تم إطلاق الموقع في يناير 2004

 
 
 
 
 

أرشيف الموقع

 
 

من أرشيف «سينماتك» الورقي

 
 
 
 
 
 
 
 

المومياء

دراسة تحليلية عن الفيلم بقلم الناقد محمد شفيق

من أرشيف «سينماتك» الورقي

   
 
 
 

(لأول مرة إلكترونياً)

* * * * *

ماذا يعني هذا القول (لأول مرة إلكترونياً)..

ماذا يعني أن تكون أي كتابة غير متاحة على الفضاء الإلكتروني..؟!

معناه أن الفرصة الآن متاحة للجيل الجديد للتعرف وقراءة القديم المتحدد والمتميز..!!

* * * * *

هذه أهم دراسة كتبت عن الفيلم الخالد (المومياء - 1969)، للمخرج العبقري «شادي عبدالسلام»، كتبها الناقد الراحل «محمد شفيق»، بعد أول عرض خاص للفيلم في نادي السينما بالقاهرة عام 1975، ونشرت هذه الدراسة في الكتيب الخاص بفعالية (أيام شادي عبدالسلام) والتي أقيمت في البحرين في ذكرى وفاته الأولى، في الفترة من 23 إلى 25 من نوفمبر 1987.

 

* * * * *

نشرت هذه الدراسة من قبل في:

·     مجلة "السينما" المصرية (التاريخ غير معروف لي)

·     كتاب نادي الكويت للسينما "بانوراما السينما المصرية" في أبريل 1983.

 

«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 

المومياء

دراسة تحليلية عن الفيلم

بقلم الناقد محمد شفيق

 

حينما شاهدنا فيلم المومياء للمخرج الجديد شادي عبدالسلام، وذلك لأول مرة في عرض من عروض نادي سينما القاهرة، وجدنا أنفسنا بإزاء عمل سينمائي محير. فبعد أن انتهى الفيلم، وأضيئت صالة العرض، تساءلت الوجود كلها في حيرة: أي نوع من الأفلام هذا؟ والحق أن الفيلم لم يحيرنا ويقلقنا فحسب، بل لقد أرهقنا نفسياً وعصبياً وفكرياً.. فحينما أسدل مشهد الختام، شعرنا فجأة أن أشياء في داخلنا تتمزق. وخرج جزء من الجمهور الذي ملأ الصالة وقد أفعمه الإرهاق، وتشبث بالبقاء الجزء الآخر الذي يعنيه أمر مثل هذه المناقشات التي تعقب عادة عرض الأفلام ذات النمط التجديدي والمغامر الوافدة لنا من أوروبا. وقد لاحظ كل من في الصالة أنه ربما لم يشاهد مناقشات في مثل حماس وعنف وتوتر هذه المناقشات الدائرة، التي لا يضمها رابط، لكن تتفق كلها في عمق تأثرها. ثم أثيرت التساؤلات: إلى أي مذهب من المذاهب ينتمي الفيلم؟ فمن وجده ينتسب لطبيعة الملاحم لاحظ أن به بعض الثغرات، لكنه مع ذلك لا ينتسب إلا للملاحم. ومن وجده درامياً واجه بعض العوامل الداخلة في تركيبته السينمائية تخيب ظنه، لكنه ليس له من وجه آخر إلا وجه الدرامات.

إلا أن الأمر الغريب هنا حقاً، والمحير حقاً، هو أن ما من أحد شاهد هذا الفيلم إلا وأحس أنه مشدود بكليته تجاهه. إلا وأحس أنه واقع تحت تأثير قوى مغناطيسية عارمة، قوى غريبة، نادراً ما نلقاها في مشاهدة سينمائية.

وعلى الفور لا بد وأن يبرز سؤال: ما هو إذن، هذا الفيلم الذي يراه الكل مليئاً بالعيوب السينمائية، ومع ذلك يحقق أبرز ما تهدف إليه السينما؟ فيلم بناؤه وسياقه ملئ بالثقوب، ومع ذلك نظل نتابعه بلا أي توقف، بلا أدنى رغبة في تركه. فيلم ظللنا نتابعه وقد احتوانا صمت غريب لا نصادفه إلى في لحظات نادرة في عصرنا، وربما كان ذلك حينما ننصت بكل جوارحنا إلى أصوات تراتيل أو انشادات، أو حينما يستغرقنا حفل موسيقي كلاسيكي، أو حينما نؤدي صلاة خاشعة.

ما الذي جعل الفيلم – بالرغم من كل هذه العيوب والثغرات وجزء منها فقط كفيل بهدمه ثم بقطع استمرار عملية المشاهدة – نقول ما الذي جعل الفيلم قادراً على تحقيق وظيفة السينما، ثم يقف على قدميه، لكي يمكنه أن يؤثر فينا كل هذا التأثير؟ لقد استطاعت الناس على اختلافها – وبالرغم من كل شيء – أن تجد نفسها في الفيلم. لكن كيف تجد الناس نفسها أصلاً في موضوع ويكون هو طبيعته غير مقنع، موضوع مشوش، غير محدد، موضوع ليس له قوام متماسك؟ ثم كيف يحدث أن تنفصل عناصره الفنية دون أن يؤثر هذا على عمق وجودة كل منها؟ مثلاً، كيف نستمر نلاحق "لوحات" نراها جميلة في ذاتها – أي لوحات منفصلة – طوال مدة عرض الفيلم بلا أدنى توقف، وبإحساس غريب يشدنا ويدفعنا لطلب المزيد، كيف يكون ذلك دون أن تعطينا حركة نمو اللوحات ذاتها احساساً بالانفصال؟

لتجاوز حدودنا الضيقة الذاتية العابرة، أي يدفعوننا لأن نحقق الشيء ذاته طوال عمرنا نتوق إليه ونسعى باستمرار لتحقيقه. لذا فنحن نستسلم لهذه الدعوة، لكنها تقلقنا في ذات الوقت.

ان حيرتنا تجاه هؤلاء القوم لم تنشأ بالتحديد إلا بسبب وجودهم المكثف ذاته. فبسبب كثافة وجودهم، يفرون منا: فأحياناً يخيل إلينا أن هذا الشاب – الذي يرفض تملك دنياه – ما هو إلا نبي أو صاحب رسالة عميقة، لكن أحياناً أخرى نرى أنه ليس إلا معتوهاً، أو مجنوناً، أو ممسوساً، أو في أفضل الأحوال طفلاً صغيراً لا يعي من أمور الدنيا شيئاً. ثم يأتي دور هؤلاء القوم: هل هم فقدوا ارادتهم حتى يسلموا أنفسهم في النهاية لقياد هذا المعتوه الصغير؟ أم أنهم فعلاً قد تفتحت أمامهم عوالم أخرى تجعلهم يرون ما يراه هذا النبي أو هذا الإنسان السامي؟

الموضوع، إذن، مركب ودقيق، ثم أنه في نفس الوقت مترامي الأبعاد إلى أقصى درجة. ومعالجته في عمل فني تقف أمامها صعوبات عديدة. فببساطة يمكن أن يهتز التوازن: فنواجه شاباً أسطورياً لا وجود له في عالمنا، أو نراه يسقط إلى أسفل الدرج كمجرد شاب معتوه، مريض فقط يحتاج لعلاج حتى يعود قادراً على رؤية الدنيا. وفي كلتي الحالتين لا يعود يقنعنا، ولا يكون في مقدورنا نحن أن نتعاطف معه، في كلتا الحالتين نفقد روابطنا به، ومن ثم لا يعود يشغل بالنا ولا تفكيرنا، كأي شيء لا يشكل بالنسبة معنى من المعاني. لكن هل هذا هو ما حدث في فيلم المومياء؟ أعتقد أنه تكفي المناقشات الدائرة، ثم الحيرة، ثم تباين الآراء، لنجزم بالنفي. ثم تكفي هي ذاتها أيضاً، لنبحث الفيلم من زاوية أكثر اتساعاً فنراه على أنه ليس مجرد فيلم مليء بالعيوب السينمائية. لأنه لو كان فيلماً كله عيوب، إذن فهو فيلم يحمل قانون ذاته، فقط نحتاج نحن إلى المعايير المناسبة للحكم، خاصة والفيلم الذي نتناوله الآن هو فيلم أنتج في مصر.

ان أي محاولة فنية لمعالجة هذا الموضوع المركب المكثف من "الخارج" محكوم عليها بالفشل التام. ان جوهر الموضوع انما يكمن كله في عملية "التحول" التي تمت داخل نفسية الشاب، وداخل نفسية عشيرته. هذه العملية التي لا يمكن أن تتم دفعة واحدة، والتي لا بد أن تتراكم عناصر تطورها شيئاً فشيئاً، إلى أن تحدث في مسيرتها وأثناء تبلورها، في النهاية. طفرة كاملة. هزة تهز كل ما كان ثابتاً وراسخاً في بداية الأمر، وأي تناول آخر سيجعلنا نرى هذا التحول، وكأنه يفعل "أراجوز"، سيجعلنا نرى هؤلاء الناس الذين يتحول وجدانهم جذرياً من النقيض إلى النقيض، وكأنهم مجرد دمي أو لعب للتسلية. ثم لكي نلمس ديالكتيك هذا التحول، أي أبعاده العديدة المتباينة، لا يكفي أن نعرض هذا التحول في إطار "الملحمة"، أي في إطار التحولات التي تتم من خارج العلاقات الإنسانية، كبشر مميزين ومحددين، أي كأنماط ثابتة تتصارع وينتصر في النهاية أحد الطرفين (الخير) على الآخر (الشر). ثم لا يكفي أيضاً أن نراهم كأناس كانوا يخدعوننا طوال الوقت، على أنهم أشرار، ثم تتضح الحقيقة في النهاية على أنهم أخيار، أو يتم العكس، كما يحدث مثلاً في إطار الملحمة البريختية. وذلك بسبب أن هؤلاء الناس لم يكونوا يدركون تماماً مراحل عملية التحول التي تجري في وجدانهم، والتي ستأتي نتيجتها في نهاية صراع كامل.

علينا، إذن، كي نفهمهم أن نتوغل في أعماق وجدانهم وأن نلتقط الأبعاد النفسية كاملة، كأناس هم في وقت واحد أخيار وأشرار. معنى ذلك هو أن نصورهم، عموماً، في إطار "الدراما". لكن لو بدأنا – في ذات الوقت – وكما تفعل الدراما التقليدية، من قطع جزء من هذا العالم، ثم دفعه تحت المجهر، والاكتفاء به "كعينة" تثبت الكل، فهنا أيضاً نضل الطريق. ذلك لأن الشاب نفسه سنراه يتحول بدرجات مختلفة وبنوعيات صراع متباينة، عن التحول الذي يجري في عالمه المحيط. ثم أنه بتحولاته الداخلية ذاتها انما يشكل دافعاً قوياً في انماء عملية التحول التي تجري في وجدان عشيرته. كما وأن عشيرته ذاتها سبب أساسي لتحولاته.

