تم إطلاق الموقع في يناير 2004

 
 
 
 
 

أرشيف الموقع

 
 

من أرشيف «سينماتك» الورقي

 
 
 
 
 
 
 
 

السينما المصرية الجديدة..

حلم المخيلة

بقلم: أمين صالح

من أرشيف «سينماتك» الورقي

   
 
 

هذا المقال كتبه الصديق الكاتب «أمين صالح»، ضمن المادة الأدبية للكتيب الخاص بفعالية سينمائية أقامها «نادي البحرين للسينما» باسم «أيام السينما المصرية الجديدة»، والتي أقيمت في الفترة من 16 إلى 20 من أكتوبر 1993

 

«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 

السينما المصرية الجديدة.. حلم المخيلة

بقلم: أمين صالح

 

السينما المصرية، مثل أي سينما أخرى، محكومة بشبكة متداخلة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحدد وتوجه مسار الفعل السينمائي، متمثلة في أساليب الإنتاج، أشكال التوزيع، شروط العرض، الممارسة الرقابية، استجابات الجمهور. وضمن هذه العلاقات بتحرك السينمائي مقدما رؤيته الفنية وموقفه الفكري وقدراته التعبيرية.

إن تطور أو تخلف صناعة سينمائية ما مرتبط بمدى قابلية العناصر المتصلة بهذه الصناعة على تهيئة الظروف الملائمة للإبداع وتوفير الإمكانيات التي من خلالها يستطيع الفنان أن يجسد رؤاه ويحقق اتصاله بالآخرين.

 

لا شك أن السينما المصرية حافلة بالمواهب والطاقات المبدعة في مختلف مجالاتها، غير أن ثمة عوامل تحد هذه الطاقات وتعرقل حركتها الإبداعية وفي مقدمتها النمط الإنتاجي التقليدي والمحافظ، الذي كان ـ ولا يزال ـ سائداً، والذي لا ينظر إلى الفيلم كفعل ثقافي، وإنما يتعامل معه كسلعة استهلاكية ينبغي تصنيعها في عجل وبتكاليف زهيدة، على أن تلبي حاجة المستهلك الآنية.

المنتج في هذه الحالة لا يكترث بتقنيات وجماليات الفيلم، ولا يهتم بصقل مادته بصرياً، ولا يجازف، فأية مغامرة فنية هي مشروع فاشل مسبقاً، عوضاً عن ذلك، يفضل التعامل مع الصيغ الجاهزة والتركيبات المألوفة ـ في البناء والسرد والحبكة والشخصية ـ التي اعتاد عليها المتفرج.

ثم يأتي الموزع كسلطة أخرى فارضاً معياره الخاص المنسجم مع الذهنية التجارية الاستثمارية، مكرساً نظام النجوم والأشكال الجاهزة. انه يرفض أية تجربة جديدة يشعر بأنها لن تحقق ربحاً مضموناً، وبذلك يمارس دور الرقيب الذي لا يقل خطورة عن الرقيب الرسمي.

وبرغم الضغوطات الاقتصادية والرقابية، إلا أن السينمائي لم يكن بريئاً دائماً. فبالنظر إلى عادية وسطحية النسبة الكبرى من حجم الإنتاج السينمائي منذ نشوء السينما المصرية، نلاحظ بوضوح افتقار صانعي تلك الأفلام إلى الرؤية الذاتية المدعمة بالفكر والفلسفة والخيال والوعي باللغة السينمائية وامكانياتها. لم يكن التعامل مع الفيلم كوسط شعري في جوهره بل كوسط ترفيهي محض أو كمنبر للخطابة والوعظ. كان النظر إلى علاقات الواقع وأشياء الحياة يمر غالباً من خلال منظار رومانسي أو ميلودرامي، أما الخاصية التدميرية المتأصلة في الفيلم الكوميدي فقد تم حجبها أو طمسها بأشكال وغايات مسالمة ومهادنة لا تنشد غير الترفيه والإلهاء. ويكن اختصار المشهد بالقول انها سينما لم تؤخذ بجدية حتى من قبل جمهورها.

