الساعات هنا هي ما تحتشد فيه تفاصيل عن العزلة
واللاجدوى، وايضا عن الملل وإيجاد معنى للحياة.. سلسلة
طويلة تمتد على مدى قرن من الزمن، من الخيانات
والرغبات المكبوتة والسعي لأن تكون الحياة ذات قيمة.
علاء المفرجي/ مقال ساعات فرجينيا وولف
كأبيه أسس علاء المفرجي لحياته الروحية والمهنية منهجا
جماليا مميزا في رصد جماليات الصورة المتحركة على
شاشات اعمارنا السينمائية منذ شابلن وحتى نيكول
كيدمان، وهذا الاشتغال اتقنه علاء المفرجي على مستوى
البحث والقراءة الجمالية لهذا التأريخ الاسطوري العريق
الذي بدأ في مطلع القرن العشرين ولم يزل وسيبقى واحدا
من الفتنة الحديثة لعصر ما بعد السيف واباطرة المغول
والسفر بين البلدان على ظهر الناقة وانتظار ما يجلبه
كولومبس من توابل الى اوربا.
اجتهد المؤلف في جعل روحه مثل روح ابيه عميقة في
المشاهدة وبارعة في التحليل ومنصفة في تعقب والكتابة
عن تواريخ السينما على مستويات تواريخها الوطنية
والقومية والاممية.
ولهذا فهو في كل نتاجه الكتابي عن السينما فهو يديم في
هكذا نوع من الفن والادب هاجس الامنية فينا أننا نملك
كتابا يعتبرهم العالم الغربي من النادرين الذين
نحتاجهم لنعرف تماما الكواليس السرية لحركات كاميرات
المخرجين واسرار ايماءة الممثل وما يمنحه الفيلم لنا
من متعة معرفة ما الذي كان يجري وجرى وسيجري في هذا
العالم.كتاب علاء الجديد والصادر عن دار المدى
والموسوم ( أفلام السيرة الذاتية تصوير المشاهير من
زوايا مختلفة ) يرينا في عموم المحتوى والفكرة والنص
التأريخ المصور بهاجسه الروحي والتأريخي لأساطير كان
لها التأثير الكبير في النمو الحضاري لحياة الارض ،
فقد كانت افلام السيرة التي يوثقها الكتاب مع حاشية
للشرح والتحيل والرؤية اجتهد الناقد كثيرا في جعلها
نصا ادبيا يقترب من السردية التحليلية ولكنها مقرونة
بتناول علمي لذلك الحشد الهائل من الوجوه العظيمة التي
وثقت عدسات المخرجين جوانب مهمة لوجوههم عبر قراءة
تواريخهم الخاصة والعامة وما انجزوه واقترفوه ليتحول
الى افلام سينمائية يرصدها المفرجي في هذا الكتاب وهو
يعود بنا من خلال فصاحة الشرح وجمالية التعامل مع
العناوين وتقينات الافلام فيها ، يعود الى تخيل تلك
اللحظات الحسية الممتعة التي كانت تتلبسنا ونحن نجلس
على اريكة الخشب في قاعة السينما ، مرتبكين من سيطرة
ملامح نابليون على هواجسنا أو تلك القساوة الغامضة
التي حملتها اجفان ادلوف هتلر.يجتهد علاء المفرجي في
القراءة التأريخية لأفلام السيرة ، وينجح في ان يكون
قارئا ومؤرخا ومحلالا لهذا الكم الكبير الذي جعلته
السينمائية العالمية من بعض مواد منتجها السينمائي ان
تتناول السير الذاتية لوجوه وشخوص كان لها التأثر وهو
ما تعقبه الناقد في كتابه منذ ازمنة السينما الصامتة
حين يؤكد ما نصه :((أن افلام السير موجودة منذ الايام
الاولى للسينما الصامتة في افلام مثل " جان دارك 1899
" لصانع الافلام الفرنسي جورجز ميليه ، و فيلم " جوان
المرأة 1916 " لسيسيل دي ميل ، و الملحمة الدينية "
جوديث بيثوليا 1914 " لغريفث ، و ملحمة " نابليون 1927
" ، و " جيسي جيمس 1927 " لأنغراهام الذي يلعب فيه
فريد تومبسون دور احد الخارجين عن القانون)). تلك
الايام حملتها تلك الافلام والمفرجي هنا يبوب أحساسها