معنى ذلك أنه لو وضعنا هذا الشاب في مركز عالمه، ثم دفعنا هذا العالم إلى الوراء كخلفية للأحداث، أو كظلال لحركة الشاب، أو كردود أفعال سلبية لتحولاته، فلن يمكننا أبداً تلمس أبعاد هذا التحول الذي يجري في وجدان الكل في نفس الوقت. إذن، لا مفر من توسيع الرقعة لأطراف الصراع، أي لا مفر هنا من تناول الإطار الملحمي.

وبهذه الرؤية، نقر (التفاعل المتبادل بين المضمون الدرامي والإطار الملحمي، بين "التجسيد" الدرامي و"التسطيح" الملحمي)، يمكن التوغل إلى أعماق هذا العالم المحير، المثير. وستصبح حركة الصراع هنا، هي حركة متبادلة مستمرة بين المركز والخلفية. ففي وقت يصبح الشاب هو مركز الرقعة، بينما في وقت آخر يصبح خلفيتها. ونفس الشيء يحدث مع عشيرته ومع العالم المحيط به. وذلك في حركة ديناميكية لا تتوقف.

 

نواة الموضوع

بهذه الرؤية، إذن، تناول شادي عبدالسلام موضوع فيلمه المومياء. وهي كما نرى رؤية مركبة غاية التركيب، لكنها الرؤية الوحيدة التي تسمح بتصوير العمق الحقيقي لموضوع مثل هذا. رؤية ليس من السهل تجسيدها وتحقيقها إلا فقط بوسيلة فن السينما. وبإزاء رؤية لها هذه الخاصية، وبإزاء موضوع مركب هذا التركيب الفريد، لا يمكن أن يقوم بتأليفه ثم بتجسيده أو "بتنفيذه" سوى فنان واحد. ولذلك فمؤلف الفيلم هنا هو في نفس الوقت مخرجه. والواقع أن كلمة "تنفيذ" هنا كلمة لا تفي بالمعنى، بل مضللة، لأننا هنا لن نجد أي فارق بين التأليف والتنفيذ. لأن كل التلوينات الدقيقة في فكرة الفيلم، والتي بدونها يصبح التركيب غامضاً أشد الغموض انها تأتي في وقت الإخراج ذاته، استمراراً واستكمالاً لمرحلة تأليف الموضوع.

إذا كان مخرج الفيلم هو مؤلفه، فلن يجيء الفيلم هنا إلا كما تجيء الرواية بالنسبة للروائي أو اللوحة بالنسبة للرسام: تعبيراً أصيلاً وصادقاً عن العالم الداخلي لخالق التجربة الفنية. وفي حالة تناول الفنان لموضوع ما، فلا بد أن يأتي هذا الموضوع تجسيداً لرؤياه ومشاعره واهتماماته في العالم. ومن قلب اهتمامات شادي عبدالسلام جاء موضوع فيلم "المومياء" ومن بعده فيلم "الفلاح الفصيح"، وهو يفكر الآن في تأليف فيلم عن "أخناتون".. فهذا العاشق المطلع في "الاجبتولوجي" ينتقي – كأساس أو كنواة لموضوعه – حادثة أو واقعة حقيقية مشهورة روتها كتب التاريخ المصرية حدثت منذ ما يقرب من مائة عام، وبالتحديد عام 1881. وان كان كل علماء "الايجبتولوجي" قد تناولوها في مؤلفاتهم، إلا أنهم جميعاً قد وقفوا أمامها حائرين عاجزين عن تفسير دلالاتها واجلاء معانيها. الواقعة تقول انه في منطقة الأقصر عرفت فبيلة من القبائل – تسمى فبيلة الحربات – سر مخبأ موميات عديد من الفراعنة. وهو سر توارثته القبيلة أباً عن جد. وحينما وصلت بعثة من رجال الآثار المصريين إلى هذه المنطقة للبحث عن مكان المومياءات، تقدم إليهم أصغر وريث في القبيلة، ومنحهم السر، لماذا؟ هذا بالتحديد ما لم يعرفه أحد. ثم أنه حينما نقلوا تلك المومياءات من مخبأها في هذه المنطقة على سفينة تقلها إلى المدينة، اصطف أهل الوادي يشيعونها بالحزن وبالبكاء. هذه كلها أشياء وجدانية، ظلت معلقة، لم تجد تفسيرها عند كل هؤلاء العلماء الأوروبيين. انها مشاعر وجدانية لا يزال يعانيها المصريون الذين يقدسون الموتى بنفس الكثافة – ولا يجدون لها تفسيراً.. ويبدو أن هذا هو ما أغرى شادي عبدالسلام فجعل مادة هذه الحادثة المثيرة موضوع فيلمه. ليصور بها ملامح محلية مميزة لبلد – كما يجري عند رجال الفن التسجيلي السياحي، وكما يمكن أن يظن البعض – بل ليعرض من خلالها قضية أكثر اتساعاً، قضية أكثر عالمية وكونية: قضية الحياة والموت، قضية الوجود الإنساني.

ما الذي سيفعله شادي عبدالسلام بكل هذه التساؤلات الحائرة؟ لن يفعل شيئاً سوى أن يضعها في فيلمه بكل أبعادها كما تبدو في الواقع ذاته: أي بكل المعاني والدلالات التي تحملها، وكما نتمثلها نحن في أعماقنا، في أحلامنا، في رؤيانا. وسيصبح الفيلم بهذه الكيفية ليس إلا تساؤلاتنا نفسها. والشيء الوحيد الذي يقدمه الفيلم ليس إلا "تجسيد" هذه التساؤلات، ليس إلا تجسيمها وتكثيفها وبهذا تصبح حركة الفيلم هي حركة الامتداد الطبيعي لهذه التساؤلات، التي نراها أمامنا طوال الفيلم تنمو وتتراكم شيئاً فشيئاً، إلى أن تتفجر كلها في النهاية.

والفيلم لا يبتدأ بذلك الموقف العصيب الذي يواجهه الشاب حينما يفشي السر، بل ينتهي به.. وبذلك تصبح حركة دراما الفيلم متجهة بكليتها نحو هذه النقطة. وعملية التحول التي ستتم في داخل هذا العالم، إنما تنحصر بين نقطتي البداية والنهاية.. وهما نقطتان متمركزتان: ففي البداية نواجه مشهد رجال الآثار (أو أفندية آثار) وهم يستعدون للرحيل إلى الأقصر حيث يفترضون وجود المومياءات مدفونة في ثنايا جبالها، وفي النهاية نجد هؤلاء الأفندية وقد أعطى لهم الشاب سر مخبأ هذه المومياءات وكما نرى لم يدخل هؤلاء الأفندية في أي صراع مباشر مع القبيلة مالكة السر. أولاً لأنهم لا يعرفون تمام المعرفة انها تملكه، وثانياً لأن الصراع هنا لا يدور من الخارج، بل في داخل القبيلة ذاتها. وأفندية الآثار انما يدركون ذلك تماماً. انهم يشكون فحسب في القبيلة، ولكي يزيلوا هذا الشك رأوا أن يرابطوا فقط أمام القبيلة ويحيطوها في وقت غير الوقت المعتاد، كي يضيقوا عليها الخناق، فإذا كانت تحمل السر في باطنها، فلا بد أن تشتد الصراعات الداخلية، وتنفجر. ومن ثم ينهار الكيان كله، فيبرز السر في النهاية.

 

نقطة التحول

ومن داخل القبيلة كان يتم – في نفس الوقت الذي يفكر فيه رجال الآثار في حل المشكلة – أول وأخطر الأحداث كلها: فقد جرى العرف على أن يصحب أكبر أفراد القبيلة سناً ابن شيخ القبيلة حينما يتوفى، إلى مكان المخبأ (الدفينة) ليأخذ دوره في حمل الأمانة واخفاء السر وحراسته وعندما يصحب العمان الشاب الصغير "ونيس" ابن شيخ القبيلة المتوفي وشيكاً، مع أخيه إلى مكان الدفينة، فانهم يسلبون القلادة الذهبية العالقة برقبة المومياء. وبكل وحشية يمزقون الرقبة ويقطعونها بالبلطة ليفصلوا عنها القلادة. وفي اللحظة التي تقع عينا ونيس على ما يدور أمامه، على هذا المشهد المروع، والذي يراه لأول مرة في حياته، يتزلزل كيانه كله.

هنا يحدث الانقلاب التام في الخط الدرامي: ففجأة تكشف القبيلة عن وجهها الحقيقي الوحشي. وفجأة تستجمع أطراف الموقف كله في لحظة خاطفة. وفي ذهول حاد يقف الصغير ونيس جامداً: إذن: فأهله الآن انما لا يفعلون شيئاً سوى استئناف عملية التمزيق ذاتها التي أصبحت عرفاً متفقاً عليه بين كل من يخلف زعامة القبيلة. عرف مارسه أبوه وأجداده من قبل. عرف رهيب ينبغي على كل وريث ألا يخرجه عن هذا الخط الضيق، خط الوراثة والخلافة. وهو ما اصطلحوا على تسميته "بالسر" لهذا السبب، إذن، دعوه هو وأخاه الأكبر. ان رد الفعل الذي نلمسه هنا على وجه ونيس المصدوم المصعوق يكفي وحده ليقول لنا كل شيء، ويلخص أبعاد اللحظة بأسرها. وهي لحظة تكشف عن تناقض مثير: ففي بداية نفس هذا المشهد نرى أهل ونيس وهم يسيرون في جنازة دفن جثة الأب صامتين تماماً، خاشعين للغاية، أثقلهم الألم العميق فبدوا وكأنهم منومون بالفعل. لكن ها نحن نراهم يحطمون بغتة – في نهاية المشهد – كل هذا الخشوع والصمت، ويمزقون كل ما رأيناه في سلوكهم الروماني، يمزقون ذات الأشياء التي دعتهم في بداية هذا المشهد فقط، ومنذ لحظات، إلى تقديسها.

