ذات مرة تحدث أكيرا كيرساوا عن المخرج
اليوناني ثيو أنجيلو بولوس قائلاً: «أنجيلو بولوس
يرصد الأشياء، في هدوء
ورصانة، من خلال العدسات،
أن ثقل هدوئه وحدة نظرته الثابتة هي التي
تمنح
أفلامه قوتها».
«تحديقة
يوليسيس »gaze«
ulysses
(٥٩٩١) هو الفيلم
العاشر الذي أنتجه وأخرجه أنجيلو بولوس،
وكتب له السيناريو مع الإيطالي
تونينو جويرا، وعنه حاز على جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد العالميين في
مهرجان كان، وجائزة أكاديمية الفيلم الأوروبي كأفضل فيلم أوروبي
عرض ذلك
العام.
الفيلم يعالج درامياً أزمة الفنان في واقع مضطرب محفوف
بالمخاطر، ويطرح السؤال المحوري:
كيف يمكن لمخرج سينمائي أن يتحفظ بولعه
وشغفه بالسينما في
عالم حافل بالفوضى والجنون والظلم والقتل.
كذلك يحتوي
الفيلم على أغلب موضوعات وهواجس واهتمامات أنجيلوبولوس الذي لا
يقدم نفسه
كمؤرخ أو باحث اجتماعي أو محلل نفساني، بل كفنان واع على نحو حاد للقضايا
الجوهرية، وتؤرقه مشكلات عصره وزمنه،
التي تنعكس على شاشة عريضة يرسم عليها
لوحته البانورامية، حيث يرتبط مصير الفرد بمصير الجماعة.
من خلال بطله،
المخرج السينمائي، يأخذنا أنيجلو بولوس في
رحلة أخرى عابراً الحدود -
واقعياً ومجازياً - ساعياً الى سبر الأزمة الذاتية للبطل وارتياد مشكلات
الأمم البلقانية في
آن واحد، باحثاً من خلال ذلك عن اشارات الأمل في زمن
التفسخ والموت.
الفيلم يفتتح بتضمين من أفلاطون يقول: »... وهكذا فإن
الروح أيضا، اذا رغبت في
معرفة نفسها، سوف يتعين عليها أن تنعم النظر في
الروح«.
إن أنجيلوبولوس لا يعني بالتحديقة هنا نظرة المرء الى الآخر،
لكن أيضاً المعرفة بالمعنى الفلسفي.. أن تحدق في
روح الآخر وتعرفها.
فالفيلم لا يستحضر فقط أوديسة هميروس (من خلال العنوان الذي
يشير اليها
صراحة) بل أيضاً - ومن خلال هذا الاقتباس أو التضمين - يستحضر التقليد
الإغريقي في
التأمل والبحث الفلسفي المتثمل في أفلاطون، مشيراً الى
الإرث الثقافي لليونان المعاصرة.
إنه يستدعي اتجاهين مختلفين من
التقاليد الأغريقية: هوميروس ورؤيته الملحمية للعالم،
والتي يتجلى فيها الشعر
والخيال البشري في أسطع صوره أفلاطون الذي
تتمثل فيه روح الاستجواب والشك
والتفكير الفلسفي، فالتضمين المكتوب على الشاشة
يدعونا أن نفهم رحلة البطل
بوصفها رحلة نحو النفس الباطنية.
مخرج سينمائي (يؤدي دوره الممثل
الأمريكي هارفي كايتل) يبحث عن فليم مفقود منذ بداية القرن العشرين حققه
الإخوان ماناكيا ويعتقد بأنه أول شريط أنتج في
البلقان. هذا البحث يفضي به
الى القيام برحلة طويلة وشاقة انطلاقا من اليونان (التي
عاد اليها المخرج بعد
أن أمضى ٥٣ سنة في أمريكا لحضور عرض أعماله في البلدة التي شهدت ولادته)
وعبر حدود دول البلقان
(ألبانيا مقدونيا، بلغاريا، رومانيا،
بلغراد)
حتى يصل الى سراييفيو التي تمزقها حرب طاحنة.
وكما هو الحال مع أعمال
أنجيلوبولوس فإن الفيلم يتخطى خصوصية محيطه ليتناول شؤونا كونية أكثر:
الطبيعة
الإشكالية للحدود (الجغرافية والسيكولوجية معاً)، عبثية الحرب،
علاقة
الفيلم بالتاريخ والسياسة، البحث اللانهائي عن الحب والبراءة والإحساس بالهوية
الشخصية. بالتالي فإن الفيلم هو في آن ملحمي وشخصي
بعمق.
الإخوان
ماناكيا - كما نفهم من البطل - كانا يتجولان هنا وهناك
- في بداية القرن
الماضي - ويصوران كل شيء. كانا يحاولان توثيق قرن جديد،
عصر جديد. لأكثر
من ستين عاماً هما صور الوجوه والأحداث الدائرة في أرجاء البلقان المضطربة.
لم يكونا معنيين بالسياسة أو القضايا العنصرية أو
الأصدقاء أو الأعداء. كانا
مهتمين بالناس. لقد صورا المناظر الطبيعية والعادات
المحلية والاحتفالات الشعبية
والرسمية والتحولات السياسية والثورات والمعارك والشخصيات السياسية
والدينية.
وبطل الفيلم (المخرج السينمائي) يبحث، على نحو استحواذي،
عن
أفلام الأخوين المفقودة، والتي قد يجدها في أرشيف ما أو معمل ما، شاعراً
بأن هذه الأفلام ليست فقط »تحديقة مفقودة،
براءة مفقودة، بل هي أيضا
تحديقته الأولى المفقودة منذ زمن طويل.