ويحصي فيها تواريخ المتغيرات الحضارية في هذا الفن
الساحر ولكن عبر دهشة خاصة تلك التي تحمل موضوعة البحث
عن عالم فردي لرمز او شخصية مؤثرة في كل مجالات الحياة
من السياسة الى الفلسفة .لهذا فالمبوب هنا ليس موظفا
حسابيا او مؤرشفا مكتبيا، أنه بصيرة للنقد والرؤيا
والتحليل لهذا امتلك الكتاب متعتين تحاولان ان تتحدا
في المتن وتؤسسان لنا مشهدية اخرى لفيلم يخرجه
المفرجي، وبمتعة محترفة يجمع كل تلك الافلام وتنوعاتها
وازمنتها في فيلم لسيرة ذاتية حملت الينا هذا الكم
الهائل من التجارب الاخراجية واختلاف رؤاها وتصوراتها
حول من توثق لهم سيرة ذاتية عبر شاشة السينما.وهذا
الفيلم الذي تجتمع فيه حياة العشرات من صناع الحلم
الانساني حمل عنوانا رئيسا هو (أفلام السيرة الذاتية
تصوير المشاهير من زوايا مختلفة). يؤرشف علاء المفرجي
بلغة ممتعة التصوير افلاما لطالما شغلت الذاكرة
الثقافية ونخبها الواعية، وحسب التواريخ الانتاجية
لتلك الافلام يرينا الناقد ما خلاصته ان من اهتمامات
السينما وايمانها برسالتها الانسانية هو توثيق صناع
الحدث بأي شكل كان، جماليا ام دكتاتوريا. حيث اتسعت
مساحة التناول والاشتغال لتوثيق تلك الرموز من
القديسين الى الكهنة الى اساطين الموسيقى، بل أن رؤى
المخرجين كما ظهر في تعقب المفرجي لها وتفسير مبررات
تحويلها سينمائيا شملت كل اشتغالات الحياة، وكان
للحضارة الغربية في هذا الاشتغال حصة الاسد، وربما
امريكا واوربا هي الاولى في ترسيخ رؤى افلام السيرة
الذاتية كمنهج جمالي وركيزة كبيرة ومهمة من ركائز
الصناعة السينمائية، وكأن الغرب في اهتمامه بالسيرة
الذاتية لمن يعتقد انهم اثروا كثيرا في حياتنا، اراد
ان يرينا معنى ان نستعيد حياة الاخرين وتجاربها
لغايتين. التعلم منها والتمتع بجمالية تحويل هذه
السيرة الى صنعة حسية ومرئية تمر امام نواظرنا من خلال
الشريط السينمائي.
هذا المتعة وفرها لنا علاء المفرجي من خلال خبرة اكثر
من ثلاثين عاما في النقد السينمائي، وكان مثابرا
وواعيا وجادا وعلميا وموهبا كأبيه في جعل هذه المهنة
غواية وهواية، لهذا فأن كتابه الجديد هو اضافة اخرى
لمكتبة السينما العراقية بالرغم ان الموضوعة ربما درست
من بعض نقاد السينما الغربيين او العرب، لكنه هنا
يحملها خصوصية اخرى تتعلق بذلك الجهد المثابر في
التحقق والتفسير لطبيعة هذا الجانب من اشتغالات
السينما.التواريخ والوجوه والاسماء بين من وثقت سيرته
ومن اخرج السيرة وانتجها ومثلها يحاول المفرجي ان يضع
لنا بانوراميا متسعة الابعاد والاضاءة وهو يرينا في
فصول مبوبة بعناية ودقة وعلم هذا الجانب الممتع من
دهشة عاشت موازية لقراءاتنا الطفولية والصبيانية
والشبابية لكتب التاريخ وصناع احدثها.لا اظن أن كتاب
هو (أفلام السيرة الذاتية تصوير المشاهير من زوايا
مختلفة) كتاب نقدي قد يستفيد منه تماما اولئك الذين
تهمهم تواريخ الفنون الارضية وربما ايضا طلبة معاهد
السينما واكاديمياتها، وهو ايضا ليس كتاب رف مكتبي
ينتظر اجفان باحث او طالب رسالة ماجستير او دكتوراه
إنما هو جزء من سياحة المتعة الادبية التي تنقل لنا
تلك الوجوه التي اثرت في حياتنا كثيرا ونحن نشاهد
ايامها وذكرياتها واعمالها تتحرك امامنا على شكل فيلم
سينما، منذ يوليوس قيصر وحى المخرج العربي يوسف شاهين.
