هذه هي المقالة الثانية عن
فيلم فلسطيني
إيليا سليمان کيد
إلهية.
كتبها
S.F Said
ونشرت في
مجلة Sight and sound،
عدد يناير
2003،
يليها حوار مع المخرج.
فيلم إيليا سليمان عبارة عن
فسيفساء من النقوش
الصغيرة، أو الصور
الموجزة، المركبة علي نحو جميل لسير الحياة الفلسطينية في ظل الحكم الإسرائيلي.
الفيلم هزلي، لاذع سياسياً، وجريء فنياً، إنه أحد الأفلام التي
حظيت باهتمام كبير في
مهرجان كان 2002،
وحاز علي جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد العالميين.. فيما
شر الكثيرون بأنه كان يستحق الجائزة الكبري، السعفة الذهبية،
نظراً لكونه الفيلم
الأكثر جدة في المسابقة.
أثناء تصور الفيلم، تعرضت
عملية
السلام الفلسطيني -
الإسرائيلي إلي الانهيار، والدبابات الإسرائيلية دمرت المدن
الفلسطينية، وکالانتحاريون
الفلسطينيون
تسببوا في مجازر في إسرائيل. ومع أن فيلم سليمان يقوم علي
وقائع تعتمد الحالة الموضوعية دون تأثر بالعواطف الشخصية، إلا أنه
يزداد غني عندما تتم
قراءته علي خلفية تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي المستمر..
خصوصاً حروب
1984
و
1967
التي علي ضوئها صار الفلسطينيون تحت الحكم
الاسرائيلي.
سليمان يفضل الدعابة والصور
المفتوحة، غير المحددة علي الصور
الدعائية الحافلة بالشعارات الخرقاء.. مع ذلك فإن کيد إلهية
هو فيلم سياسي بعمق.
اهتمامه الرئيسي هو
السلام، وكيف أن غياب ذلك يسمم حياة الناس.
النصف الأول من الفيلم يدور في
الناصرة، المدينة الفلسطينية التي صارت جزءاً من إسرائيل منذ العام
1984،
إنها المدينة التي ولد
فيها المخرج ونشأ (هو الآن يبلغ 24 سنة).. لكن لأن الناصرة كانت موطن
المسيح فإن لها مكانة خاصة ومؤثرة.. وعندما يقتل الصغار بابا
نويل في الناصرة
(افتتاحية الفيلم) فلابد أن يكون هناك خلل ما.. شيء لا أخلاقي وغير لائق.
وفيما يتوضح الفيلم تدريجياً،
نري المشهد تلو الآخر لعالم يدور
بسرعة. الصور الموجزة هي مضحكة وعبثية علي طريقة بستركيتون وجاك تاتي: رجل
ينتظر
الباص الذي لا يأتي
أبداً. الجيران يتقاذفون بأكياس القمامة في بيوت بعضهم
البعض.
مرضي في مستشفي، ورغم
أن أمراضهم خطيرة إلا أنهم يغادرون أسرتهم ليدخنوا السجائر. في أحد
المستويات، مثل هذه المشاهد تنسجم تماماً مع التجربة الفلسطينية..
لا يمكن التعويل علي
النقل العام، الشعور الودي تجاه الجيران والآخرين هو نادر، وشخص يدخن. لكنها
تثير أسئلة ذات صلة أوسع بالشرق الأوسط واحتمالات السلام. كيف
يبدو الحال عندما
تنتظر شيئاً قد لا يحدث أبداً؟
لماذا أولئك الذين حياتهم
مرتبطة ببعضها علي نحو
لا ينفصم يعاملون بعضهم البعض بتلك الدرجة من السوء والقسوة؟
كيف يكون الشيء الوحيد الذي يوحد الناس هو الإدمان علي شيء سام؟
مثل هذه الأسئلة تثيرها الطريقة
التي بها يعرض سليمان علينا هذه المشاهد. إنه يفضل اللقطات ذات
الزاوية المنفرجة
(wide-angle)،
المريرة جداً، ويبقينا
علي بعد مسافة من الحدث.
الممثلون يتحركون داخل
وخارج الكادر في إيقاع محسوب بدقة مع توظيف للصوت خارج
الكادر والذي يوحي بكادر أرحب بكثير مما نراه. وبكبح المعرفة، يجبرنا
سليمان علي
تركيب المشاهد بأنفسنا. إن
أسلوبه المقسم بالمغالاة يجعلنا نفكر في ما يحدث، والذي
يقودنا إلي التساؤل عن
الذي قد يعنيه كل هذا.
استراتيجية مماثلة تحكم
الطريقة
التي بها يتم تركيب
(مونتاج) الفيلم. المشاهد المثيرة للضحك يتم بناءها في تركيبات
متشظية يخلطها سليمان مثلما يفعل الحاوي مع ورق اللعب. وهو سوف يعرض علينا
جزءاً من
الحدث ثم ينتقل إلي
شيء آخر قبل أن يعود إلي الجزء السابق بعد مشاهد قليلة لاستئناف
القصة أو أخذها إلي
مدي أبعد.