ما الذي يدفعهم لكل هذه الوحشية؟ هذا هو السؤال الصميمي في الفيلم. ان ذلك المشهد لا يجيب عليه بل فقط يطرحه، لأن من يحاول أن يجيب عليه هو نحن، وعلى امتداد مشاهدة الفيلم. لكننا نستخلص من هذا المشهد أشياء تساعدنا على التحديد، وهي نفسها الأشياء التي تدفعنا من مشهد إلى مشهد كي نزيد في تحديدها واستخلاص دلالتها. تماماً كما يحدث لنا في الواقع. لم يصدم ونيس حينما دلف إلى الطرقات الداخلية المؤدية للمخبأ، لأننا رأيناه يدخلها بشعور حب استطلاع وان كان مشوباً بالخوف. وان كان في ظلاله، أيضاً يمكن تلمس بعض معاناة لنوع من الألم. ثم انه لم يصدم من كون قبيلته تعيش على الذهب والتحف الأثرية التي يحويها هذا المخبأ. بل ان احساسه بكل عنف الصدمة لم يأته حتى اللحظة التي عرت أيدي أعمامه غطاء التابوت لتكشف عن المومياء الراقدة بداخله. لم يصعقه تماماً سوى هذه الضربات البشعة الآلية التي تجردت من كل تحكم إنساني، ضربات لا تكشف إلا عن مدى الذعر البالغ لضاربها، ما الذي يجعلهم يفتكون بجثث محنطة لا تملك أي قدرة على الدفاع عن نفسها؟ وإذا كانوا يريدون الذهب، فلما كل هذا التشنج الوحشي، في حين أنهم كانوا يستطيعون أن يسلبوا الذهب من حولها بهدوء وطبيعية؟

وفي لمحة خاطفة يستطيع ونيس أن يكتشف حقيقة مرعبة، لا يقولها أي مخلوق، لكن تكشف عنها الصور: ذعر أعمامه وقبيلته في حضرة المومياء. لقد أعطوا المومياء هم أنفسهم الحق في أن تعيش في أعماقهم، وأن تملك القدرة بالتالي على قهرهم وعلى حماية حاجياتهم العالقة بها، لقد كانوا يشعرون بأنهم في هذه اللحظات العنيفة انما يسرقون حاجات تلحقهم ضرباته. بل ان ما يملأهم رعباً هو أن يكون الشيء الذي يرونه ميتاً أمام أبصارهم هو نفسه حي لأقصى درجة في وجدانهم. في هذه اللحظة فقط تنهض هذه الجثث بكل قوة في شعور ونيس، وتغدو تتمتع بنوع غريب من الوجود الحي. بل وبفضل التضخيم الذي أحدثته الصدمة عند ونيس، تتحول هذه المومياء إلى أشياء روحانية، وتكتسب ملامح إلهية لا تخفى. وبهذه الأشياء ذاتها انما يتعلق ونيس، بعد أن أخرجته الصدمة ولفظته من عالم القبيلة، أي من عالمه الذي لا يعرف عالماً غيره.. في هذه اللحظة يتحول العالم إلى سفاكين. ولأول مرة تسدل على الوجوه المألوفة "أقنعة" جامدة، هي أستار كثيفة تحجب الملامح الحقيقية. ويبدأ ونيس في هذه اللحظة يبحث عن وجوده. لأول مرة يدرك مدى الزيف الذي يستشري في كل شيء. ان العالم كله يكذب. وكلما حاولوا إقناعه بأن ما رآه ليس إلا مجرد عظام وخشب، مجرد رماد، كلما توغلت المومياء في أعماقه أكثر، وزادت حياتها في مشاعره رسوخاً لقد لمس كيف يرهبون المومياء بغريزتهم بينما يحاولون بوعيهم المجرد أن يظهروا نقيض ذلك تماماً. من أجل أي شيء يصنعون كل هذا؟ من أجل الذهب وبريقه. لقد جعلهم الذهب ينقلبون بكل حدة على أنفسهم، ويعيشون حياتين، رأينا مدى التناقض الفاصل بينهما وبكل أبعاده الصارخة في خلال هذا المشهد، انهم من أجل الذهب تركوا العالم كله، وتمركزوا في بقعة صغيرة متقلصة في قمة الجبل في المكان الذي يضم في باطنه مخبأ المومياءات، أو الدفينة. لم يبرحوا هذا المكان أبداً طوال قرون بأكملها. لم ينزلوا من قمة الجبل ويختلطوا بأهل الوادي المحيط. فقد كانت معايشة العالم تخيفهم، كما يرهبهم التوسع، لأنه خطر على السر الدفين، وأيضاً بسبب جشعهم البالغ. لقد سجنوا، إذن، أنفسهم بأنفسهم وذلك مدى الحياة. وهو نفسه السجن الذي عندما يبلغ ونيس سن الرشد سيدخله، وبحكم العادة سيرضخ لأسواره. ولم يكن في وسعه أن يدرك هذه الحقيقة السافرة البسيطة في الوقت نفسه، إلا في مثل هذه اللحظة المروعة، التي جعلت كل الأشياء تبرق في ضوء حاد، وتنكشف التناقضات، وتظهر مأساة حياته المنتظرة.

انها، إذن، لحظة الانقلاب التام في حياة ونيس، وهي نفسها اللحظة التي خلفت شقاً بالغاً في كيان القبيلة كلها، هذا الكيان الأجوف الذي سنراه في النهاية يتحطم وينهار تماماً. ان هذه اللحظة هي – في ذات الوقت – بداية التحول في وجدان القبيلة الذي يجري بطيئاً متردداً يكاد لا يبين. وهو خط سنراه يستفز، في تقدمه البطيء هذا، كل الخطوط القوية الغائرة، غور كل هذه القرون، لنفيه وتحطيمه.

لقد بلغت لحظة التحول عند ونيس، والتي لمسناها في هذا المشهد – الذي بدأ بجنازة الأب وانتهى بالفتك بالمومياء – أعلى درجة من الانضغاط ومن التكثيف إلى حد الغموض. ولم يكن مثل هذا التكثيف شيئاً مفروضاً على تركيبة المشهد، بحيث يمكن ملاحقته من الخارج. ذلك لأن عملية التكثيف ذاتها هي العملية التي تسري في تركيبة الفيلم كله، لأن الأشياء الغامضة تخلق وسيلة فضها، لكن لكي تخلق مرة أخرى أشياء مركبة تدعو إلى استيعابها. وتدور هذه الحركة داخل الفيلم كله، وهي وحدها التي تنقلنا من مشهد إلى مشهد، أي من تركيبة إلى تركيبة أخرى.

انها لحظة مباغتة تفتح أمام ونيس أعماق عالم بأسره، كانت حقيقته الدفينة – حتى هذه اللحظة – مستغلة على كل من كان يراه. وبهذا المشهد تدخل عالم القبيلة الصارخ المتناقض، المثير، المزعج. عالم يكشف لنا عن كل الشخصيات البارزة التي تؤلفه وتنصهر في داخله: أعمام ونيس، وأخيه، وأمه، وأولاد أعمامه، وسمسار الآثار، وخادم السمسار، والعاهرة، وضابط الأمن، ثم شخصية الغريب.

ان تناقضات هذا العالم لم تنفجر إلا في الحاضر، أي فقط في لحظة رؤية ونيس لمشهد الجريمة. ان كل شيء لا يكشف عن أي أعماق إلا في اللحظة الحاضرة، ولا شيء يوجد في الماضي. ان نفس اللحظة التي تعرت فيها التناقضات أمام ونيس، كانت هي اللحظة التي تعرت فيها هذه التناقضات أمامنا. وقبل أن نرى هذا المشهد لم يكن ونيس يرى شيئاً. لم تكن حيرته، مثلاً، نتيجة ضغط لا شعوري قوي يحثه على انقاذ المحرمات. وأين هذا اللاشعور في ذلك المشهد؟ ثم كيف ينشأ في داخله هذا اللاشعور الجمعي وكل قبيلته وعلى مدى هذه القرون العديدة – ترى في هتك المحرمات أو هذه المقدسات بالذات شيئاً تحاول باستمرار أن تظهره عادياً، طبيعياً؟

حينما ظللنا نتابع حركة ونيس على امتداد الفيلم، لم نكن نتابع، في الواقع، سوى امتداد هذه الصدمة التي تلقيناها نحن بالتفجر المباغت لكل التناقضات، والتي غدت تتخلق في داخلنا. ولم تكن حيرة ونيس طوال الفيلم، سوى حيرتنا نحن أمام هذا التناقض، هذه المفارقة، هذا الازدواج الذي يحكم العالم، ويسيطر عليه. في هذه اللحظة ولد ونيس من جديد. ولم يولد ونيس إلا بفضلنا. وهو ثمرة التناقض الأكبر الذي تقوم عليه حركة الفيلم بين أفندية الآثار ورجال القبيلة. انه ثمرة التناقض الذي عشنا فيه، والذي ساهمنا في خلقه طوال الفيلم.

 

نقيض هاملت

(هنا يصبح ونيس على النقيض من هاملت تماماً. فهاملت يعاني من حيرته "هو" أمام عالم مضطرب، بينما ونيس هنا يعاني من حيرتنا "نحن" أمام هذا العالم. ان هاملت يتحرك لاكتشاف اضطراب العالم لحسابه الخاص، بينما يكتشفه ونيس لحسابنا نحن. الحركة عند هاملت تتجه إلى داخل العالم الهاملتي، بينما تتجه الحركة في دراما ونيس إلينا نحن وإلى عالمنا، وهي تستنهض فينا كل أبعاد الصراع الذي نعيشه)، وفي حركتها تسعى إلى شد التناقضات إلى حدها الأقصى، فتحثنا مباشرة على لمها وتركيبها من جديد، أي تحثنا على "الوعي" بسر وجودها، وفي هذه اللحظة فقط تدفعنا إلى تجاوزها. الدراما الهاملتية تنتهي بالتطهير، أي بتهبيط الصراع، وغلق القوسين، والانتهاء من رسم منظور العالم، بينما دراما ونيس تنتهي – كما سنعرف بوضوح – باستنهاض الصراع، أي باستنهاض أول إمكانية حقيقية للوعي، أي أول إمكانية حقيقية لتجاوز مستوى هذا الصراع.

لقد كشفت القبيلة في هذه اللحظة، إذن، عن وجهها الحقيقي لونيس. وقد زلزل كيانه كله من وطأة هذا الاكتشاف المباغت. ما الذي يحدث تماماً في هذا العالم؟ كان هذا سؤال ونيس لنفسه، سؤال لا يطرح ولا ينكشف في ذات الوقت إلا بالمرئيات التي يراها. وهو سؤالنا نحن أيضاً، بل هو سؤالنا نحن قبل أن يكون سؤال ونيس، لأننا قد سبقناه – في سياق حركة اللقطات – في الاكتشاف ببرهة واحدة. وحينما قفزها ونيس كان هو "المجسد" الحي، إذن لذلك السؤال، وحينما رأيناه يختفي فجأة، ويجري لاهثاً، مأخوذاً ومذعوراً، ثم واقفاً في ذهول ثم في فضول، كان هو يستأنف تجسيد السؤال، كان يعطيه أبعاده وألوانه الخاصة، كان يحيه. وكل هذه التلوينات الانفعالية التي ملكت عليه وجدانه في هذه اللحظة، كانت هي ذاتها التلوينات التي تتشكل داخل وجداننا ونحن – بكل قلق وبكل فضول – نتابع سياق الحركة وامتدادها. وأخيراً، لا يجد ونيس أي إنسان يفضي له بما بمزقه، سوى قبر أبيه، القبر الأبيض الذي نراه يرقد في سلام، بين كثافة ليل حالك، ومازالت زهور الحداد في مكانها. صدمته القبيلة، فأخرجته عن عالم البشر. وأمام اللامتناهي يطرح سؤاله: "ما هذا السر الذي جعلني أخشى النظر إليك يا أبي؟" انها اللحظة التي يستيقظ فيها أبوه في داخله بكل شدة، وربما كان هذا لكي يستريح إلى الأبد.