لهذا فإن المفرجي في جعله فيلم السيرة مادة لاخر
مشاريعه الكتابية المنجزة، انما يرينا شيئا من جديده
وولعه وغرامه بهذا العالم الذي يوثق له ولمنجزه عندما
نقرأ فيما توصل اليه الكاتب أن افلام السيرة حققت
الكثير من الاوسكارات وجوائز السينما لأنها كما ارانا
المفرجي افلام يعتنى فيها كثيرا لتكون مانحة للدهشة
والقدرة العالية من صنعة الفن حتى في بواكيرها الاولى
كما يؤرخ لنا الكاتب ذلك ((وتحديدا منذ فوز فيلم
السيرة الذاتية (غاندي) للمخرج ريتشارد أتنبره انتاج
1982 بعدد من جوائز الاوسكار وهو عن حياة المهاتما
غاندي، والذي اعقبه بعد عامين فيلم (اماديوس) للمخرج
ميلوش فورمان والمنتج عام 1984، وهو سيرة الموسيقار
فولفغانغ أماديوس موتسارت وأنتونيو سياليري)).
((واستهوت
هذه الافلام قطاعاً واسعاً من مشاهدي السينما،
واستطاعت هذه النوعية من الافلام الظفر بجوائز السينما
وعلى راسها الجائزة الاهم الاوسكار)).
في فصل الكتاب (لماذا تجذبنا افلام السيرة) يقودنا
المفرجي الى رؤاه وتفسيراته الخاصة عن هكذا نوع من
الافلام ويغنينا بالاستشهادات والتصورات والقناعات،
وربما في تفاسيره ورؤاه يرينا جزءا من ثقافة المؤلف
وهو يتناول هكذا نمط سحري من انماط الاشتغال السينما،
وعبر التصور والتقصي يحدد لنا المفرجي تفسير ذلك الجذب
الذي يجعل قاعدة عريضة من محبي الفن السابع يرون في
فليم السيرة متعة قصوى وهذا الجانب يفسره المؤلف بصورة
تحليلية ونفسية عميقة عنما يقول: ((وتلعب العوامل
النفسية دوراً هاماً في جذب القرّاء لمثل هذا النوع من
القصص ، واكثر ميكانزم نفسي يشدّنا للمتابعة هو الرغبة
في التماهي او القدرة على التعاطف مع ابطال القصة
.
