة شيء مختلف. بالطبع، في إيران، هذا
النوع (الشعري) من السينما لا يجد إلا دار عرض واحدة فقط، و في الولايات
المتحدة لا يجد إلا صالتين.. لكنني قانع بذلك.
أغلب
الناس يرغبون في البساطة، يرغبون في الحصول على الإثارة، أن يبكوا و أن
يضحكوا.. و نحن لا نستطيع أن نتوقع المستوى ذاته من الحماسة ذاتها تجاه
السينما الشعرية. أنا لا أقارن أعمالي بأعمالهم، لكن إذا كان لديك لوحات
كاندنسكي أو براك أو بيكاسو في مزاد علني في منتزه، كم عدد الأشخاص الذين
سوف يشترونها.. حتى بسعر مئة دولار؟.. يتوجب على المرء أن يكون واقعيا في
توقعاته للفن الذي هو حقيقي و نقيض للترفيهي. الجمهور العام لن يدفع مقابل
لوحة لا يفهم جيدا ما تحويه و ما معناها.
·
أحيانا أفكر في هذه المسألة في ما يتصل بالأعمال التي تغلق التفكير – مثل
الشعر الذي كنا نضطر أن نتعلمه في المدرسة، و الذي يزودنا بالأجوبة و
الأفكار التي يريد غرزها فينا – كنقيض للأعمال التي تفتح مجالا للتفكير و
تصلح لأن تكون موضعا فيه نشغّـل تفكيرنا الخاص.
# أتفق
معك. الفيلم الشعري أشبه بأحجية، حيث تضع القطع معا لكنها لا تتوافق أو
تنسجم بالضرورة. بوسعك أن تقوم بأي ترتيب تشاء. بخلاف ما اعتاد عليه
الجمهور العام، هو لا يعطيك نتيجة واضحة في النهاية، و لا يقدم لك نصيحة.
·
بالعودة إلى فيلمك " الريح سوف تحملنا"، الثيمة التي تثير اهتمامي هي
التوتر الأخاذ‘ أو الحوار‘ بين ما هو فيزيائي، مادي، متجذر في الأرض، و ما
هو غير قابل للإمساك أو الفهم بطرق فيزيائية. هذا يجري على عدد من
المستويات، من بينها ذلك الاتصال داخل القرية – حيث الأفراد يتحادثون و
يتبادلون الأشياء- و على العكس من هذا، لدينا الهاتف النقال، المحمول على
الريح.. إن جاز التعبير.أنا مهتم برؤيتك بشأن كيفية ارتباط التجريدي أو غير
القابل للامساك بقصور حيواتنا الفيزيائية.. بحقيقة أننا كائنات مادية و
فانية. هل هناك توتر في فيلمك بين ما قد نسميه الفيزيائي و الروحاني؟
# في
الواقع أنا لم أشاهد فيلمي بعد. طوال عام كنت أشاهده كتقني، بمعنى أنني
لازلت قريبا جدا منه، بالتالي لا أستطيع أن أصدر حكما عليه. لكن أحد الذين
شاهدوا الفيلم أخبرني بأنه عن الأرواح، عن الناس الذين راحوا و لم يعودوا
أحياء.. على سبيل المثال، الرجل الذي يحفر الخندق، أو المرأة العجوز التي
تحتضر. نحن لا نرى حياتهم. و كما قلت، للفيلم جوهر فيزيائي، لكنه أيضا
يتضمن جانبا غير فيزيائي أو روحاني. نحن لا نرى بعض الشخصيات، لكننا نشعر
بوجودهم. هذا يظهر أن ثمة إمكانية للوجود دون وجود.. تلك هي الثيمة
الرئيسية للفيلم، كما اعتقد.
·
الوجود دون وجود..هل يمكنك أن تتوسع في ذلك؟
# مع هذا
النوع من الأفلام، نحن كمتفرجين، بوسعنا أن نخلق أشياء وفق تجاربنا
الخاصة.. أشياء لا نراها، أشياء هي خفية، غير منظورة. في الفيلم 11 شخصا
غير مرئيين. في النهاية أنت تعلم بأنك لم ترهم، لكنك تشعر بأنك تعرف من
يكونون و مكان وجودهم. إني أريد أن أخلق نوعا من السينما و الذي يُظهر عن
طريق عدم الإظهار. هذا مختلف جدا عن أغلب الأفلام في هذه الأيام، و التي هي
ليست إباحية حرفيا لكنها إباحية في الجوهر، لأنها تُظهر الكثير، إلى حد
أنها تحرمنا من أي إمكانية لتخيل الأشياء بأنفسنا. إن هدفي هو إتاحة الفرصة
لنا لكي نخلق الأشياء في أذهاننا. من خلال الخلق و المخيلة أريد أن أنزع
المعلومة المتوارية داخل ذاتك و التي ربما لا تعلم بوجودها داخلك.