هنا يواجه ونيس وجوده كله مكثفاً. هنا يواجه موقفاً وعليه أن يختار: فلحظة الاكتشاف هنا هي لحظة لفظه من عالم القبيلة. لكن كيف يرفضها، وهو لم يمارس أي وجود خارجها؟ هنا سيتولد في داخله تناقض وازدواج، بين الواقع والوعي. هنا ستتولد "سوء النية" في سلوكه: أن يتحاشى باستمرار التفكير في أن ما رآه هو الجريمة ضد المقدسات – وهذا الجانب من شخصيته سيضاء ويكتشف بظهور "الغريب" في عالمه وبتساؤلاته ثم عليه من ناحية أخرى أن يسعى للتحرر من أسر القبيلة. أي أن يسعى في نفس الوقت لتحرير القبيلة ذاتها من أسرها. وسيأتي ذلك في النهاية تماماً، حينما يعطي السر لأفندية الآثار، أي حينما يعطيهم مصدر القوة الوحيدة للقبيلة. وهذا الازدواج في شخصيته سيجعله هائماً، غريباً، لا يستقر على أرض. لكن هذا الازدواج ذاته – أي هذا التأمل الدائم – سيجعله يستوعب ويمتص كل أبعاد العالم المحيط به. ومن ثم فأننا سنراه طوال الوقت منفياً عن العالم، بينما هو نبض الحياة فيه.

لقد أبعد ونيس عن العالم ليتأمل تركيبته المتناقضة المزدوجة، واختفى زمناً من أرض الأحداث. وما تم لونيس هنا هو بالتحديد ما يريد الفيلم أن يعطيه لنا: أن يسمح لنا هذا الاختفاء المؤقت، فرصة تأمل هذه التركيبة المزدوجة نفسها، التي يتأملها ونيس وهو بعيد مختفي. لكي يعطي لنا فرصة المقارنة، وتداخل الأحداث. وما يريده لنا الفيلم من كل هذا، هو أن نندفع في حركتنا على أرضية هذا العالم. وحينما يرجع إلى أرض الأحداث، فأننا نترك له الحلبة، إذن، ليمثل بدلنا، ويحل محلنا، ويعاني الواقع الذي عانيناه ولا نزال نعانيه.

 

الأقنعة

ثم تأخذ تناقضات العالم تتفتح لنا أكثر فأكثر: فحينما تجتمع عائلة شيخ القبيلة لإقرار مصير القبيلة، أي مصير الدفينة، بعد موت الأب، تتكشف وتتمزق – أمام عين ترى الأشياء الأليفة جداً لأول مرة – تلك الزخارف السطحية، وتنكشف بعض الحقائق المثيرة خلف الأبهة الظاهرية والأقنعة. ينكشف طمع الخلافة والوراثة. ان الكل يحاول أن يبدو في صورة المتأثر بالمصيبة الفادحة. لكن الكل في نفس الوقت ينتظر مكسبه الخاص، ونصيبه. ويتغطى الجو كله بستار كثيف من التناقض والابهام.

ما هي الحقيقة؟ هل أتى العمان إلى بيت شيخ القبيلة لتقديم أبلغ التعزيات كما يقولان – في أول المشهد – أم أنهما أتيا فقط لمناقشة أمور الدفينة، كما سيظهر لنا بعد قليل؟ نحن نراهم يجلسان في خشوع وفي اجلال بجانب الأم الثكلى، لكنهما لا يستطيعان كبت انفعالاتهما لحظة اثارة موضوع الدفينة، فنراهم يحتدان ثم يستغرقان في صراع مع الأخ يحاولان، بكل ما عندهما من طاقة وتحكم، ألا يجعلانه يخرج عن الحد. ولا ندري أيضاً هل الأم حزينة كل هذا الحزن على المتوفي كما تصرح حقاً، أم انها منتشية وراضية – إلى حد ما – بسبب هذا الاهتمام الكثيف المفاجئ الذي يغدقها به العمان والجميع؟ ثم ما سبب ثورة الأخ بكل هذه الحدة والعنف التي يحاول أن يكبتها فلا يستطيع، وتفلت الأمور من يديه؟ هل هو فعلاً قد تحطم باكتشاف الجريمة، كما يحاول أن يوحي في كل حركاته وايماءاته وكلماته؟ ثم لماذا يحاول تضخيم المسئولية والقائها بكل حدة على أعمامه؟ وهل صحيح ما يلمزه به أحد العمين – في ايماءات نفاذ صبر – بأنه لا يتصنع كل هذا إلا فقط بسبب اقتسام الدفينة بينه وبين أخيه؟

انه، إذن، لحوار غامض، مريب، مضغوط. وأنها لإيماءات لا تعطي المرء فرصة تفتيح ما تدل عليه تماماً. ذلك لأن الأقنعة التي تغطي الوجوه انما تنزع عنها في لحظات خاطفة، كي يسرع القوم في ارتدائها فوراً. وهذا هو سبب ما نلمسه من الآلية التي تطبع الحركات والحوار المصطنع. ان الإيماءات هنا لا تتطابق في تعبيرها مع الكلمات إلا نادراً، إلا فقط في اللحظة الخاطفة التي ينزع فيها القناع. لكن طوال الوقت تنطوي حركاتهم وإيماءاتهم على سوء نية. فهم يجعلون وجوههم تبتسم أو تترحم أو تثير الحنان، فقط حينما يريدون سلب إرادة الطرف المقابل. وحينما تبدأ انفعالاتهم تصرخ، حينما يتهدجون، فانهم يحاولون ان يكسوا وجوههم بتعبير جاف أو لين أو أجوف، لا يبطن أي شيء.

ومن بين ثغرات الأقنعة نلتقط ما يدور في السياق: العمان يهددان الأخ، والأخ لا يأبه بهذا التهديد، ويقاطعهما بحدة أن "يتركا الموتى في سلام"، أي يتركا الدفينة. ثم يحاولان بدورهما – بعد يأس – أن يستميلاه وأن يكسبا عطفه بتضخيم صعوبة حياتهم، وشقاء عيشهم. ونلتقط أيضاً أن الأم، وقد أسكرها شعورها بأهميتها المفاجأة، تتهجم على العمين عندما يبلغ اشتباكهما مع ابنها ذروته. لكنها تدافع بكل حماس عنه لا لشيء أخر سوى انها هي التي ربته. وفي النهاية ينسحب العمان في غموض، كما جاءا في غموض، بعد أن يخلفا ورائهما كلمة مريبة تحمل معنى التهديد، لكن في سياق التعزيات. يقولها العم إلى الأم: "أما نحن فلننصرف الآن، بعد اذنك يا سيدة الدار قدرك الله على احتمال المكتوب".

ثم فجأة تتذكر الأم ابنها الصغير ونيس. وتحث أخيه على البحث عنه. لكنه لا يعير كلماتها التفاتاً. ويستمر في هياجه الذي يحاول باستمرار أن يكبته. ثم يسعى لتأنيب ضمير أمه بتضخيم صدمته واشراكها في مسئولية الجرم الواقع على الأسرة كلها وعلى أبيه. وتحاول هي أن تبدو متماسكة في مبدأ الأمر، لكنها لا تنجح طويلاً في ستر ما يعتمل بداخلها، فيظهر الانزعاج والرعب في معنى كلماتها، لكنها حريصة على أن تبدو حركاتها متزنة وقوية. وفي النهاية تسترحمه أن يكف عن ايلامها فقد حرم بوجوده ذاته "نزرة الصفاء" في العيون.. ثم وبكل قسوة ووحشية تطرده من البيت وتتبرأ منه، بعد يأس مطلق.

نحن هنا لا نعني بالتحديد أين تكمن الحقيقة. ذلك لأن الانفعالات الصاخبة، التي لم تعط لها الفرصة للإفاضة عن الأعماق، قد عطت على الوعي وسلبته مكانته. انفعالات ذات بعدين متبادلين: انفعالات الشخصيات المشتبكة في مواقف، والتي هي في نفس الوقت انفعالاتنا نحن وقد شدنا السياق، والذي لا بد يشدنا ويستغرقنا.

ويظهر ونيس بعد ذلك متخفياً، خائفاً، يسترق السمع إلى كل ما دار من جدال، وراء حائط ممر ضيق يقاطع الصالة، ثم يراه أخاه، فيأخذ في صعود الممر تائهاً، مشتتاً. إذن، فقد حانت اللحظة كي يأخذ ونيس نظرتنا ويرى بها الموقف. اننا نراه يواصل صعود الممر الطويل الممتد بخطوات ثقيلة، بالغة البطيء، كأنه منوم لا يلتفت لأخيه حينما يناديه، وحينما يسأله عن تباعده المستمر. وأخيرا يرد، فيأنب أخاه على سلوكه تجاه الأم، في مضمون حاد لكن في مخارج شديدة الثقل. ثم تتغير لهجته؟ ويفيض في ألم حاد غريب، وكأنه يكلم نفسه، وهو مازال في صعوده البطيء، ويداه الممددتان التي تلامس، بكل رفق التائه، حائطي الممر الضيق: "أطلعني على مصير مظلم، صحراء على أن أسيرها وحدي، خائفاً من المشاعر ومن الذكرى"، ثم تدور مجادلة خاطفة ثقيلة، تنتهي بغضب عصبي للأخ، وخروجه من البيت، بعد أن يكتشف أن لا مقام فيه بعد الآن. ويسقط ونيس راكعاً حانياً رأسه، مستسلماً لبكاء صامت.

وما يجري في المشهد التالي يصور كيف تجري عملية اغتيال الأخ. نحن لا ندري في بداية المشهد ما تضمره الأقدار. غير أن كل ما سبق رؤيته وسماعه من قبل انما يجسد ويراكم جواً مليئاً بالإحساس بالانقباض وبالاضطراب الثقيل، والصراعات المعلقة، والتهديدات الخفية. وبهذا الشعور بالانقباض نتابع، في هذا المشهد، حركة مشي الأخ – في لقطة متوسطة – تجاه شراع ضخم أبيض يرفرف غاطساً، يخفي أسفله وراء منحدر رملي، غامضا كأنه الإنسان المتربص. الكاميرا هنا ثابتة، والأخ يسير ويسير وكأن لا نهاية لسيره. ثم يختفي وراء المنحدر. ويظهر نقش كفين زرقاوين. لنعرف انهما مرسومتان على مقدمة مركب، تحمل رجلين ملثمين في أردية ثقيلة قاتمة اللون. ينزلان، ويراهما الأخ، وهما يتابعانه من الخلف. وما هي إلا برهات حتى رأينا تداخل من ملابس وأيدي، ثم لمعة خنجر حاد يطعن مع صوت صرخة مكتومة، ويد تتلوى في ألم، ثم تسقط جانباً، ثم تسكن إلى الأبد. وتدريجياً نرى النهر، بينما تحمل جثة الأخ وتلقى في النيل بلا ضجيج ثم يتسع المشهد لنرى جزءاً أعرض من النهر، أفقاً خالياً في النهاية – نسمح صوت صفير غريب أجوف، كأنه صوت شخير مخنوق لكائن يذبح، يمزق الصمت. ها هي مركب الأفندية وقد وصلت إلى شط الوادي. وهذا صوت صفيرها. وها هو ونيس يسمع الصوت وهو مختف داخل المعابد، ثم نراه يتجه إلى ناحية الشط.