وان نتعاطف مع شخص ما يعني اننا اصبحنا نشاركه همومه
وأحلامه وأهدافه ومخاوفه ونقاط قوته وضعفه، اي بمعنى
آخر صرنا نقوم مقامه)).هذا الجذب وقد فهمنا مسبباته
وهواجسه فأننا نفهم فيه أن ما يريده المؤلف هنا هو
الابتعاد عن جدولة الاسماء وما قامت به، فهو يذهب الى
محتويات العنوان وضرورات وضعه وانشائه، واقصد الغاية
من تأليف الكتاب، لانه هنا حدد تماما الجانب النفسي
والاجتماعي والتاريخي لرغبة المخرجين بتناول السيرة
الشخصية لتلك الوجوه على كافة اختلاف جغرافياتها
واشتغالاتها وميولها. لهذا فإن في هذا الجانب من
القراءة والرؤية لا يخلف السينما العربية وقد ضجت
تواريخ امتها بالكثير من الشخصيات السياسية والادبية
والعلمية والادبية التي كانت تستحق لتكون موضوعة
لافلام السيرة وقد وضع المؤلف احصاء عاما للكثير من
هذه الافلام، وحدد ايضا وهو هنا في حديثه الطويل عن
فيلم السيرة الذي يتناول حياة صلاح الدين الايوبي إنما
يضعنا من خلال تفسيراته لمنهج الفيلم وطبيعة فكرته
والسيناريو أمام اشكاليات حضارية صنعتها فترات تاريخية
معينة، كما في الحروب الصليبية. ثم يذهب الى تواريخ
اخرى في افلام السيرة المنفذة باخراج ولغة عربية حيث
يقول: ظهرت أفلام سيرة ذاتية تناولت حياة رؤساء
وفنانين، كما في فيلم عن حياة الرئيس عبد الناصر،
وآخر عن حياة السادات، كما ظهرت حياة عبد الحليم حافظ
في فيلم سينمائي، لم يحظ بالنجاح المطلوب.فصول الكتاب
الاخرى هي قراءات واعية لحرفة الاخراج وقدرتها على
ايصال تفاصيل ملامح ازمنة تلك الوجوه ومنجزاتها عبر
قرن من ملاحم الابداع واساطيره واقصد القرن العشرين
الذي حصر فيه علاء المفرجي ورؤاه ورؤيته وهو يحلل لنا
الفعل الجمالي لافلام السيرة في ثقافة المشاهد والمغرم
بشاشات السينما.
لم يُرقم المفرجي فصول كتابه، بل تركها مع عناوينها
وكل عنوان حمل عنوانا فرعيا لمقال كتبه في هذا الجانب
خلال مسيرته الفنية والنقدية، كما في فصل نماذج افلام
السيرة الذي ابتدأه بمقال جميل عن السينما الثورية
وابرز رموزها تشي غيفارا وانتهى بسيرة نيلسون مانديلا
الذي نعيش مئويته هذه الايام.الاسماء والافلام في
انمذجة علاء وقراءته لها مثلت وعيا متبادلا مابين
الصنعة الاخراجية والمنجز الابداعي والنضالي لبطل هذه
السيرة وعبر امكنة وازمنة متباعدة على خارطة الارض منذ
اول فيلم للسيرة والى اليوم.
علاء قرأ في تلك الافلام الفهم الروحي والجمالي وبهما
استطاع ان يضع امام قراءاتنا كتابا مثقفا وجميلا
ومتخصصا، وتلك الاركان هي ما تصنع الناقد الناجح
والواعي والمثابر .
احمل المديح لصديقي الناقد، وأقف معه عند حدود ما
اعتقده فليما ساحرا للسيرة الذاتية يخصصه المخرج
الروسي الكبير الكسندرسوكوروف عن امبراطور اليابان
الراحل هير هيتو والذي شاهده علاء شخصيا في مهرجان
روتردام الدولي للسينما قبل اعوام، فيختصر الامر
جماليا وفنيا وروحيا بهذا المقطع المعبر:
((في
هيروهيتو صورة للخرافة، إيماءاته متيبسة، حركاته
متشنجة، شفتاه الدائمة الارتجاف تجاهد لإخراج
الكلمات.. صورة استعارية رائعة عن الأفكار حين تعجز
الكلمات عن التعبير عنها، جنرال أميركي لا يسمى في
الفيلم، الذي يفترض أن يكون الجنرال دوكلاس ماكارثر،
في مشهد حوار مثير يجمع الاثنين (الإمبراطور والجنرال)
مشهد يحيلهما إلى كلاسيكيات السينما الروسية العظيمة
حين تهيمن الشخصية على الكادر)). |