في هذه الرحلة يتداخل الحاضر
والماضي الى حد الإندماج، ويختلط الحلم والذاكرة،
وينهار الحد الفاصل بين
الحقيقي والمتخيل. الخيال يصبح الواقع والسينما معاً بالنسبة لمخرج
سينمائي ممسوس برسالة ما، بمهمة ما. وهو مثل
يوليسيس - كما صوره هوميروس -
ينتحل هويات عديدة، ويصبح أكثر من شخص واحد.
مرةً يحسبونه أحد الأخوين
ماناكيا ويكاد أن يتعرض للإعدام. ومرةً،
في بوخارست، تأتي اليه امرأة
مرتدية ملابس تنتمي الى مرحلة الأربعينيات وتخاطبه بوصفه إبنها وهو أيضا
يدعوها
أمه لنكتشف بأنه يعيش طفولته في الأربعينيات حيث يعود الى بيت العائلة
ويلتقي بأقاربه
»الموتى« الذين يستقبلونه ويرحبون به باعتباره طفلاً،
ويلتقي أيضاً بأبيه الخارج من السجن والذي يتزامن مع مجيء العام الجديد
.٥٤٩١.
والجدير بالذكر أن هذا المشهد الطويل، المتواصل دون قطع لمدة
٥١
دقيقة، يغطي
فترة زمنية طويلة: خمس سنوات. وخلال هذه الرحلة، كل امرأة
يلتقي بها تصبح تجسيداً لامرأة من الماضي أقام معها علاقة حب.
الماضي
يلتحم بالحاضر على نحو يصعب فهمها.. ليس ذهنياً فحسب، بل فيزيائياً
أيضاً. إن حركة كاميرا ضمن الحيز نفسه ينقلنا زمنياً
من الحاضر الى
الماضي.
في الأخير يصل الى سراييفو: البقعة التي لا توفر أي
أمل،
أي خلاص، أي عزاء حيث النقص الحاد في المياه والمؤن، حيث القصف اليومي
والشوارع المهجورة والجثث المتناثرة.
وحيث الضباب أحياناً (أفضل صديق
للإنسان) إذ عندها يجد القناصة صعوبة في الرؤية فيخرج الناس من مخابئهم..
أفراد ينتمون الى مختلف الأعراق والمذاهب المتناحرة،
يخرجون ليحتفلوا
بالموسيقى والرقص والتمثيل.. كأن المدينة تتحول فجأة،
والناس يهنئون بعضهم
بعضاً لأنهم لا يزالون أحياء.
وهناك في مبنى الأرشيف المتهدم، في
معلم لتحميض الأفلام، ينجح البطل أخيراً في
العثور على أشرطة الأخوين
ومشاهدة التحديقة الأولى، وذلك بمساعدة الرجل العجوز الذي
يشرف على المبنى
والذي يقول عن نفسه، ما أنا إلاّ جامع للتحديقات المتلاشية والإثنان
يشهدان
معا إطلاق سراح التحديقة التي ظلت حبيسة العلب المعدنية منذ بداية القرن
العشرين.
لكن هذا العجوز سرعان ما يقع ضحية حرب وحشية وعبثية اذ
يتعرض هو
وعائلته الى التصفية الجسدية قرب النهر.. وبسبب الضباب الكثيف نحن لا نرى الجريمة
وهي تحدث (وأنجيلوبولوس في أفلامه لا يهتم بإظهار الحدث العنيف ذاته بل
تأثير الحدث) إن الأصوات التي نسمعها توحي بالمجزرة المرعبة التي
هي على
وشك الحدوث: أصوات احتجاج وتوسل وبكاء ثم إطلاق نار وأصوات أجسام تتساقط في
المياه. كذلك نحن لا نرى ردة فعل البطل الواقع
بعيداً.
وعندما يحل الصمت
التام، يهرع عبر الضباب ليرى الفاجعة ماثلة أمامه.. ولا
يملك غير أن يطلق
صرخات غضب وعجز ويأس وألم واحتجاج.
الفيلم عبارة عن أسفار (أوديسه)
ثلاثية. في المستوى الأول: هو بحث عن جذور السينما في
دول البلقان،
وبالتالي في السينما نفسها.. في قوتها وإمكانيتها.
إن بطل الفيلم (المخرج)
في محاولته لإعادة اكتشاف الأشرطة المفقودة فإنه
يأمل في إعادة
البراءة الى تحديقته السينمائية الخاصة. المستوى الثاني:
رحلة عبر تاريخ
البلقان حتى مأساة البوسنة. المستوى الثالث:
الرحلة الشخصية لرجل عبر حياته
وعلاقاته وما فقده طوال مسيرته الفنية والحياتية.
إن ما يسعى إليه
إنجيلوبولوس، على نحو خاص، هو الرحلة الداخلية، الحقيقة الروحية.
إنه
يخلق سراييفو الخاصة به.. واقعياً ومجازياً إذ لا يوجد في سراييفو أرشيف
للأفلام ولا أوركسترا مؤلفه من الصرب والكروات والمسلمين يعزفون في
الضباب
تحدياً للقناصة المتمركزين في التلال المحيطة.
إنها قصة ميثلوجية. وهو
لا يقدم إعداداً سينمائية للأوديسة بل - على حد تعبيره - نمطاً
أو مثالا
والذي يستخدم غالباً من أجل التباين وليس المحاكاة«. ومع أن أنجيلو بولوس
يمتلك رؤية سياسية وأخلاقية خاصة تجاه حرب البوسنة،
إلاّ أنه لا يقترح -
عبر فيلمه - أي مغزى سياسي بسيط يتعلق بتلك الحرب.
في عدد قادم
نستعرض حديث المخرج أنجيلوبولوس عن فيلمه هذا وأشياء أخرى. |