بدءاً من فيلم "بييرو المجنون"
(1965) Pierrot le Fou،
راح المخرج الفرنسي جان لوك جودار
Jean-Luc Godard
يبحث
عن معجم سينمائي جديد وثوري. موقفه المعادي للسياسة
الأمريكية والرأسمالية والامبريالية، يجد تعبيره
الصريح والمباشر منذ هذا الفيلم وما يليه.
من خلال حبكة مبعثرة، غالباً ما يتعذر سبر غورها،
مستمدة من رواية "استحواذ" للكاتب الأمريكي ليونيل
وايت، نتابع العلاقة الملتبسة بين فردينان (جان بول
بلموندو) الذي يهجر زوجته وأطفاله ووظيفته وأسلوب
حياته البورجوازية، ليرحل مع ماريان (أنّا كارنينا)
جليسة أطفاله، تلك التي كانت تعنى بالأطفال مقابل أجر
خلال غياب ذويهم. ويتضح في ما بعد أنها امرأة غامضة،
مراوغة، ومدمرة. وهو يتبعها نحو عالم من العنف والحب
المجنون.
في بداية الفيلم، نرى فردينان (الذي تخلى عن وظيفة
المدير التنفيذي في محطة تلفزيونية) وزوجته يحضران
حفلاً فاخراً، من خلاله يريد والد زوجته أن يعرّفه على
كبار الشخصيات العاملين في حقل النفط. عبر سلسلة من
المشاهد أحادية اللون، فردينان يتواجد مع مجموعات
مختلفة من الضيوف ينخرطون في نقاشات يهيمن عليها خطاب
الاعلان التلفزيوني أو التعليقات المتصلة بالسلع
التجارية.. بمعنى آخر، هيمنة الإستهلاكية البورجوازية
للمجتمع الرأسمالي. وهو لا ينتبه لأية كلمة تقال،
ويبدو في هذه المشاهد مستغرقاً في أفكاره الخاصة،
متحركاً بينهم كالسائر في نومه، بل يجد في ما يدور
حوله حافزاً له للهرب والانطلاق بعيداً.. وإن كان غير
واع لجوهر وطبيعة الوضع القائم على المستوى السياسي
والفكري، لذلك هو لا يستنطق ولا يستجوب بل يبتعد.
في الحفل يلتقي بضيف صامت ووحيد، هو المخرج الأمريكي
المعروف صمويل فولر، فيتقدم نحوه ويسأله عن تعريف
للسينما، وفولر يرد قائلاً: "هي أشبه بساحة معركة.
تتضمن الحب، الكراهية، الحركة، العنف، الموت.. بكلمة
واحدة، العواطف".
في الحفل، تحديداً في تلك المشاهد، هو يفكر في ماريان،
وكيف تظاهر أمام زوجته (التي اقترن بها بسبب ثرائها)،
عندما عرّفته عليها، بأنه يراها للمرة الأولى، في حين
أنه أقام معها علاقة عاطفية قصيرة، قبل خمس سنوات. وهو
الآن يعشقها بجنون. (وهي الخاصية المفتقدة في علاقته
بزوجته). وتجدر الإشارة هنا إلى أن بييرو هو الاسم
الذي تطلقه ماريان على فردينان.
هذه العاطفة من بين العناصر الأساسية المتضمنة في
استيائه من حياته وأسلوب حياته. هو يهجر عالمه
المحدود، الرتيب، ليخوض مغامرة مجهولة في عالم غير
مستقر، مع امرأة ذات طبيعة متقلبة، وذات نزوات مفاجئة،
لا يمكن التنبؤ بها. ماريان تتحرك وتعيش وفقاً
لطبيعتها وغرائزها الخاصة، غير محكومة بما يفرضه أو
يمليه المجتمع البورجوازي. إذن هي رحلة لخلق الذات
ولتدمير الذات في آن.
إنهما يسرقان نقوداً من عصابة من مهرّبي أسلحة، بينهم
شقيق ماريان. ثم نكتشف أنها ارتكبت جريمة قتل.
والاثنان يظلان هاربين طوال الوقت، من العصابة والشرطة
معاً. في رحلتهما جنوباً من باريس، هما يقيمان في غرف
الفنادق أو ينامان في الغابات أو الشواطئ.
لدى فردينان جوع إلى كتابة شيء ذي مغزى ودلالة وله
قيمة. عشقه الجنوني للمرأة يلهمه لأن يغوص في كتابة
يوميات تثمر نتائج فلسفية وشعرية. بينما هي تعيش
مغامرة محفوفة بالمخاطر، لا تبدو مكترثة كثيراً بجريمة
القتل التي ارتكبتها، أو الخطر الذي يتهددها من جراء
ارتباطها الملتبس بالعصابة الإجرامية.
ومع أنهما متلازمان جسمانياً، إلا أنهما منفصلان
ومتباعدان روحياً وثقافياً.. رغم توق فردينان إلى
الاندماج معها والتوحد بها عبر كل المستويات. هي تشعر
بعاطفة الحب تجاهه، لكنها تعترف له بقلقها من أن تكون
علاقتهما العاطفية قصيرة وعذبة. في الواقع كلاهما
يبدآن في إدراك أن العلاقة بينهما محكومة بالفشل.
الاختلافات بينهما تتسع وتتعمق. هو يحب قراءة الكتب،
بينما هي لا تكترث بالكتب.. "أريد أن أعيش فحسب" هكذا
تقول. أيضاً تخبره: "لا أحد منا يفهم الآخر. أنت تتحدث
معي بالكلمات، وأنا أنظر إليك بالمشاعر". في النهاية،
لكي تنقذ نفسها، هي تخون حبيبها. غير أنه يقتلها ثم
ينتحر.
هذا العمل، الذي صوره راؤول كوتار أيضاً، يتسم بجمال
بصري، فيه الألوان موظفة بشكل جذاب جداً، المواقع
والمناظر الطبيعية بديعة، ويتضمن العمل لوحات تشكيلية
وقراءات أدبية وفنية. يقول جودار: "هدفي الأصلي كان
مشابهاً لهدف الرسام".
جودار يعمل عادةً بطريقة حدسية، غريزية. إنه يفضّل أن
يجمع العناصر التي يحتاجها (المواقع، المناظر،
الأزياء) ثم يشتغل بطريقة عفوية، تلقائية، مزوداً
الممثلين بصفحات من السيناريو كتبها الليلة الماضية.
في حديثه عن الفيلم إلى مجلة كاييه دو سينما، قال
جودار: "إنه فيلم تلقائي تماماً. لم يسبق لي أن كنت
قلقاً إلى هذا الحد مثلما كنت قبل يومين من تصوير
الفيلم. لم يكن لدي أي شيء. لا شيء على الإطلاق. لا
فكرة لدي عما أريد أن أفعله. حسناً، كان لدي الرواية،
وعدداً معيناً من المواقع. كنت أعرف أن أحداثه ستدور
قرب البحر. صوّرت العمل كما كانوا يفعلون أيام السينما
الصامتة.. ماك سينيت وآخرون. (..) هذا فيلم عن
المغامرة أكثر مما هو عن المغامرين".