 

شخصية المشاهد

ما سنحاول أن نعرضه بعد ذلك في الفيلم ليس ملخصاً لما بقى من أحداثه. بل نحاول بهذا العرض الكشف عن الطريقة التي تنمو بها المشاهد، وتتلاحق – في تتابع مثير يستغرقنا كلية – مشهداً على أثر مشهد. ان كل مشهد انما يبرر لنا بناء على تساؤل يطرحه المشهد السابق له. ويحاول بتركيبته الدرامية الداخلية، أن يجيب على هذا التساؤل. وسنكتشف ان كل مشهد من مشاهد الفيلم هو عبارة عن "كل" قائم بذاته. يتمتع باستقلاله الخاص، وبشخصيته، أي بتركيبته المميزة. لكن في نفس الوقت الذي يحقق فيه هذا الاستقلال، فانه يحتوي على نقص. لأنه يصبح بأكمله عبارة عن سؤال. بعد أن كان هو ذاته جواباً لسؤال أثاره مشهد سابق.. إلى آخر هذا التلاحق والتوالد والتكاثر الداخلي "العضوي".

ونتابع الآن حركة اكتشاف ونيس لجوانب العالم الذي نشاهده وكأنه يراه لأول مرة ونتابع في نفس الوقت كيف يكتشف الآخرون ذواتهم خلال نظرة ونيس الجديدة المستطلعة، إليهم. نتابع كيف تتراكم عناصر الصراع الذي سيفضي به في النهاية إلى افشاء السر.

حينما يسمع ونيس صوت سفينة الأفندية، يتجه ناحيتها، وهو في طريقه إلى الشط يقابل فتاتين تتساءلان عنه، ثم تختفيان. في نفس اللحظة نرى العم والغريب وأبناء العم وبعض أفراد القبيلة وهو يتطلعون نحو شط الوادي، نحو السفينة. ويتساءل العم عن سبب قدومها قبل موعدها الموسمي. يجري رجل ملثم في الصحراء ليخبر العم المنتظر على التل بمقتل الأخ. ويظهر العم تأثره، بينما يفضي إليه العم الآخر، دون أن يرفع بصره بضرورة البحث عن ونيس: لكنه يرد أن يتركوا ونيس "فالبكاء وحده يخلصه من طفولته، وانه لا بد عائد، عندما يدفعه الجوع والوحدة". لكنه يلتفت إلى الرجل الملثم مشدداً أن يراقب ونيس، ويحذره من أن يصيبه سوء. ثم يأمر في عصبية أن يبحثوا عن "مراد" خادم سمسار الآثار "أيوب"، لأنه الوحيد الذي وجهه لا زال مجهولاً عند حراس الجبل. ثم نتابع مع حركة سير أبناء العم، "مراد" وهو في طريق الميناء مع نفس الفتاتين اللتين رآهما ونيس على الشط. ونعلم أن مراد يرفض الاستمرار في المتاجرة بالآثار، ويفضل عنها خدمة الأفندية بعد أن استدعى ابنتي عمه لمساعدته. ثم يصرح بأن الحياة الآن قد أصبحت في حاجة لرجل بارع. وانه جبان تماماً كما يتهمه أبناء العم. في حين تلمس منه رغبة في التمرد على خدمة السمسار سيده، ومحاولة الاستخفاف بمكانته عند القبيلة.

تدخل السفينة إلى الميناء. وتنبهر الفتاتان من منظرها الفخم الثري. ويطمانهما مراد على حياتهما المقبلة. يلمح مراد ونيس الذي وقف يرقب السفينة. فيحوم حوله، ويسأله كيف سيستمر "الشغل" بعد موت أبيه ثم يبدأ يمارس عليه مختلف ألوان الاغراء بالعمل معه بعد تمرده على سيده السمسار أيوب، فلا سيد له دائماً سوى "الذهب وبريقه"، ويرفض ونيس الانصات إليه. بينما يلمح الفتاتين من جديد. يصل الأفندية، وتهرع البنتان لرؤيتهم، ثم يعتذر مراد لونيس عن ضرورة انصرافه ليعرف سبب مجيء الأفندية المفاجئ. يبقى ونيس وحده على الربوة يراقب "أحمد كمال" رئيس الأفندية، الذي يصعد الربوة ليركب "الكارته". وبين الاثنين يدور بالنظرات حوار صامت. أحمد كمال ينظر إلى ونيس بود لكن باستغراب، بينما يرد ونيس بنظرة يشيع فيها العداء. وطوال الوقت يتبادلان النظر. ليقطعه مساعد الرئيس متسائلا عن غرابة نظرات الشاب الصغير، التي تبدو وكأنها "لتمثال عادت إليه الحياة".

يعود ونيس إلى المعبد، الذي غدا الآن ملجأه الوحيد فيلتقي هنا بغريب عابر من أهل الوادي، يتأمل المكان بتماثيله ونقوشه، ثم يتساءل ونيس: "أليس في الوادي عندكم مثل هؤلاء". فيجيبه الغريب بالنفي، الذي راح يسأل ونيس: "ألا يخيفونك يوماً"، فيجيب ونيس: "كانوا رفاق طفولتنا.. كنا نلعب بينهم أنا وأخي"، وبين الأعمدة الشاهقة والتماثيل الضخمة، والقبضات الراقدة على الأرض في هدوء، والأقدام الهائلة الحجم، يمرحان ويقفزان. ويسعد ونيس من الاثارة التي تركها على الغريب، الذي نراه مشدوهاً في تأمله هذه القبضات "التي تقبض على قدر لن يقرأ أبداً"، ثم "كل تلك القصور.. والتصاوير"، و"الرجال التي تسير إلى لا مكان". ثم "هذه الأعمدة التي لا ترفع سقفاً". وفي النهاية يذهب الغريب لاضطراره إلى العمل في معسكر الآثار مع الأفندية.

وفي داخل المعسكر، نجد أحمد كمال ومعه "بدوي بك" ضابط الأمن، يتحدثان عن المقابر المفقودة. ثم فجأة يسمعان عويلاً قادماً من الجبل. ويسأل أحمد كمال عن هؤلاء، فيخبره الضابط بأنهم أفراد قبيلة الحربات، الذي مات كبيرهم بالأمس، ودفنوه كعادتهم عند سفح الجبل ثم يحدثه عن تاريخ هذه القبيلة القديمة التي لا تختلط بأحد، والتي لا تنزل الوادي أبداً. ويخبره أنه يراقبهم طوال الوقت. ثم عندما يلتفت أحمد كمال إلى الوراء يجد ونيس خارج السور ويحملق فيه مرة أخرى. ولا يكاد يناديه حتى يختفي. ويسأل الضابط: "هل تعرفه؟"، فيجيبه بالنفي.

يعود ونيس إلى المعبد، إلى ملجأه، ليختبئ فيه، فيصادف في طريقه أحد الفتاتين هي "زينة"، التي تقف أمام حائط ضخم، تراقبه في وداعة.. ثم تتحرك مبتعدة في بطء، تختفي، ويتبعها ونيس.. ويظل يلاحقها في تلهف حتى تقف بجوار أحد المداخل وتبتسم منتظرة. ثم تخطو داخل المدخل. ليعرف أن هذا المكان ما هو إلا الوكر الذي أسسه مراد، لاجتذاب الزبائن. ثم يدعوه مراد للدخول. وتختفي زينه. ويحاول مراد استغلال الموقف، فيبدأ يغريه بالتعاون معه حيث أنه يعرف كل شيء. بينما يظل ونيس صامتاً. وعندما يدخل الوكر يفاجأ بوجود أولاد عمه. ويشاهد أحدهم وقد انتهى من توه من ممارسة الجنس مع أحد الفتاتين. وقد أعطاها تمثالاً صغيراً وجده في الجبل. ويدعوه أولاد عمه إلى صحبتهم ونسيان "الأحزان التي لن تعيد الغد أبداً". و"الا يظل يشغل باله بالأفندية كعجائز القبيلة". غير أنه يرفض الصحبة، ويثور في وجوههم، ويتساءل عما يحدث أمامه الآن. فلا يجدوا سوى استفزازه: "أنت الآن زعيمنا، هل تستطيع أن تقول هذا للأفندية؟". وبعد مشادة بينهم يعيد مراد التمثال إلى ونيس. ثم يبدأ يحثه على رفض التعاون مع أيوب السمسار. ويظل يلح، فلا يعيره ونيس انتباهاً. وما أن يهم بالخروج حتى تدخل زينة. رآها مضطربة لكن للحظة قصيرة. وسمعنا صوت مراد يدعوها للدخول. بدأت تتحرك، لتقطع الطريق إلى حيث يقف ونيس، وعلى امتداد المسافة، تلاقت عيونهما المفعمة بكل ما ينبض من شعور حائر، متناقض، عطوف، متألم. ثم أخلى لها الطريق.

وتهب عاصفة ترابية، ونرى الغريب خارجاً من عمله في معسكر الأفندية، ويضربه أبناء العم، لعمله مع الأعداء. وفي حركة مهيبة في صمتها وجلالها نرى مجيء باخرة أيوب، الذي أتى كعادته كل موسم ليجمع بضاعته من لصوص الآثار. ويبلغه مساعدوه أن الحراس في كل مكان، وأن شيخ القبيلة قد مات، ولن تصل أية بضاعة أخرى. فيرفض أيوب التحذير، ويؤكد واثقاً انه سيأتي شخص آخر. ويظهر أيوب على الشاطئ، ويجيئه ونيس، وما أن يراه السمسار حتى يبادره قائلاً بلهجة تقطر كلها أسى ولوعة: "أحزنني موت والدك كما أحزنك". وبلا مقدمات يطرح ونيس في حدة كل هذه العواطف، ليصرح بأن حضور السمسار لم يعد مرغوباً فيه بعد اليوم. ويباغت ذلك أيوب، ويحاول أن يحقر من شأن ونيس. وتدور بينهما مشادة حادة، يختطف ونيس في نهايتها القلادة الذهبية التي كان أيوب يلوح بها ساخراً من ونيس فيصدم أيوب، يبدو أنه ينهار لأنه أخذ يستعطف ونيس أن يعيد القلادة التي دفع ثمنها، ولكن حينما لا يجد فائدة يأمر رجاله بانتزاعها منه، وصدى كلماته تتردد على ما بقى من المشهد كله: "لقد حكمت على قبيلتك". ويضربه الرجال حتى يفقد الوعي.