فقط عندما تفي تلك المشاهد
غرضها، يتسني لنا أن
نري إلي أين هي تتجه
وتنطلق. إنها التقنية التي تعتمد علي الجمهور في تركيب القطع، والنتيجة هي فيلم
يبدو أشبه بالأعمال الكوميدية الكلاسيكية أيام السينما الصامتة،
لكنه يتسم بدقة وعمق
الأفلام الفنية التي تختلف عن الأفلام التجارية.
هذا الفيلم لا شبيه له غير
فيلم إيليا سليمان السابق کسجل اختفاء (1996) ..ويمكن القول بأن
فيلم روي أندرسون
کأغان من الطابق الثاني
(2000)
وفيلم أوتار لوسيلياني کصباح الاثنين
(2002)يقتربان
إلي حد من کيد إلهية
أو بينها قرابة روحية.
فيلم کيد إلهية
يبني ما هو أكثر من
مجرد خلاصة أو حاصل جمع للأجزاء من بين كل شظاياه،
المرئية عن بعد، صورة واحدة تدخل البؤرة .. إنها صورة عالم العنف فيه أصبح
طبيعياً،
ويعدي كل مظهر من
مظاهر الحياة. الجار لا يتحدث إلي الجار إلا في غضب. الاتصال
والتعاطف والفهم لا
وجود له. عوضاً عن ذلك، هناك فقط ارتياب متجذر بعمق إلي حد أن لا شيء قادر علي
اختراقه. فيلم کيد إلهية
يعرض لنا الإنسانية
وهي في حالة بغيضة جداً. ثمة مشهد يري
فيه شخصاً يقود سيارته عبر البلدة وهو يبتسم في ابتهاج لكل من
يمر به ملوحاً بينما
هو يلعنه ويشتمه بفظاظة بصوت هامس.. إنك تضحك علي هذا الموقف، لكن ما أن يتلاشي
الضحك وتفكر ملياً في ما رأيته للتو، فإنك تجد المشهد حزيناً علي
نحو مروع.. وتتساءل
كيف ولماذا يحدث هذا؟
النصف الثاني من الفيلم، الذي
يدور في
أغلبه في مكان قريب من
حاجز التفتيش، علي الطريق من القدس إلي رام الله، يعطينا بعض المفاتيح التي
تساعدنا علي إدراك عدد من الحالات. القدس هي المدينة المنقسمة،
المتنازع عليها. رام
الله مدينة فلسطينية في المنطقة الواقعة علي الضفة الغربية من نهر الأردن التي
احتلتها اسرائيل في
1967.
وحتي تتوصل مفاوضات السلام
إلي تسوية
مرضية، فإن
الفلسطينيين في هذه المدن يعيشون مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. إن متاريس الطرق وحواجز
التفتيش وحالات حظر التجول، هي مظاهر من واقعهم الدائم.
هذا الشطر من الفيلم يتمركز
علي رجل فلسطيني يدعي أ.س، يؤدي دوره المخرج ومثل إيليا سليمان،
أ. س هو مخرج سينمائي.
جدار منزله مغطي بصفوف من الأوراق التي كل منها تصف مشهداً.
هو يعيش في القدس، والمرأة التي يحبها تعيش في رام الله .. لكنهما لا
يستطيعان
الالتقاء إلا عند حاجز
التفتيش بين المدينتين. هناك يجلسان في السيارة، في إحباط
ووهن، ويراقبان الإذلال اليومي الذي يتعرض له الفلسطينيون علي يد الجنود
الإسرائيليين: سيارات
الاسعاف التي يرغمونها علي التوقف والتفتيش، سيارات مدنيين
يتم تحويل مسارها علي
نحو استبدادي، مواطنون يجبرونهم علي الغناء والرقص. إنها
عملية تجريد الطرفين
من الكرامة الإنسانية.
ذهنياً يلجأ أ.س إلي التخيلات
السينمائية عن العنف!
إنه يأكل المشمش فيما يقود سيارته ثم يرمي نواة المشمش من
نافذة السيارة فيتخيل
أنها تفجر دبابة إسرائيلية.
كذلك هو يتخيل حبيبته
وهي تسير في محاذاة حاجز
التفتيش الذي ينهار فيما هي تمر في حركة بطيئة.. في محاكاة للعديد من
أفلام الأكشن. وهو
يشاهد إعلاناً تجارياً يدعو الإسرائيليين إلي التدريب علي الرماية متخذين من
صور الفلسطينيين أهدافاً لهم، وهو يتخيل إحدي الصور وقد بعثت إلي
الحياة وتجسدت في صورة
محاربي النينجا الذين لا يقهرون.
هل هناك أي أمل؟
في المشهد الختامي
للفيلم نري أ.س وأمه يراقبان قدرا موضوعة علي الفرن. الأم تقول له:
کهذا يكفي.. إرفع
القدر..
لكن الكاميرا تبقي في مكانها
لفترة طويلة علي نحو يصعب
احتماله، مركزة بؤرتها علي القدر التي هي علي وشك الانفجار.
إنه التعليق الأكثر ملاءمة، والأكثر
ذكاءً، علي الفيلم وعلي الصراع الذي رأيناه يسمم حياة كل شخصية في
الفيلم. |