خالق
الصور بامتياز في كتاباتنا الجديدة
هذا هو
أمين صالح الذي يتلقى تحية خاصة من ورشة تشكيل عباس يوسف، كما لو ثمة تبادل
أنخاب بين النهر ومنبعه، الشكل ولونه، كما لو أ ن ثمة من يضع فرشاته في
قصعة محرض المخيلة الأهم وهو أكثر المكترثين بسحر الشكل، يوم أطلق فن
ابتكار الصورة الشعرية في كتاباتنا الجديدة منذ انطلاقها في الستينات.
إن عباس
يوسف يقدم تحيته الفنية إلي أكثرنا قدرة علي إغواء المخيلة لدى الجانبين:
المبدع ومتلقيه.
بهذا
المعنى يمكنني أن أفهم هذه الالتفاتة الحميمة التي يعلن بها عباس يوسف ولعه
القديم بنص أمين صالح، بما يشي بأن الفنان هو خالق الصورة وطفلها في آن
واحد. هذا ولع يليق بمن يضع المخيلة في مقام البوصلة فيما هو يبحر في مجهول
الإبداع. وأملي أن تكون مثل هذه الالتفاتة إضافة نوعية في تأسيس جديد
لعلاقة واعية (بأمل أن تكون متكافئة) بين الرسام والمصور والملون وبين
الكاتب والأديب والشاعر، خصوصا في وسطنا الثقافي الذي لم تزل فيه هذه
العلاقة مترددة، متراوحة، ونادرة في أكثر الأحيان، وعندما تتوفر غالبا ما
تكون غير متكافئة أو غير صادرة عن العمق (لئلا أقول الوعي) التبادل بين
النص والصورة.
إذن فقد
وضع عباس يوسف ألوانه دفعة واحدة في مهب خزانة الصور المتفجرة من تجربة
أمين صالح، محاولا اجتراح الحوار غير المنظور بين النص والصورة. وهو حوار
غير مأمون العواقب، كلما اتخذ الرسام النص بوصفه شرفة المخيلة علي الأفق
اللانهائي. لهذه اللوحات التعامل مع العمل بوصفه مهرجان ألوان في ورشة قيد
لا هوادة في بحثها.
هذا
بالضبط ما طاب لي أن أرى في هذه التجربة، فالبحث هو ما يسوغ مشروع عباس
يوسف حين يضع نفسه في مهب مخيلة جامحة ليست الصورة المرئية فيها سوى دخان
البراكين التي تشكل طليعة النص وبشارته. وإذا لاحظنا كيف ان طبيعة تجربة
عباس يوسف، في سنوات ورشته، تشي دائما بهاجس البحث، فإننا لن نكون علي
مبعدة من العناصر المكونة لأعمال هذه التجربة التي أرادت محاورة معطيات
(لكي لا أقول منجزات) عمل في حقل تعبيري آخر. ولعل في كل لوحة من هذه
الأعمال محاولة لوضع اللون في مسافة جديدة بين حركة الحياة وحيوية المخيلة
(رؤية ورؤيا)، التي أصغى لها الفنان طويلا في نصوص أمين صالح، وهي مسافة
ليست سهلة المنال إذا ما قسنا الأمر بما بما أنجزه أمين صالح في تجربته
الأدبية وبين ما تعمل عليه ورشة عباس يوسف في السنوات الأخيرة. ففي هذه
الأعمال خصوصا ينتقل عباس يوسف إلي مرحلة جديدة توشك (أعني أرجو) أن تعلن
عن انتقال (لئلا أقول قطيعة / متمنيا) مع مجمل ما قدمه عباس طوال السنوات
الأخيرة.
وهذا
التحول هو بالضبط ما يمكن التوقف عنده من قبل المعنيين بتجربة عباس يوسف
(في الفن والحياة) ن والنظر إلي هذا التحول باعتباره مستقبلا تأخر عنه عباس
يوسف أكثر مما يجب.
ويصح لنا
هنا (إذا صح لنا ن توصيفنا لهذه التجربة) أن نشكر صور أمين صالح ومخيلته
التي اشتغلت علي تجربة عباس يوسف طوال هذه السنوات من غير أن يعلم احد (لا
أمين ولا عباس خصوصا) لكي يكتشف الفنان بأن ثمة مستقبلا يتوجب عليه أن يحلق
إليه بالأجنحة التي تناسيه وتليق بمعطيات ورشته (بطيئة العمل) أكيدة
المنجز.
بقى أن
أقول، بان الفوضى المنظمة المكتنزة في أعمال هذا المعرض، بعناصر الألوان
والخطوط والأشكال وشظايا (لئلا أقول أشلاء) التاريخ الشخصي والعذاب العام
للفنان (متذرعا بالنص)، هي واحدة من أهم ظواهر هذه التجربة، لكن من غير
الادعاء بان ثمة ناظما مكتمل الرؤية يتم إنجازه في هذه الخطوة. فليس من
المتوقع أن تنال الخطوة الجديدة في لوحة عباس يوسف أدواتها دفعة واحدة، وهو
الذي لا يزعم ذلك في أعماله السابقة التي كان لها أن تستقر طوال السنوات
الماضية. لذا أتمنى أن لا تشكل هذه الفوضى المنظمة في اللوحات صدمة لدى
المتلقي (لئلا أقول المشاهد)، لأن المشغولات اللونية هنا، مأخوذة بعناصر
كولاجية (تشف وتسترق وتتماهى) ، ليست سوى الدليل الآخر علي أن ثمة ما يبحث
عنه الفنان لإسعاف خطوته النوعية منح أقدامه مزيدا من الأجنحة ، متخليا عم
مجمل عناصره في مجمل تجاربه السابقة والمتمثلة في حقل الخط والحرف (أحبارا
وأخبارا)
قلت:
الفوضى المنظمة، لكي أشير بأن ثمة قيمة مقابلة، تستعصي علي التفادي، ولابد
من إدراكها كلما تعلق الأمر بمحاورة نص أمين صالح ن وهي قيمة النظام الصارم
للفوضى الفاتنة التي اشتغل عليها أمين صالح أكثر من ثلاثين عاما منذ أن بدأ
يضع كتابته (ويضعنا معه) في تجربة المخيلة الحرة لحظة الكتابة.
ففي
المسافة الجهنمية بين الفوضى المنظمة لدى عباس يوسف والنظام الصارم للفوضى
عند أمين صالح سوف تكمن دائما الحقيقة الجوهرية للإبداع ، وتتجلى مقدرة
المبدع علي الإمساك بأدوات عمله وقدرته علي التحديق في شمس النص بامتياز.
ليست
مصادفة أن يطرح علينا عباس يوسف سؤاله التشكيلي الجديد مصاحبا لتجربة أمين
صالح، ففي نص أمين صالح دائما ما يغري بالتأمل والحلم والذهاب الحر في
العمل الفني.
وليست
مصادفة أن يطلب مني عباس يوسف (فيما كان يستعد لمفاجأة أمين صالح بهذه
التحية) ، فهو يعرف جيدا دلالة أن يشهد الشخص علي ... نفسه، حرا إلاّ من
الحب.
كأننا في
هذه اللحظة الكونية لا نحتاج إلي شيء (ونحن نذهب إلي مستقبلنا الغامض) مثل
حاجتنا إلى القدر الأكبر من المحبة، كأن المحبة هي القارب الوحيد الذي يليق
بالمسافر وبالبحر وبالمستقبل.
|