ويفيق ونيس على الشط ليجد سفينة أيوب قد اختفت. يلتقي بالرجلين الملثمين الذين قتلا أخاه. يرونه فيهربان، ويتبعهما، لكنهما يختفيان في النهاية. من مكانه يسمع أنيناً خافتاً لرجل يتألم. وينظر حوله بلهفة. ان كل شيء يبدو ضائعاً من يديه. والسكون يخيم على الأشياء. التماثيل الحجرية تنظر بعيداً في هدوء. ويقترب ونيس مأخوذا بعد أن تعرف عليه: انه الغريب انه يبتعد عنه مذعوراً كلما اقترب منه. ويجد ونيس ان من المستحيل استرجاع ثقة الغريب. فيركع في النهاية في خشوع، ويحدث الغريب في عجز: "لا تهرب مني، فأنا جريح مثلك"، ويسأله عما يبحث عنه الأفندية، فيجيبه الغريب خوفاً بأنه لا يعرف، وليتركه في آلامه.. فينادي ونيس عليه، ويتردد صوته قريباً وكأنه يكلم نفسه: "أيها الغريب.. آلامي هي كل العمر الذي عشته.. ألام أعجز عن فهمها.. أفصح، فان الظنون اخرجتني من داري.. وشوهت في رأسي ذكراه".. ويضيف بمرارة: "أقف أمام هذا الجبل عاجزاً يملئني الغضب" ويرد الغريب متردداً، يقولون انهم يبحثون عن قوم نعيش اليوم على أطلالهم.. يسمونهم الجدود.. ويقرأون على الحجر كتاباتهم وأسمائهم".. ولا يدعه ونيس يكمل، فيقاطعه في عنف: "كفى.. لقد جعلت الأحجار تبدو حية أمامي". وعلى الحائط يسند ونيس رأسه مجهداً مشتتاً، لا يجرؤ على النظر خلفه، وحينما يستدير يجد أن الغريب قد اختفى.. ويجد نفسه في هذا المعبد وحيداً ضائعاً.

وأمام قبر الأب يركع مجروحاً متعباً وقد حل الظلام. ويظهر مراد، ويحاول من جديد اغراء ونيس بسرقة الكنز والرحيل إلى القاهرة لبيعه هناك فليسا محتاجين لأحد.. وذلك بعد أن يخبره بموت الأخ. بعد أن يضيع من شعور ونيس آخر ما كان يربطه بقبيلته. وطوال الوقت لا يرد، وفي النهاية يسأل مراد اللحوح "القلق" في توهان: "هل رأيت الموتى يا مراد".

ومن الشاطئ نرى باخرة مضاءة. ونرى ونيس يمضي في طريقها. فيعترضه مراد، وفي قلق بالغ ينبه إلى الخطر المقبل عليه. وبعد عراك بينهما، يهرب مراد عند ظهور الخيالة، الذين جاءوا على مصدر الضوضاء. وأخيراً، وفي تردد كبير، يقابل ونيس أحمد كمال، فيعترضهما ضابط الأمن، الذي يسأل ونيس عما يريد. لكن ونيس يتركه جانباً، ويطلب من أحمد كمال الانفراد به وحده. فيوافق على ذلك في رقة ودعة ويصطحبه إلى سطح الباخرة. فلا يجد الضابط أخيراً إلا أن يردد في غيظ وحيرة: "باح ونيس بالسر الذي أثقل ضميره.. فلعل الفراعنة يرحلون الآن في سلام بعيداً عن الأيدي التي تنهشها".

ثم ها هو أحمد كمال أخيراً، وقد وصل إلى مخبأ الدفينة.. ويفاجئ باكتشاف مذهل، فراعنة لا حصر لهم. ثم يأمر أحمد كمال بنقل التوابيت فوراً، قبل أن تهاجمهم القبيلة. وتباغت القبيلة بموكب رهيب يهبط بالتوابيت ليلاً من سفح الجبل. فيأمر الآباء أبناء العم بالهجوم: "هذه فرصتنا الأخيرة". فيأتي إليهم الرد بصوت واهن مليء بالخزي: "الموتى؟ هل هذا عيشنا؟". ويصل الموكب إلى الوادي، فيصحوا أهله ويقفون مذهولين، جامدين. وتوضع التوابيت على سطح السفينة التي تطلق صفارتها.. ثم أخيراً نرى ونيس الذي في لمحة يرى الناس الواقفين المذهولين، وفي لمحة خاطفة يخفي وجهه بكفيه. وبعيداً في الأفق يلمع ضوء الباخرة، في غبشة الفجر، وتسبح بعيداً، يحرسها على شط الوادي الخيالة المتأهبون ثم يختتم الفيلم بلقطة تصور كلمة من كتاب الموتى: "انهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك.. لقد بعثت..".

 

الأبعاد الكاملة للعالم

هذه هي نهاية الفيلم.. غير أن مشهد الختام هنا لم يأت ليمهد لنا الرحيل، وليبدأ في فض الرقعة من الأحداث، ومن الممثلين، كما يحدث عادة في أية دراما تقليدية. بل جاء ليلقي بوميض خاطف على الرقعة كلها جاء ليخلق ذروة درامية أخرى في حركة العالم الذي عايشناه. فإيقاع الفيلم كله يقوم على خلق انتفاضتين: الانتفاضة التي أحدثها مشهد الختام هذا، والأخرى التي جاءت مع صدمة ونيس أمام منظر تمزيق المومياء، ولقد حان الوقت، إذن، لتغيير وجهة نظرنا، ولتغيير موقعنا من الرقعة.. لقد جاء الوقت لرؤية العالم الذي ظللنا نعايشه عن قرب شديد، لنراه الآن فجأة عن بعد، ومن الخارج لقد جاء الوقت لتجسيم أبعاد هذا العالم كاملة.

لقد بدأنا نشعر مع صدمة ونيس العنيفة، أن هناك جانباً من العالم قد برز بقوة ليحجب جانباً آخر، لكن ها هنا في النهاية ينكشف الجانبان، كل في مواجهة الآخر. وبحجمهما الطبيعي دون أي تضخيم. لقد بدأنا نرى العالم كله بعين ونيس ابتداء من صدمته، حتى مشهد الختام. ومعنى ذلك اننا طوال هذا الزمن لم نكن نرى ونيس نفسه. وبعين هي لإنسان مصعوق ومرتعب، وتضخمت أمامنا صورة قبيلة ونيس. ومن داخل هذا الأسر، ظللنا نعتقد أنهم أقوياء، شديدو البطش، لا يقهرون، شياطين لكن ها نحن نراهم الآن فجأة، ولأول مرة، هزيلين، محطمين مشتتين، يشاهدون أنفسهم، في ذهول، كيف يجري سحب حياتهم ونبض قوتهم بلا حراك. ومن السفاح؟ إنه ليس إلا ونيس. الذي أدرك في النهاية، وبنظرته الخاطفة على أهله المصعوقين، انه بالفعل سفاح، ولم يستطع أن يظل على نظرته تجاه أهله، فأخفى وجهه في رعب وفي جزع حاد. ويبدأ وجداننا يترجرج ويهتز بشدة لكثرة تغيير موضوع عطفنا، ويبدأ وعينا يتشتت لكثرة تزاحم الدلائل التي تثبت، والأخرى التي تنفي. فجأة تتجمع وتضاء كل الأشياء. ولأول مرة يتحرر ونيس من نظرته المتضخمة عن شرور قبيلته. لأول مرة في حياته يراها من الخارج. لأول مرة يشعر بالفعل بكل ثقل مسئوليته عن مصيرها. أما عن الجانب الآخر: فعندما أراد ونيس أن يتحرر من قبيلته ومن شرورها، بإفشاء السر، حرر قبيلته ذاتها من أسباب هذه الشرور. ومن ثم بدأت الأبعاد الإنسانية الحقيقية تستعيد وجودها في أعماق الجميع، لكن هنا في درجة بالغة الكثافة. ما هو ونيس الآن؟ انه في وقت واحد منقذ وسفاح، خير وشرير، مبتهج وتعيس. وحينما رأى قبيلته أمامه هزيلة، كانت هي الأخرى تتحرر من أسر "الدفينة"، والذهب، وتنعتق من الانتفاخ الذي كان يشل حركتها الطبيعية.

هكذا نزع "موقف" ونيس الأقنعة من كل الوجوه. وبمشاعر الإنسان المتحرر، رأى الجميع توابيت الفراعنة لأول مرة في حجمها الطبيعي: أشياء بسيطة تخرج من كيانها المنتفخ كالأصنام – التي ظلت عند القبيلة طوال الوقت ككنز يسيطر على الإنسان ويذله، أو عند ونيس كآلهة رهيبة لا تمس، مخيفة – ثم بدت الآن أمام الجميع كبقع متجاورة تسير في خط الأفق، وتهبط من سفح الجبل. لقد رأها الجميع ترحل فجأة بعد أن عاشت في نفوسهم كل هذه السنين. بعد أن شغلت خيالاتهم وامتصت أعماقهم.. فبعثت في نفوسهم فجأة حباً خالصاً غريباً تجاهها توقفت الآن عن أن تكون أصناماً بعد أن سحبت منهم. وما بقى منها كانوا عنه غافلين طوال هذا العمر: انها كانت في "حمايتهم" على امتداد الزمن السحيق. ولقد أثار أفندية الآثار بسحبها منهم فجأة هذه العاطفة التي لم يكونوا يدركون أنهم يحملونها لها بكل هذه القوة. حينما رأوا التوابيت الفرعونية ترحل منهم، تزاحمت العواطف والأفكار والذكريات، تدافعت كلها، جعلتهم عاجزين عن الحراك.

وقفوا يتابعون في ذهول مسيرتها على امتداد فضاء متسع عريض: ما هم إلا نقط سوداء ضائعة يبتلعهم الأفق، نقط تتلاصق طلباً للحماية، ولدفء انساني، عاجزة، مشلولة، محطمة. وقفوا في جناز يتابعون رحيل المومياءات. أجل، لأنه في اللحظة التي بعثت في نفوسهم، وبكل كثافة الحياة الراقدة في الأعماق، قد سلبت منهم. وأمام عيونهم ماتت كأشياء، لكن بعثت في نفوسهم الكائن الحي والذكريات.

لقد بلغ هذا المشهد حداً من الروعة ومن الاعجاز قلما نجده في أية سينما. لأن على تركيبته الداخلية أن تضغط بكل شدة ذروة كاملة الأبعاد والثقل.. أن تضغط كل هذه المعاني المتزاحمة، المتباعدة، المتناقضة، في عجينة شعورية متماسكة. وأن تكثف في داخلها عدة فصول بكل التركيبة الدرامية، (وبكل التلوينات الحسية المختلفة فعادة في الدراما نجد أن الحركة المتجهة لخلق الذروة الرئيسية تكون في المركز أو في قرب النهاية، ثم يعقب ذلك فصل بأكمله يمهد لهبوط القوس)، أي إتمام ما بدى في هدوء من فتحة ومن تصعيدة. لكن هذا ليس هو الحال هنا في "المومياء". فالخط الدرامي يتلاحق ويتصاعد بسرعة، لكي ينحدر فجأة وبكل ثقله وشدته. ومن هنا منشأ الشعور بالتمزق الذي اعترانا بعد مشاهدة الفيلم. وليس هنالك من وسيلة أخرى تجسد مشهداً مثل هذا سوى السينما. أو كما يقول "رينيه كلير" عن حق: "ان ما هو سينما، هو ما لا يمكن روايته".. فان أخص خصائص السينما، ألا وهو التكثيف الزمني والمكاني، إنما تتكشف هنا بكل دقة. اننا لا نجد في هذا المشهد ثمة حوار على الاطلاق. لكن الصوت هنا، مع ذلك، يلعب دوراً بالغ الأهمية، بل هو ركيزة هذا المشهد كله. هناك أولاً صوت العاصفة: صوت يعوي، ثقيلاً، متلاحقاً، لحوحاً، مشؤوما. نسمعه طوال هذا المشهد وهو يتلاحق استمراراً لعدة مشاهد سابقة فيغدو جزءاً لا يتجزأ من الصورة التي نشاهدها. وهو يكثف كل التوتر الداخلي. ويجسد الوعي بالخراب وبالمصير المشؤوم الذي ينتظر عالم القبيلة. بينما هناك صوت موسيقى مفعمة بشجن غريب، مليئة بتلوينات شديدة العذوبة لكن مكتومة. تسللت بنعومة فائقة إلى باطن صوت العاصفة، وإلى أعماقنا. فقد كانت تنمو مع نمو مشاعرنا.. كانت تجسد هذا الشعور التائه الغريب الذي لم يجد مكانه، من الحب والألم. كانت الموسيقى تجسد تلك النشوة الغريبة التي تصاحب حياة تستيقظ، شعور ينبثق من الأعماق، ويزيح في طريقه تلالاً من الأتربة ومن الصدأ، ومن أنقاض مشاعر تتداعى وأفكار تنهار، شعور عالم يعاني آلام البعث من جديد.