قليلة هي الأفلام التي يمكن الإشارة إليها كعلامات مضيئة في تاريخ هذه السينما بضعة أفلام لهنري بركات وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ وعاطف سالم. وحتى بين هؤلاء نجد من لا يتورع عن المجازفة بمكانته وسمعته (مثل بركات وأبو سيف) بتقديم أعمال هزيلة لا تختلف حتى في موضوعاتها عن الاتجاه السائد. مما يعني أن صانع الفيلم – في أفضل أحواله – يظل في المحصلة النهائية مجرد حرفي يمتلك مهارات جيدة ومعرفة بالقواعد الأساسية ومفردات اللغة، لكننا لا نستشف عمقاً ثقافياً واهتمامات جمالية ذاتية متطورة. وغالباً ما يتم الاتكاء على رؤية الآخر عبر اقتباس أو إعداد أعمال روائية وقصصية، وبهذا يكون الفيلم ترجمة بصرية لعالم الرواية وليس تعبيراً عن رؤية وموقف صانع الفيلم. يوسف شاهين يظل الأبرز، والأكثر تميزاً، من بين مخرجي جيله. إن جرأته في معالجة موضوعات غير مألوفة ومقلقة، وسيره المثابر للعوالم الداخلية للذات وعلاقاتها المركبة بالآخرين وبالمحيط، وبحثه الدائم عن أشكال فنية جديدة تنسجم مع المضامين الجديدة، كل هذا جعله في موقف المتجاوز للأطر والمفاهيم التي كبلت غيره من المخرجين. مع شاهين يمكن التعرف على عالم خاص نابع من رؤيته وتخيلاته ومعايشته للواقع بحساسية حادة.

أما شادي عبدالسلام، فقد استطاع بفيلم وحيد هو "المومياء" أن يحقق المغايرة في الأسلوب والمضمون واللغة. الفيلم كان يمثل اختراقاً استثنائياً ومعزولاً، إذ لم يؤثر على نحو مباشر في التيار العام ولم يبشر – رغم أهليته وجدارته – بميلاد موجة من السينما المختلفة آنذاك.

عندما نصل إلى سينما السبعينات والثمانينات لا نجد تحولاً جذرياً في أنماط الإنتاج أو البنى الأساسية للفيلم، أو في التعامل مع اللغة السينمائية، أو في طريقة النظر إلى ما ينتجه الواقع، بل نجد امتداداً للأشكال السابقة والبنى التقليدية يصل إلى حد المحاكاة (إن لم نقل التقديس)، وخضوعاً لمفاهيم ومعايير السينما المتخلفة دون أدنى تفاعل أو تأثر بمنجزات السينما العالمية على الصعيد الرؤيوي والجمالي. فقد كان الولاء المطلق لرموز السينما التقليدية.

لقد شهد المجتمع المصري في تلك السنوات تحولات عميقة ومتسارعة.. اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً (أزمات اقتصادية طاحنة، كامب ديفيد، سياسة الانفتاح، بروز فئات طفيلية مستهلكة لأشكال الثقافة السطحية، كبح المد التقدمي، انتشار التوجه الأصولي.. إلخ) هذه التحولات أنتجت ظواهر ومشكلات وعلاقات جديدة. وكانت تستدعي استجواباً شاملاً للواقع وبحثاً عميقاً في حركته وافرازاته. وفنياً، كانت تستلزم سبراً جاداً للأشكال والبنى الجديدة، وانقلاباً على ما تكرس من مفاهيم ومظاهر. لكن المشهد كان يشير بعكس ذلك تماماً، كما لو أن ما يحدث شأن خاص بعالم آخر. بدلاً من الانقطاع وجدنا التواصل وصيانة الموروث، بدلاً من صياغة العناصر وفق منظورات وطرائق حديثة وجدنا تثبيتاً وتعزيزاً للأساليب القديمة والمنظورات العاجزة عن استشراف الأفق وقراءة الحاضر (لكي لا نقول المستقبل) ربما عكست أفلام المرحلة الواقع المتحول لكنها لم تخترقه، لم تستكشف جوهره وحركته عبر معالجات مختلفة وابتكارات فنية.

في أواخر الستينات وبداية السبعينات، كانت الحركة النقدية صارمة إلى حد القسوة في تقييم الأعمال السينمائية. كانت ذات رؤية واضحة وتوجه محدد بفعل تأثرها بالنظريات السينمائية الجديدة – آنذاك – وتفاعلها النظري مع التيارات والحركات السينمائية العالمية. النقد كان يسعى إلى اظهار مدى تخلف وسطحية المعالجة والأشكال التي كانت تقدمها الرموز التقليدية. وإذا كان – هذا النقد – يلجأ أحياناً إلى النبرة الحادة، الساخرة، التهكمية، فلأن الرصانة لم تكن ممكنة أو مجدية أمام سيل جارف من الأعمال السطحية والمبتذلة. الطموح السينمائي كان قاصراً أو متواضعاً إلى أبعد حد إزاء الطموح النقدي، وتدريجياً، في إيماءة تشير ربما إلى اليأس أو ربما بدافع دحض التهمة بالتعالي واللاواقعية، خفف النقد من صدامته وتنازل قليلاً عن مطالبه، مرحباً بأي فيلم يحاول أن يجمل أو يطور الاتجاه السائد دون أن يخرج عليه أو يتمرد ضده حتى وإن لم يكن يقترح أسلوباً جديداً وقيماً جمالية مغايرة. كان ثمة اعتقاد بأن تشجيع محاولات كهذه سوف يساهم في تنقية السينما الراهنة من شوائبها وسوف يمهد لمحاولات أخرى أكثر اختراقاً وتجاوزاً. اعتقاد أو تصور كهذا كان سليماً إلى حد ما، لكنها عملية بطيئة وغير مضمونة، إضافة إلى احتمالية تعزيز وتقوية الاتجاه من خلال الصقل والتحسين عوضاً عن تغييره وإحلال البديل المختلف جذرياً.

