أسامة عبد الفتاح يكتب:
سعيد شيمي.. راهب الثقافة البصرية
**
كتابه رقم 16 يجعله أهم باحث في تاريخ وفنون الصورة
السينمائية على الإطلاق
**
شيمي: "لا يشغلني الآن سوى نشر الثقافة البصرية ليرفض
الناس القبح ويسعوا للجمال"
يمثِّل الفنان الكبير سعيد شيمي حالة فريدة بين جميع
مبدعي السينما المصريين والعرب، ليس فقط لضخامة منجزه
الفني، حيث تولى تصوير 108 أفلام روائية طويلة وأكثر
من سبعين فيلما تسجيليا، ولكن أيضا لما قدمه للمكتبة
السينمائية العربية من كتب قيِّمة في مجال الثقافة
البصرية جعلته أهم باحث عربي على الإطلاق في تاريخ
وفنون الصورة السينمائية.
والمعروف أن بعض الفنيين الكبار في تاريخ السينما
المصرية، قاموا بتأليف كتب في مجالات تخصصاتهم، أو
نشروا الرسائل التي حصلوا بها على درجات الماجستير أو
الدكتوراه في نفس التخصصات، مثل المونتير الكبير
الراحل عادل منير، الذي أصدر كتابا عن إيقاع ومونتاج
الفيلم في مصر، والمخرج سمير سيف، الذي قدَّم كتابا عن
أفلام الحركة، وغيرهما.. لكن حالة سعيد شيمي تختلف،
فقد أصدر منذ أيام كتابه رقم 16 في مجال التصوير
السينمائي وفروعه المختلفة، مما يحوله إلى باحث حقيقي
في مجاله وليس مجرد فنان اختار أن يكتب تجربته أو
مذكراته أو قرر أن يطبع رسالته العلمية.
صدر الكتاب بعنوان "الصورة السينمائية من السينما
الصامتة إلى الرقمية"، في 446 صفحة من القطع المتوسط
(16,5 * 23,5 سم)، وهو يحمل الرقم 72 ضمن سلسلة "آفاق
السينما" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة،
الجهة المفضلة لدى شيمي في طباعة كتبه، حيث أصدر من
خلالها سبعة كتب قبل هذا الكتاب، أهمها العمل الأدبي
والفني القيِّم "سحر الألوان من اللوحة إلى الشاشة"،
الذي صدر عام 2008 في عدد خاص من "آفاق السينما"
بمناسبة مرور عشر سنوات على إطلاقها و100 عام على
ميلاد السينما المصرية.
أسلوب شيِّق
الكتاب الجديد مطبوع بالأبيض والأسود، ما عدا الغلاف
الذي تحتله صورة معبرة للغاية للنجمة السينمائية
القديمة مارلين ديتريش، يظهر فيها بوضوح تأثير ودور
الإضاءة في الصورة السينمائية.. ولا يعني ذلك أنني
أنتقد غياب الألوان عن الكتاب، لأن معظم الصور تنتمي
إلى عصر السينما الصامتة أو الناطقة غير الملونة، أي
أنها بالأبيض والأسود بطبيعتها، بالإضافة للكثير من
الرسوم والأشكال التوضيحية غير الملونة بطبيعتها هي
الأخرى.
وكان الفنان الكبير قد أهداني الكتاب نهاية الأسبوع
الماضي، فقلت له على الفور إنني سأكتب عن صدوره - وليس
عنه - كحدث أدبي وسينمائي مهم يستحق الاحتفاء
والاحتفال في أسرع وقت، وقبل حتى أن أتم قراءته.. لكن
ما حدث أنني قرأته كاملا في يوم واحد، بل في عدة
ساعات، بفضل أسلوبه الشيِّق، وطريقة بنائه التي تشبه
رحلة يصطحب خلالها شيمي القراء عبر تاريخ الصورة
السينمائية، ليس فقط من الناحية التاريخية التي يعشقها
ويجيدها باعتباره دارسا للتاريخ بجامعة القاهرة قبل
دراسته التصوير السينمائي، ولكن أيضا من الناحية
الفنية، وهي الأهم، مستعرضا تطورات تلك الحزم الساحرة
من الضوء منذ أن كانت ثابتة وحتى أصبحت تُصنع بأحدث
برامج الكمبيوتر وفق آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا
الرقمية.
أكثر ما يلفت النظر في "رحلة شيمي" الثرية والدسمة،
رصده الدقيق وتحليله الممتع للتطورات والأحداث الكبرى
التي وقفت وراء التحولات الجذرية التي طرأت على الصورة
السينمائية خلال تاريخها القصير نسبيا بالمقارنة
بالفنون الأخرى، حيث لا يتجاوز 120 عاما، وأهم هذه
التطورات: نجاح جهود إضافة الصوت على الشريط السينمائي
الصامت، والذي وصفه المؤلف بـ"الضربة القاضية" التي
تعرضت لها كاميرات التصوير، واستمر تأثيرها لمدة عقد
من الزمان تقريبا.