 

الزمن الإنساني

من أين أتت للفيلم كل هذه الكثافة التعبيرية، وكل هذا الثقل الحسي؟ اننا لو نظرنا إلى موضوعه أو قصته، فلن نجد أمامنا سوى قصة بسيطة للغاية. قصة درامية عادية. وينطبق عليها كل الشروط المتعارف عليها في الدراما: هناك وحدة مكان وزمان، ثم هناك بداية ووسط ونهاية، ثم هناك "عقدة" أو حبكة، تشغل مركز الدراما وهي صدمة ونيس. لكن سرعان ما يتلاشى كل هذا "التركيب" الدرامي البسيط، مع المعالجة السينمائية، لماذا؟ لأن شادي عبدالسلام قد شاء أن نعيش كل ثقل الدراما وكل امتلائها الحسي، شاء أن يطلعنا على خبايا العالم الداخلي، وعلى سر تركيبته. فلجأ إلى أبسط وسيلة ممكنة، لكن أكثرها عمقاً: أن يكثف أبعاد هذه الدراما بجعل أحداثها تدور كلها في يوم واحد. ومعنى ذلك أن يشد إلى أقصى حد خط نمو الحركة في هذا الزمن المضغوط.. وبهذا الضغط في الزمن تباطأت الحركة وبتباطء الحركة بدأنا ندلف إلى قلب عالم الفيلم، ثم بدأت جزئياته الداخلية تتضح أمامنا، وتترامى، وتتحلل فأصبحت أكثر طواعية للتعبير عن الزمن الإنساني، زمن المعايشة الإنسانية، لا زمن الساعات. فلحظة قصيرة نعيشها في قلق وحيرة تساوي زمناً بأكمله. ان زمن اكتشاف الواقع، أي تأمله، هو باستمرار زمن بطيء، مليء بينما زمن الاشتباك في الواقع والاستغراق في قلبه، قصير، سريع.

وبكل دقة هذا المفهوم السينمائي للزمن النسبي الإنساني، بنى شادي عبدالسلام فيلمه المومياء. وهو هنا على النقيض من البناء الدرامي التقليدي: فالأحداث الخطيرة، التي تستغرق باستمرار "الأزمنة القوية"، والتي يتأسس عليها كل عمل درامي تقليدي، لا تستغرق هنا سوى لحظات خاطفة.. مثل لحظة صدمة ونيس، أو لحظة مقتل الأخ، وضرب الغريب. بينما يتمشى الزمن البطيء ويتطابق تماماً مع معاناة اكتشاف واقع يتذبذب، ويتلون ويراوغ.. في هذه اللحظات يتكشف الزمن باستمرار ويفرض سيطرته علينا، ونعاني ضغطة إلى حد الضيق، ويبدو وكأن لا نهاية له. بينما يمتد المكان ويتسع، ويصبح أكثر افتراءاً منا، بكل دقائقه وتفاصيله. ان هذه اللحظات هي لحظات الواقع العادي، وهي ما يمكن أن نسميها "بالزمن الضعيف"، الذي يخلو من المفاجآت. لذا فانه يصبح الزمن الأقدر على تلمس أعماق الإنسان، والشعور بمدى كثافته وثقله. وان بناء فيلم مؤسس على هذا المفهوم للزمن، يعد مخاطرة باستمرار، نادراً ما تخلوا من الافتعال. فليس المهم أن يعطيني الفيلم صورة انفعال انسان يعاني الملل، بل المهم أن يجعلني استشعر هذا الملل. ليس من المهم أن أرى انساناً يعاني صدمة أو تمزقاً، بل المهم أن أشعر بهذه الصدمة والتمزق. وما يقوله "بريسون" يبدو دقيقاً هنا للغاية: "ان الباطن هو الذي يقود، وأنا أعرف أن هذا يمكن أن يبدو غريباً على فن خارجي كله".

ان شادي عبدالسلام يلجأ هنا إلى وسيلة بسيطة للغاية، لابتعاث وخلق الشعور بهذا الزمن المكثف، وسيلة عرفتها السينما منذ أن كانت تحبو على طريق التعبير انها الكاميرا الثابتة. التي تلتقط حركة شخصية تمشي بنفس البعد الزمني الذي يستغرق مشيها في الواقع. وثبات الكاميرا على هذا الوضع مدة معينة – طويلة نسبياً – بلا قطع، تبتعث على الفور نوعاً حاداً من الشعور بالانقباض أو بالاختناق الفيزيقي. وهي وسيلة تستمد كل قوتها الفائقة، من مجيئها في الموضع المتجانس مع الإيقاع الشامل للفيلم، ومن ضرورة سيكولوجية هامة تفرض وجودها أساساً. ورغم وجود وحدة وجهة النظر الثابتة، فان المشاهد البطيئة في الفيلم، بعيدة كل البعد عن المسرح. هكذا رأينا حركة صعود ونيس في الممر، الذي بدى هنا وكأن لا نهاية لصعوده.. كما رأينا حركة مشي الأخ نحو المركب الشراعي قبل اغتياله بلحظات، في إحساس مليء بنوع غريب من الانقباض. وكما رأينا حركة الغريب وهو يبتعد عن ونيس في المعبد خائفاً مرعوباً بتمسح بالحائط الضخم المليء بالنقوش، وكأنه يريد أن يذوب فيها. أو كما رأينا حركة اقتراب ونيس من السفينة وكأنه منوم، أو مخدر، والذي بدى وكأنه خارج من قبر.

ان الاقتراب من أعماق واقع لا يعني سوى تحليله وتفتيته. فعندما أراد شادي أن يسطح دراما مكثفة لواقع، بدأ من تقسيمها إلى وحدات، وإلى مشاهد. ان كل مشهد ليس استكمالاً لمشهد سابق. أو تمهيداً لمشهد قادم.. ان كل مشهد هو  "كل" قائم بذاته. أما تتابع الأحداث هنا فليس له أهمية خاصة، سوى أن يكون وسيلة مزج هذه المشاهد بعضها بالبعض الآخر. وكما يجري هنا بالنسبة لطريقة تكوين المشاهد، يجري هنا في طريقة تكوين الكادرات.

أن تكوين الكادرات يأخذ في هذا النوع من السينما أكبر جانب من الأهمية. وذلك لأن التكوين الثابت هو باستمرار أساس الحركة. فالكاميرا هنا لا تلتقط شريحة من واقع طبيعي يجري ويتدفق، بل انها تبدأ دائماً من موقف. ومن الممكن أن نقول مع بعض التجاوز، أنها تبدأ من ثبات. لذا فحينما تبدأ الكاميرا تتحرك فإنها تصبح ذات فاعلية ديناميكية مضاعفة. مثلما لمسناها في مشهد اكتشاف ونيس لحفرة المخبأ، فقد اندفعت الكاميرا فجأة إلى الأمام، ثم في بانوراما خفيفة، لترينا جزءاً من فوهة الحفرة، التي أحسسنا معها وكأننا على وشك الوقوع فيها.. أي أحسسنا بنفس ما كان يدور في وجدان ونيس، وفي وعيه المشتت المفزوع.

 

التكثيف الوجداني

ان الصورة، بلا شك، تلعب هنا الدور الرئيسي في خلق هذا التكثيف الوجداني. والصورة في حد ذاتها لا يمكن أن تخلق هذا الكثيف إلا إذا جاءت متضمنة أكبر قدر من الشفافية ومن التركيز والوضوح، بحصولنا من الصورة على هذا القدر من الوضوح، فإنها تغدو وسيلة هامة لاستنهاض واثارة حواس تكون واقفة حتى ذلك الحين، كحواس ثانوية في التجربة البصرية، إلا وهي حاس اللمس وحاسة الشم. وهي حواس من العسير اثارتها، بحكم انها باستمرار أكثر التصاقاً بالمادة، وأقل استعداداً لاستدعاءات الفكر والتخيل. ومعنى ذلك أن لو استطاعت الصورة اثارتها واستدعائها للمساهمة الإيجابية في تحديد وخلق التجربة البصرية، فإنها تكسب الصورة.. هذا الشيء المتخيل – أكبر قدر من المادية، ومن الوجود المادي. وقد بلغ الإحساس بالصورة في هذا الفيلم حداً غريباً من العمق الحسي، جعلنا نشعر وكأننا نلمس جدران المعابد والممرات والملابس والوجوه. جعلتنا نتحسس آثار احتكاك الاقدام وغرسها الخفيف في الرمال الكثيفة الرخوة، جعلتنا نشم رائحة ذلك الهواء العطن الذي نشتشعره يتخلل الأماكن الصحراوية القديمة المغلقة. جعلتنا نشعر بالندى الذي يبلل الزهور، بل وبثقل الليل، وبقشعريرة جو الفجر. ولا أعتقد أن ذلك كله كان في استطاعتنا تبينه لحظة الاستغراق في المشاهدة، لأن ذلك كله كان هو ذلك الذي يمارس في هذه اللحظة خلق الإحساس بكثافة المرئيات وان هذا التكثيف الشعوري بالصورة قد بلغ حداً فائق العمق لأنه كان يجيء أساساً وفقاً لمتطلبات الإيقاع السيكولوجي العام للفيلم، ولحركة الدراما. وما كان يعنيه "روبرت بريسون" يتضح هنا تماماً: "ان السينما ليست صورة لشيء بل انها هي بذاتها شيء". والسينما التي يخلقها شادي عبدالسلام ليست مهمتها وصف أشياء بل معايشتها، ورغبته المستمرة في جعل السينما فناً من الفنون الخالصة – وليست صناعة حواديت أو أوهام – تجعله أولاً وقبل كل شيء "فناناً"، وفناناً بالمعنى الدقيق الذي يعنيه هنا "جون دبوي" حينما يقول: "ان الفنان لا يعمد إلى وصف الانفعال بمجموعة من الألفاظ العقلية أو الحدود الرمزية، وإنما هو يصنع الفعل الذي يولد الانفعال". فهنا تعاني تجربتنا بكل ثقل الواقع، وبكل ضغطه، بل وبكل الحاحه على مشاعرنا، وبكل التفتحات الحسية، أي بكل هذه الوفرة والطزاجة في تجربتنا بالواقع، وفي إعادة خلقه.