عند رصد مضامين وأشكال الأفلام المنتجة خلال العقدين الأخيرين، نلاحظ هيمنة اتجاهين رئيسيين: الأفلام الهروبية التي لا تتصل بقضايا المجتمع والوجود الإنساني إنما تسعى كهدف أساسي إلى إثارة المتفرج والترفيه عنه بالمعنى الضيق والساذج، سواء في إطار إثاري أو غنائي أو ميلودرامي أو فكاهي. والاتجاه الآخر يتمثل في الأفلام التي تعرض مشكلات الواقع الظاهرة (الروتين، الهجرة، أزمة السكن.. إلخ) وتشير إلى مواطن الخلل، وأحياناً تتناول قضايا سياسية مباشرة (إرهاب مراكز القوى، المعتقلات كبح الحريات.. إلخ) لكن عدم اهتمامها بالنواحي الجمالية وبالتوظيف المدروس للعناصر الفنية يجعلها تبدو أشبه بالتحقيق الاجتماعي أو السياسي، وأقرب إلى الدراما التلفزيونية. والملاحظ أن أفلام كلا الاتجاهين تتبنى المعايير التقليدية وتستخدم البنى المستهلكة ذاتها، مفتقرة إلى الأصالة والجدة والابتكار والطموح الفني، خارج هذا السرب، هذا الركام غير الملفت والزائل، يتحرك اتجاه مغاير ومثير للاهتمام من الأفلام التي ترتكز على أرضية ثقافية صلبة، منطلقة من معرفة سينمائية متفاعلة مع المنجزات العالمية، ومعبرة عن رؤى وأحلام وهدم مختلفة. أفلام مثل: الطوق والإسورة (خيري بشارة) للحب قصة أخيرة (رأفت الميهي) أحلام هند وكاميليا، زوجة رجل مهم (محمد خان) سرقات صيفية (يسري نصرالله) البحث عن سيد مرزوق (داود عبدالسيد) سمع هس (شريف عرفة).. هي إنجازات مهمة واستثنائية تتعامل مع السينما كوسط ثقافي وجمالي، وتستجوب المشاعر والعواطف الإنسانية في أوضاع وحالات مركبة، وتطرح موضوعات معاصرة عن علاقة الفرد بمحيطه، بحاضرة وماضيه، بأحلامه. عبر رؤية نقدية لا تخلو من الروح الشعرية.

هؤلاء المخرجون لا يشكلون حركة ذات سمات وملامح وخاصيات محددة ومميزة، أو مرتبطة بمنهج ونظرية معينة، أو تتقاسم اتجاهاً فكرياً أو فنياً مشتركاً، إنما يعبرون عن جهود متفرقة يوحدها الطموح إلى تجاوز السائد والمستهلك من الأساليب والمضامين، وتجمعها الرغبة في التعبير عن اهتماماتها وأحلامها الذاتية المتصلة باهتمامات وأحلام الآخرين، كل منهم يبحث عن شكله الخاص في التعبير، لكن دون أن يتجاهل ضرورة إحراز القبول الجماهيري والإطراء النقدي.. وهو سعي مشروع إذا لم يرافقه الاضطرار إلى تقديم تنازلات تحت ضغوطات الإنتاج والتمويل.

من بحوث محمد خان في إشكالية فقدان البراءة ورغبة شخصياته في تحقيق الحلم المستحيل، إلى رؤية رأفت الميهي الساخرة لجنون واقعه، إلى استكشافات خيري بشارة لأشكال تتناغم مع موضوعاته، إلى استقصاء داود عبدالسيد لعلاقات غير مطروحة ليس بين الفرد ومحيطه فحسب بل أيضاً بين الفرد وذاته أو لا وعيه، إلى اصطناعية ولا واقعية عوالم شريف عرفة، إلى اختراقات يوسف شاهين لما هو مكبوح.. تتعدد الموضوعات والأساليب ووجهات النظر، وبالتالي يؤكد هذا الاتجاه أهميته وقيمته وفعاليته.