خطر التليفزيون
ويشرح شيمي ذلك قائلا إن صناع السينما اضطروا لوضع
الكاميرا فيما يشبه الغرفة محكمة الغلق لمنع الضجيج
التي تحدثه أثناء التشغيل، وضمان تسجيل الصوت بنقاء،
على أن يتم التصوير من فتحة زجاجية أمام العدسة، مما
جعل الكاميرا "جثة هامدة" - وفق تعبير المؤلف - لا
تتحرك إلا في حدود الفتحة الزجاجية الصغيرة في ذلك
"السجن" الكاتم للصوت!
وألغى ذلك ما كانت الكاميرا قد حققته من تقدم على
مستوى الحركة في السنوات السابقة على دخول الصوت، ومنه
حركتها بواسطة الشاريوه والكرين وغيرهما، وأعادها إلى
المرحلة الأولى من اختراع السينماتوجراف حين كانت تسجل
ما أمامها من دون حركة.. وبدأت محاولات حل المشكلة
بتركيب عجلات لغرف الكاميرات محكمة الغلق، لكن ذلك لم
يكن كافيا، ولم يكن يصمد للمقارنة مع حركتها النشطة
السابقة، فتم اختراع عازل للصوت يسمى "بلمب" بدأ ضخما
وثقيلا ثم أصبح بمرور الوقت أصغر حجما وأخف وزنا.
ومن أهم التطورات والأحداث التي وقفت وراء تحولات
الصورة السينمائية كما يوضح الكتاب، ظهور التليفزيون
كمنافس خطير للسينما يهدد بسحب مشاهديها وإغرائهم
بالبقاء في البيوت للاستمتاع بالسينما المنزلية
الجديدة. وأدرك صناع السينما خطورة الاختراع الجديد
على الفور، ووضعوا خطة عاجلة لاستعادة مشاهديهم تقوم
على استخدام ثلاثة أسلحة: الإنتاج الضخم المبهر،
والشاشة العريضة المتسعة، وتصوير الأفلام بالألوان،
حيث لم تكن التليفزيونات الملونة قد اخترعت بعد.
خطة سينمائية
باختصار، قامت خطة استعادة مشاهدي السينما على تقديم
ما يصعب، بل يستحيل، على التليفزيون تقديمه. وأعجبني
أن المؤلف لم يكتف بذكر عناصر الخطة، بل توقف أمام كل
منها بالشرح والتحليل.. فقد تم اللجوء للموضوعات
التاريخية والاستعراضية المبهرة لأنها تحتاج إلى
ديكورات ضخمة ومجاميع كبيرة يعجز جهاز التليفزيون عن
عرضها بجودة، حيث لم تكن شاشته تزيد وقتها - منتصف
القرن العشرين - عن 14 بوصة، كما لم يكن نظام عرض
الأفلام متداولا في بدايات التليفزيون.
وفيما يخص الشاشة العريضة المتسعة، التي تكفي لتكرِّس
لدى المشاهد الفرق الشاسع بين السينما والتليفزيون،
فقد استعرض شيمي تطورها عبر سبعة أنظمة، من السينما
سكوب إلى الشاشة المجسمة.. أما آخر سلاح تم استخدامه
لإعادة الجمهور إلى دور العرض السينمائية، فكان تصوير
الأفلام بالألوان، والذي استعرض المؤلف أيضا تطوره
وأنظمته المختلفة، قبل أن يؤكد نجاح الخطة وعودة
الجمهور للإقبال على السينما، وبمعدلات تفوق ما كان
سائدا قبل اختراع الشاشة الصغيرة.
على هذه الوتيرة وبذلك الأسلوب الذي يتميز بأنه علمي
من دون أن يكون جافا، يسير الكتاب حتى آخر صفحة منه..
وبعد الانتهاء من القراءة، سيسيطر عليك الإحساس بأن
سعيد شيمي تحول إلى راهب للثقافة البصرية، التي قال
لـ"القاهرة" إن نشرها هو أهم ما يشغله حاليا حتى يرفض
الناس القبح والعشوائيات والقمامة، وحتى يحبوا الجمال
ويسعوا إليه، وإلى كل ما فيه تقدم الوطن.
ولابد من تحية الهيئة ـ خاصة سلسلة آفاق السينما
التابعة لها ـ على إصدار مثل هذه الكتب القيمة التي
تثري المكتبة السينمائية العربية، وعلي بيعها بهذا
السعر الزهيد الذي أعتبره مدعما، فلا شك أن كتابا من
446 صفحة، بهذا المستوى من الطباعة الجيدة، يتكلف
أكثر من ثلاثة جنيهات، لكن بيعه بهذا السعر يعد توجها
محمودا من شأنه تحقيق ما يحلم به فناننا الكبير، وهو
نشر الثقافة بشكل عام، والثقافة البصرية بشكل خاص، فهو
مرجع مهم يجب أن يكون في مكتبة كل متخصص أو باحث أو
دارس أو عاشق للسينما.
القاهرة اليوم في
14/ 05/ 2013 |