لدينا مثل
بالفارسية، عندما ينظر شخص إلى شيء ما بحدّة، نقول: لهذا الشخص عينان و
استعار عينين إضافيتين.. تلك الأعين المستعارة هي ما أريد أسرها، الأعين
التي سوف يستعيرها المتفرج ليرى ما يوجد خارج المشهد الذي ينظر إليه.ليرى
ما يوجد هناك و أيضا ما لا يوجد.
·
من هم المخرجون الذين تشعر في أعمالهم بشيء
من التماثل؟
#
(التايواني) هاو شاو- شن
Hou
Hsiao-Hsien هو أحدهم. أعمال تاركوفسكي تعزلني كليا عن الحياة الفيزيائية
و هي أكثر الأفلام التي شاهدتها روحانية. إن ما فعله فلليني، في أجزاء من
أفلامه، و هو جلب حياة الحلم إلى الفيلم، يفعله تاركوفسكي أيضا. أفلام ثيو
أنجيلوبولوس أيضا تجد هذا النوع من الروحانية في لحظات معينة.
عموما،
أظن أن على الفيلم، و الفن بوجه عام، أن يأخذنا بعيدا عن الحياة اليومية،
ينبغي أن يأخذنا إلى حالة أخرى، حتى لو أن الحياة اليومية هي المكان الذي
تنطلق منه هذه الرحلة. هذا ما يمنحنا الراحة و الطمأنينة. إن زمن شهرزاد و
الملك، زمن سرد القصص، قد انتهى.
·
بطل فيلمك " طعم الكرز" يبدو أنه يريد هروبا كاملا من الفيزيائي، المادي.
كان يمكن لمخرج تقليدي أن يحوّل هذا إلى حكاية سيكولوجية، و هذا ما لا
يريده فيلمك، ذلك لأننا لا نفهم الطريقة التي بها يفكر هذا الرجل، لا في
البداية و لا في النهاية. لذا فإن هذا الفيلم أيضا يبدو أنه يهتم بالبحث
للمضي، بطريقة ما، وراء الفيزيائي، حتى لو كان ذلك يعني الاضطرار لأن يكون
سلبيا جدا، و هذا يتصل، مرّة أخرى، بالتوتر بين المادي و الروحاني..
# متفرجون
مختلفون لديهم آراء مختلفة بشأن هذا الفيلم. القيام بمحاولة الانتحار هو
أمر محرّم في الإسلام، و لا يستحسن الحديث عنه. لكن بعض رجال الدين أعجبوا
بالفيلم لأنهم شعروا بأنه- كما أشرت أنت- يُظهر بحثا للارتباط بشيء أكثر
سماوية، شيء هو فوق الحياة الفيزيائية. المشهد قرب النهاية، حيث نرى الشجرة
تثمر الكرز، مع صور أخرى جميلة، يحمل – هذا المشهد- تلك الرسالة: لقد فتح
الباب إلى السماء، و ما فعله لم يكن شيئا جهنميا، بل هو انتقال سماوي.
·
هل واجه فيلم " طعم الكرز" صعوبات مع الرقابة
بسبب موضوعه؟
# كان
هناك خلاف بشأن الفيلم، لكن بعد أن تحدثت إلى السلطات، أقروا واقع أن هذا
ليس فيلما عن الانتحار، بل أنه عن الاختيار الذي نقوم به في الحياة، و أن
ننهي هذا الاختيار متى نشاء. لدينا باب نستطيع فتحه في أي وقت، لكننا نختار
أن نبقى. و واقع أن لدينا هذا الخيار يبرهن على رحمة الله. الله رحيم لأنه
منحنا هذا الخيار. الرقباء كانوا سعداء بهذا التفسير.
إن جملة
من فيلسوف، من رومانيا، ساعدتني كثيرا في تحقيق هذا الفيلم: " لولا إمكانية
الانتحار، لقتلت نفسي منذ زمن طويل". الفيلم هو عن إمكانية العيش، و كيف أن
لدينا خيار أن نعيش. الحياة ليست مفروضة علينا. تلك هي الثيمة الرئيسية
للفيلم.
·
أنت لا تعمل انطلاقا من سيناريو بل من مخطط تمهيدي، ربما صفحات قليلة. و
معروف عنك أيضا أنك تقوم بتركيب الكثير من الأداء و الحوار في الدقيقة
الأخيرة.. ما هو امتياز العمل بهذه الطريقة؟
# خلق
الحوار في الموقع أمر ضروري، لأنها الطريقة الوحيدة التي بإمكاني العمل بها
مع أفراد هم ليسوا ممثلين محترفين، و بعض اللحظات التي تراها في أفلامي
فاجأتني مثلما فاجأت الآخرين. أنا لا أعطي الحوار للممثلين، لكن ما إن تشرح
لهم المشهد حتى يشرعوا في الحديث، متجاوزين ما كنت أتخيله. ذلك أشبه بحلقة،
لا أعرف من أين هي تبدأ و لا أين تنتهي.. لا أعرف ما إذا كنت أعلمهم ما
ينبغي أن يقولوه، أم أنهم يعلمونني ما ينبغي أن أتلقاه. |