أعجبني أيما إعجاب الوصف الذي خلعه أحد كتابنا الصحافيين المرموقين على
الأديب الكاتب أمين صالح حين شبهه بالكاتب اللاتيني الألمع بورخيس، الذي
يذكر كلما ذكرت نوبل التي لم تتشرف بأن يتقلد بورخيس وسامها. بورخيس الذي
يعاد إنتاجه باستمرار في ثقافتنا العربية، ويعاد تقديم إنتاجه إلى قراء
العربية دائما - إذ صدرت خلال السنوات القليلة الماضية 6 كتب على الأقل
فيها شيء من شعره، وكثير من قصصه ونصوصه - بورخيس الذي حلم بقراءة كتب
العالم، وما إن تسلم رئاسة المكتبة الأرجنتينية العامة حتى كان النور الذي
يضيء له الأسطر، ويساعده على إعادة تقليب هذه الأسطر، قد رحل نهائيا عنه...
إن بورخيس حكاية عظيمة يتم تداولها من دون انقطاع في مختلف ثقافات
العالم... وكم هي مدهشة معرفة تأثير الرجل إلى الحد الذي يجعله موضع
استشهاد على الدوام... لقد قرأت كتابا بديعا بعنوان: "الخمسمئة العام
المقبلة" لمؤلفه "أدريان بيري" "صدرت الطبعة الأولى في ترجمتها العربية سنة
2000"، والذي يستشرف فيه علميا ما سيكون عليه الوضع، ويستشهد فيه ببورخيس،
كتب أخرى تتحدث عن الفضاء الخارجي تحيل إلى بورخيس، نظريات وفرضيات علمية
صارمة لا تفتأ تذكر الرجل، وتذكرنا في الوقت نفسه بالقيمة الأدبية التي
تتجاوز حدود التخيل لتكون ملهمة، مثل بحث ابن رشد، ومكتبة بابل وغيرهما
الكثير.
إن الدعوة التي أطلقها الكاتب بقصد الاحتفاء بأمين صالح، وبتكريمه، وبتصوير
تعبه واجتهاده بل وكفاحه خير تصوير، وتشبيهه ببورخيس، لهي تستحق أن تعاد
على مسامع وأبصار المعنيين، للتذكير بأن الرجل طوال ثلاثة عقود أو يزيد
يحاول أن ينحت في اللغة، وأن يعطي الجانب الفني مداه، ويعبد له مساره
الخاص، بعيدا عن زعيق الواقع، وموبقات الواقعية... التي تهتم بالتفاصيل في
بناء لا يقوم على أساس فني، ولا يرتكز على جماليات تستطيع الصمود، أمام
جبروت الزمن، وأمام الملل الذي يصاب به القارئ جراء الخطابات الوعظية
المكرورة.
وعلى رغم المعاناة التي تجعل عملية القراءة بالنسبة إليه مجازفة كبرى،
وكذلك الكتابة، فالرجل صاحب الوجه الذي لا يلبث أن يطلق سخريته وتهكمه من
كل شيء - وللصديق محمد فاضل الحق كل الحق في أن يعيد على مسامعنا كلما
التقيناه... "قلنا لك مئة مرة انحر جديك عن مصاطب رعاياك كي تنعم بالهتاف،
ولكنك كابرت ورحت تستشير الجدي في شئون الكواكب وأملاح الشلالات ـ مستشهدا
بأحد نصوص أمين الأثيرة على نفسه - هذا الوجه المتهكم الساخر أطل علينا قبل
أيام قليلة بسفر ضخم تجاوزت صفحاته 460 صفحة، "الوجه والظل في التمثيل
السينمائي" يجعلنا نندهش لهذا الصبر وهذا الدأب والمثابرة لإخراج هذا السفر
بحلته القشيبة، وبمعلوماته الوافرة... بما يجعل أمين مغردا خارج السرب في
مجال التأليف والإعداد والترجمة في هذا الجانب، حاله في ذلك حال كل الأجناس
التي كتب فيها بأنواعها المختلفة... والتي حاول خلالها أن ينحاز للجزء
الفني، وأن يبعد القارئ عن شبهة اليقينيات، والقوالب المعلبة المدرسية،
ويجعله يفكر فيما يقرأ، ويسهم معه في اكتشاف الكنز/ الكنوز التي يضمرها
ويواريها في كتابته... إن الدعوة السابقة نثني عليها، ونثمنها، ونؤكدها في
هذا السياق. |