ولو سألنا أنفسنا عن قصة الفيلم، فلن نجد أية قصة بالمعنى المعروف، أي مجموعة من الفواصل في "المعلومات" أو الاخبارات تترابط وتتابع مع مسيرة حركة الفيلم. معلومات في تتابعها وترابطها تخلق احساسنا العام بالفيلم، ثم لا تجيء الصور في النهاية إلا فقط كي تصور هذا التتابع في حركة السياق القصصي. ان العكس من ذلك تماماً هو ما يحدث في فيلم المومياء: ان إيقاع حركة الصور ذاتها – بتكوينها وألوانها وحركة الأشخاص في عمقها تلاحمها بالأصوات، ثم تتابعها – هي نفسها القصة، وهي الدراما. والصور والأصوات في تتابعها وتدافعها انما تنسج وتخلق ما هو ليس موجوداً بدونها. لذا فنحن ننساق داخلها، ثم نبحث عما تريد أن تعطيه. الصور هنا لا تصف واقعاً، بقدر ما تخلقه، بقدر ما تدعونا لخلقه والسينما في هذه الحالة تصبح أقرب الفنون إلى الشعر: الصور والأصوات فيها ليست وصفاً أو عرضاً لفكرة، بل هي بذاتها فكرة. انها لا تصور انفعال انسان ما بشيء، بل هي ذاتها هذا الانفعال. الانفعال الذي أصبح شيئاً له كثافة الأشياء. واكتسى بنفس غموض الدلالات التي تتفتح وتفيض، وتطغي على الأشياء التي أثارتها. وانني أميل لاعتبار أن السينما التقليدية انما تستخدم الصور والأصوات، كما يستخدم كاتب النثر كلماته. لكن الأمر في السينما الجديدة مختلف بالمرة: ان السينما هي التي "تخدم" الصور والأصوات مثلما يخدم الشاعر كلماته والكلمة الشعرية – كما يقول سارتر – هي عالم صغير وهي تمثل المعنى أكثر مما تدل عليه. السينما هنا لا تصور قصة جاهزة، بقدر ما تدفع لتوليد وخلق عالم لا يخلقه إلا المتفرج. وهذا المفهوم الجديد للسينما هو ما دعى رائد الرواية الجديدة والسيناريست الفرنسي "ألان روب جرييه" لأن يقول: "ان عملية إدراك قصة سينمائية يعني بالنسبة لي ادراكها عن طريق الصور بل التفاصيل التي تتضمنها ليس بالنسبة لتفاصيل الديكور وملامح الوجوه فقط بل وأيضاً بالنسبة لوضع الكاميرا وزاويتها وحركتها وترتيب اللقطات عند المونتاج النهائي.. وعلى المتفرج أن يترك نفسه منقاداً إلى الصور غير العادية التي تمر أمامه، وإلى صوت الممثلين، وإلى المؤثرات الصوتية، وإلى الموسيقى، وإلى إيقاع المونتاج، وإلى انفعالات الشخصيات.. مثل هذا المتفرج سيجد أن الفيلم "أسهل" ما رآه من أفلام: فيلم يخاطب شعوره بلا وسيط، يخاطب قدرته على الرؤية والسمع والإحساس".

 

بداية مرحلة جديدة

وفي النهاية، اسمحوا لي أن أعبر هنا عن رأي قد يبدو لأول وهلة صارخاً، مبالغاً فيه: ان السينما المصرية – ولكل الأسباب التي عددناها من قبل – سوف تؤرخ بفيلم المومياء. انه فيلم يسدل الستار على مرحلة كاملة، لكي يفتح بجرأة شديدة مرحلة جديدة. وان الفيلم قادر على اثارة مناقشات حادة وعنيفة. هناك من يرفضه ربما "لغرابته" عن كل ما يتعلق بالسينما المصرية. ثم هناك من يتحمس له. وفي هذا وحده دليل على خصوبة القضية التي يثيرها. وأراني في هذا الصدد بحاجة للتذكير بكلمة ندرك جميعاً مغزاها ونستخدمها – وان كان في أحيان نادرة – لتفسير بعض الأشياء، كلمة قالها يوماً الفنان المصور "كونستابل" حين يضرب الفنان في سبيل جديد فان تقدمه لا بد بالضرورة من أن يكون بطيئاً، نظراً لأن قلة نادرة من الناس هي التي تستطيع أن تصدر حكماً على ما ينحرف عن السبيل العادي المطروق".

ان أبسط وصف يمكن أن نصف به هذا السينمائي الجديد، هو أنه "فنان". ونحن ندرك مدى الوقع الغريب لهذه الكلمة في وسط تسيطر عليه الآلات والمكن، وسط مدفوع بكليته نحو إرضاء أهواء السوق، وإنتاج "البضائع". سينمائي غامر بكل ما يمتلكه، بأول فرصة اتيحت له، غامر بكل كيانه كفنان سينمائي خالق، ورفض كل الاغراءات المزدوجة الواهمة. والواقع ان الذي يجعلنا نتحير في الحكم على هذه التجربة السينمائي الجديدة التي خاضها شادي عبدالسلام – والحكم بنجاحها النهائي متروك لكم – ليس هو الموضوع المثير وحده، ألا وهو مبدأ سينما المؤلف.. هذا المبدأ الذي ينادي به اليوم أبرز مفكري السينما في العالم لتحويل السينما جذرياً ونهائياً إلى "فن" يتمتع بكل خصائص الفنون، ثم أن ما يحيرنا ويدهشنا أيضاً أن تكون هذه التجربة المثيرة هي أول تجربة سينمائية بالنسبة لشادي في المجالين معاً، في التأليف والإخراج. وهذا مما يضاعف بالفعل من احساسنا بأسطورية هذه التجربة. ومما يجعلنا نراها وكأنها المعجزة: حققت كثيراً من الأغراض الجوهرية تماماً وجاءت وفقاً لكثير من المتطلبات الملحة في السينما – لا في مصر بل العالم – بضربة واحدة مفاجأة. ان فيلم المومياء قد فتح طريقاً جديداً للسينما المصرية. واعتقد اننا لسنا في حاجة لنكرر بأن هذه التجربة السينمائية هي تجربة وليدة عالم الفنان السينمائي بكل أبعاده الداخلية. ولسنا نتصور أن تأتي السينما الجديدة في مصر على النمط الخاص لهذه التجربة الخاصة الذاتية. ان الذي سيبقى للسينما المصرية من هذا الفيلم هو منهجه السينمائي الجديد، ورؤيته الجديدة، وطبيعة الفكر السينمائي الذي يتضمنه. وان أبعد ما نتصوره هو أن يخلف هذا الفيلم مادة "تشكيلية" مجردة، لإخصاب حواديث سينمائية مسلية، أو ميلودرامات سطحية. فالفيلم هو "كل" لا يتجزأ، ويتضمن منهجاً سينمائياً متكاملاً ينتشر في كل أوصاله وعناصره المختلفة.

وأخيراً، فقد أتاح شادي عبدالسلام بتجربته الجديدة فرصة عظيمة – ليس من السهل أبداً أن تتكرر كل يوم – لسائر من شاركه ابداع فيلمه. من المصور إلى مهندس الصوت إلى مهندس الديكور إلى المونتير إلى الممثلين، انهم لم يظهروا في هذه التجربة بوصفهم "مؤديين" عاديين. بل أكاد أقول "خالقين"، كلٍ في مكانه المحدد له بدقة تامة. فأكسبهم هذا التحديد الدقيق الصارم ذاته رقعة يتحركون فيها بعمق بل وبحرية. ان كل من مثل في هذا الفيلم تقريباً، من الوجوه الجديدة. باستثناء دور صغير للغاية هو "زينة" أدته نادية لطفي. ولست أظن أن هناك تجربة أخرى كشفت عن عمق إمكانيات هذه الممثلة الشهيرة في معايشة الشخصية الجو المحيط، أكثر من هذه التجربة. وقد أثبت "أحمد مرعي" الذي لعب دور ونيس انه ممثل عظيم. ونحن ندري مدى خطورة هذا المعنى بالنسبة لممثل جديد. ومع ذلك فقد أثبت هذا الممثل، وفي هذا الفيلم بالتحديد، ان الفنان الجديد ليس أبداً بالضرورة هو الفنان الناشئ. ولسنا نستطيع القول بأن وجهه الذي يحمل ملامح الفتى المصري الأصيل، كان سبباً في نجاحه كممثل لهذا الدور الخاص. ومع أحمد مرعي، نجد أحمد حجازي في دور الأخ، وحلمي هلالي وأحمد خليل في أدوار أبناء العم، وأحمد عنان في دور الضابط بدوي بك، ومحمد خيري في دور أحمد كمال، وجابي كراز في دور الأثري ماسبيرو ومحمد نبيه في دور مراد، ومحمد مرشد في دور الغريب. ثم عبدالمنعم أبو الفتوح، وعبدالعظيم عبدالحق في أدوار العمين. ومع هؤلاء الممثلين، نذكر الممثلة المعروفة زوزو حمدي الحكيم التي لعبت دور الأم ثم شفيق نور الدين في دور السمسار أيوب.

والحق اننا نشعر بأنه من الصعب علينا تحديد التجربة في شكلها النهائي والمكتمل دون التعرض للإمكانيات التي قدمها المصور والفنان عبدالعزيز فهمي، لهذا الفيلم. وخاصة وان الفيلم بالألوان وما يستتبع ذلك من خطورة في التنفيذ. كما أن من الصعب علينا الإحاطة بالتأثير النهائي للصورة، دون ذكر الدور الذي لعبه مهندس المناظر الشاب صلاح مرعي. أو دور المونتاج البارع الذي قدمه كمال أبو العلا. وهل يمكن نسيان موسيقى الفيلم وايقاعاتها البالغة العمق التي ألفها الموسيقي الإيطالي ماريو ناسيمبيني. وهل يمكن نسيان الحوار الشاعري، المضغوط، النابض بارتعاشات الدراما، الذي شارك علاء الديب في صياغته مع شادي عبدالسلام. انها سيمفونية كاملة، عرف مؤلفها كيف يبدعها ويجسدها. ومن هنا بالذات، عرف كل من أداها، كيف يخرجها في شكلها النهائي الملائم تماماً.

 

 
 
 

عن «شادي عبدالسلام» في «سينماتك»

 
 
 

·  شادي عبدالسلام.. صاحب المومياء

·  أيام شادي عبدالسلام

·   تحية في ذكري ميلاده

 

 
 
 
 

بطاقة الفيلم

 
   
 

أحمد مرعي، نادية لطفي، زوزو حمدي الحكيم، شفيق نورالدين، محمد خيري، عبدالمنعم أبوالفتوح، عبدالعظيم عبدالحق، أحمد حجازي

سيناريو وحوار وإخراج: شادي عبدالسلام

تصوير: عبد العزيز فهمي

مناظر: صلاح مرعي ـ مونتاج: كمال أبوالعلا

 
 
 
 

أيام شادي عبدالسلام السينمائية في

23.11.1987

 
 
 
 

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004