أفلام هذا الاتجاه تتجاوز تخوم السينما التقليدية في أكثر من مظهر أو نطاق: فهي لا تستعير رؤية الآخر، إنما غالباً ما ينبع تعبيرها عن نفسها وواقعها من رؤية ذاتية محضة. ولعل أهم ما يميز الأفلام التي سوف تعرض في تظاهرة "أيام السينما المصرية" انها لا تستمد مادتها من مصادر أدبية إما تقوم على سيناريوهات مكتوبة مباشرة للسينما سواء عن طريق المخرج نفسه أو كاتب سيناريو متخصص أو بالمشاركة بينهما. وهذه خاصية مهمة تتيح حرية أكبر للسينمائي في التعبير بلغة سينمائية، وتصونه من المؤثرات الأدبية والوقوع في شرك المقارنات المتعذر اجتنابها من قبل النقاد والجمهور، حيث الجدل العقيم بشأن الأمانة الأدبية والامتثال للنص. حتى عندما تعتمد أفلام هذا الاتجاه على مصادر أدبية مثل: اليوم السادس (يوسف شاهين) الطوق والإسورة (خيري بشارة) الكيت كات (داود عبدالسيد) فإنها لا تلتزم حرفياً بالنص بل تقيم علاقة إبداعية معه، وعبر هذا الاتصال تنتج العمل السينمائي المستقل بذاته وإن كان يحتفظ بجوهر وروح النص. أي أنها قراءة إبداعية وليست ترجمة بصرية.

نلاحظ أيضاً الجرأة في تقديم أشكال غير مألوفة، وتحطيم المنطق في البناء والسرد، ومعالجة الأحداث بأسلوب فانتازي ذي منحى سريالي، كما في بعض أفلام رأفت الميهي وشريف عرفة والحب في الثلاجة (سعيد حامد). في مثل هذه الأفلام يتم الاحتفاء بالمخيلة التي ظلت مكبوحة ومستبعدة طوال عقود في السينما المصرية. هنا يمتلك الفيلم خاصية الحلم، وتبتكر المخيلة صورها الحرة ضمن منطق خاص. ونجد التماثل بين الحلم والفيلم في "البحث عن سيد مرزوق" الذي هو – في أكثر مظاهره تجلياً – بحث في مستويات الشعور والعاطفية والغريزة واللاوعي.

تحولات الواقع المصري في مظاهرها السلبية وما أنتجته من حالات قلق ويأس والتباس وشك واحساس بفقدان البراءة وانعدام الأمان، انعكست في أفلام عديدة (وبصورة أوضح في أفلام محمد خان) حيث الرؤية الهجائية للواقع المتسمة بتشاؤمية مريرة لا تخلو من روح تفاؤلية لكنها تختلف كثيراً عن تلك التفاؤلية الساذجة والمحبطة التي تطبع الأفلام التقليدية.

الجانب الاستعراضي والغنائي الذي كان ساكناً ومبتوراً عن محيطه الدرامي في مئات من الأفلام الغنائية والاستعراضية، يصبح في عدد من هذه الأفلام متحركاً وحيوياً، ويتصل عضوياً بالبناء الدرامي: بعض أفلام شريف عرفة وخيري بشارة.

مأزق السينما الجديدة أنها تتحرك ضمن شبكة من العلاقات القديمة والكابحة (في الإنتاج والتوزيع) وضمن علاقة مشوبة بالحذر والتردد والريبة مع جمهورها. وهذا يجعلها عرضة للمراوحة أو التراجع وتقديم التنازلات تحقيقاً لرغبة المنتج أو المتفرج أو كليهما. ولكي تكون جديدة (بالمعنى الفني لا الزمني) يتعين عليها التمرد على أنماط الإنتاج السائد، وهدم البنى التقليدية، اكتشاف أشكال جديدة تتواءم مع الاهتمامات المعاصرة، خلق فضاء من التجريب والاستكشاف، التفاعل مع المنجزات السينمائية الحديثة، توظيف العناصر الفنية بأسلوب مبتكر، التعبير عن الرؤية الفكرية والفنية بحساسية جديدة، التعامل مع الجمهور كطاقة إيجابية.

 

 
 

سينماتك في

16.10.1993

 
 
 

«أيام السينما المصرية الجديدة»

في «سينماتك»

 
 
 
 

اقرأ تقريراً تفصيلياً عن أحداث هذه الأيام بقلم حسن حداد

 
 

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004