ليس
''النحت في الزمن''
للمخرج السينمائي الروسي الشهير أنريه تاركوفسكي الصادر مؤخرا عن مشروع
للنشر
يجمع دائرة الثقافة والتراث الوطني في وزارة الاعلام البحرينية إلى
المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان وبترجمة عن الانجليزية لأول مرة
أنجزها
الشاعر والقاص أمين صالح بكتاب جديد،
وليس بكتاب في الفلسفة كما قد يشير
عنوانه
لأول وهلة، ولا يأخذ فرادته إلا من جهة أنه كتاب تأملي
بامتياز.
في هذا
الكتاب الذي هو كتاب سيرة إبداعية وسيرة شخصية يهدف تاركوفسكي إلى تقريب
الفن السينمائي إلى الناس كاشفاً لا عن دراية علمية
بحقله
الفني السينمائي بل أيضا عن ثقافة إنسانية عميقة وموقفا حرّا من العالم
ومن المعرفة والعالم. ولا يخفي تاركوفسكي، الذي حاز شهرة واسعة أوروبيا
على الرغم من ندرة أعماله السينمائية قياسا بسواه من المخرجين خلال السنوات
التي
تلت الحرب العالمية الثانية وحتى وفاته في باريس أواخر الستينات من القرن
الماضي، أسبابه الخاصة التي دفعته لتأليف هذا الكتاب على مراحل: رجائي أن
يصبح أولئك القراء الذين نجحت في إقناعهم إن لم يكن كليا فعلى الأقل جزئيا
أرواحا شقيقة لروحي حتى لو فقط في إدراك حقيقة أني لا أخفي أسرارا
عنهم''.
ويلاحظ المرء أن تاركوفسكي بمقدرته العالية على التنظير الفلسفي في
الحقل
الجمالي يجتهد في أن يبدد مجموعة من الأوهام التي أشاعتها
الايديولوجية حول الفن وضرورته للفرد صانعا ومتلقيا وكذلك للمجتمع عموما
عبر موقف
فردي ناجز وإحساس خاص بالذات غير مأخوذ ببريق الشهرة أو مجدها فهو يرى أن ''الوظيفة
العملية تكمن بلا جدال في فكرة المعرفة حيث يتجسد التأثير كصدمة؛
كتطهير،
هكذا فإن الفن مثل العلم وسيلة لاستيعاب المعرفة وواسطة لمعرفة العالم
أثناء رحلة الإنسان نحو ما يسمى الحقيقة المطلقة'' وذلك لأن ''الاكتشاف
الفني
يحدث في كل مرة باعتباره صورة جديدة وفريدة للعالم''. وفي هذا السياق
نقرأ لدى
تاركوفسكي آراء في إحدى الراويات لتولستوي أو نتعرف على جانب آخر
في قصيدة
لمايكوفسكي على نحو مثير للإدهاش والغبطة. وبالفعل فإن الكتاب لقارئ
عادي غير متخصص في السينما يضيف إليه معارف عميقة حول ضرورة هذا الفن على
الصعيد الشخصي المحض. إذ إنه بصرف النظر عن بعض من المقولات التي
انحسم الجدل
بشأنها،
فإن تاركوفسكي يطوِّر من ذائقة قارئه على نحو لافت بمناقشته مفاهيم،
غالبا ما كانت حكرا على المتخصصين.
خذ مثلا مناقشته ما يصطلح هو عليه بالزمن
المطبوع،
عنما يجعل بمقدورنا أن نفرِّق بين الفن السينمائي من جهة والأدب
والموسيقى من جهة أخرى بهدف تلمس الفوارق الدقيقة للزمن في
هذه الفنون البشرية
إجمالا،
وذلك عبر العديد من الأمثلة السينمائية الراقية من ثقافات مختلفة ومن
التي استقرت بوصفها أعمالا سينمائية عظيمة في الذاكرة البشرية إجمالا
والتي،
في
الوقت نفسه، تقوم بدرحة أساسية على البنية الحكائية أو على البنية
الموسيقية ثم تلك الأعمال التي من غير الممكن إلا أن تكون سينمائية بالمعنى
الدقيق
للكلمة. وربما بسبب قسوة التجربة الشخصية التي عانى خلالها تاركوفسكي من
وطأة الرقابة الستالينية فإن مناقشة علاقة الفن بالفرد وبالمجموع وذلك
الأثر
الذي
يُحدثه أي طرف في الطرف الآخر تأخذ حيّزا كبيرا في تنظيراته وذلك
بإحساس
كبير بالمسؤولية الأخلاقية تجاه كل طرف. إن صاحب
'' نوستالجيا ''
يحمل نظرة شعرية ليس تجاه الصورة السينمائية وحدها هي التي يراها '' تتمدد
نحو
اللاتناهي وتقود إلى المطلق بل أيضا تجاه ما سبقت الإشارة إليه في الأسطر
السابقة فيقول: '' إذا لم يكن إحساس الشخص بالمسؤولية تجاه المجتمع مبنيا
على
اقتناع
باطني بالدور الذي يتعين
عليه أن
يؤديه، وإذا كان يشعر بأنه مخول
للاستفادة
من الآخرين، موجها حياتهم نيابة عنهم وملقنا إياهم ما ينبغي أن
يفعلوه في تنمية المجتمع، عندئذ لا يمكن للنزاع بن الفرد والمجتمع إلا أن
يصبح أكثر مرارة وإيلاما''. هكذا يشعل تاركوفسكي حبّة الضوء في الظلمة
المطبقة بهذا
المعنى فإن الكتاب ''النحت في الزمن'' يصلح كتابا في التربية الجمالية
ويمكن تدريسه في الأقسام الخاصة بالفنون والآداب في الجامعات
لما يتوفر
عليه من فلسفة جامعة يتحقق فيها الشرط التأسيسي لرؤية جمالية مثيرة للمخيلة
حقا، وليست جامدة أو جاهزة في مقولات مقولبة للحفظ عن ظهر قلب كما يحدث في
العادة. ومن جهة أخرى فإن الكتاب يذكِّر بذلك الأسلوب الراقي
الذي
كان يتأمل من خلاله المثقف الفرنسي رولان بارت العالم بما يرسله
العالم من
إشارات تتناهى إليه. تبقى الإشارة إلى ترجمة المثقف البحريني أمين
صالح التي بلغت من النجاح درجة لا
يشعر معها المرء أن الكتاب قد جرت ترجمته من
لغة أخرى.