سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

المدمّرة بوتمكين:

التأريخ الفيلمي المعفي من النقد!

بقلم: فجر يعقوب

 
 

ربما كان من الأجدى الكتابة عن فيلم «المدمّرة بوتمكين» 1925 للمخرج الكبير سيرغي إيزنشتاين بعد عامين من الآن، فهو سيكمل من تاريخ إنجازه مائة عام بالتمام والكمال، وليس من المحتمل أنه سيفارق ذاكرة الفن السابع هو وصانعه «السوفييتي الأول والأخير». الفيلم يمثل شغفًا غير محدود، على الأقل بالنسبة لدارسي السينما، حتى من بعد كل هذه الانقلابات في طرائق التفكير السينمائية ومدارسها المفتوحة على آفاق لا تحد ولا توصف حدثت عبر قرن من صناعة السينما.

لا يختلف اثنان بالطبع حول مكانة هذا الفيلم في سياق تاريخي غير مجتزَأ من صيرورة السينما نفسها، لكن ربما صار واجبًا إعادة قراءته من زاوية ما، إذا كان لا يزال صالحًا للدعاية التي صُنع من أجلها، وما إذا كان قادرًا على التأثير «العاطفي» فعلًا على جمهور اليوم بالقدر ذاته الذي فعله في السنوات التي أعقبت إنجازه، أي إنه ما زال قادرًا على صنع تمرد ما في مكان ما، على ظهر سفينة أو طرَّاد حربي كما حدث مع البحرية الهولندية والبريطانية بعد خمسة أعوام من تحقيقه، إذ أبلغت الأخبار في حينها أنه وقعت أعمال شغب خطيرة في صفوفها.

أغلب الظن أن الفيلم سيخفق في صنع الدعاية التي صنع من أجلها، فيما لو أعيد تصويره اليوم من زوايا مختلفة. اليوم تتبدل مسالك البوارج الحربية عبر المحيطات، وفي أعالي البحار وتتعقَّد صورتها سينمائيًّا، ومن ثم فإن «المدمّرة بوتمكين» لا يمكن انتزاعه إطلاقًا من لحظات التوليف السينمائية «الخلاقة» التي اشتغل عليها إيزنشتاين في حينه مع طاقمه السينمائي من فنيين و«كومبارسات» مؤلفة من الناس العاديين الذين لعبوا أدوارًا مهمة في تحقيق هذا الفيلم، وكذلك تأمين إمكانات غير محدودة، أراد منها البلاشفة أن تكون بوابة عبور نحو دعاية مكتملة للثورة التي قاموا بها سنة 1917.

ولكن ماذا لو أن البلاشفة أنفسهم قد أخفوا حقيقة تمرّد قام به بحارة البلطيق ضدهم هم أنفسهم قبل أربعة أعوام من صناعة هذا الفيلم «الثوري» الذي أخذ على عاتقه مهمة إلهام الجماهير في أكثر من مكان؟!

ولو قمنا بمحاولة عقد مقارنات مع تلك التمردات التي حدثت مع البحريتين الهولندية والبريطانية سنة 1931، فإن تمرد بحارة كرونشتاد على متن السفن الحربية السوفييتية بتروبافلوف وسيفاستوبول، والتعاطف مع العمال المضربين في بتروغراد يفوق من حيث ضخامته وتأثيره تلك التمردات التي استلهمت تمرد بحارة بوتمكين سينمائيًّا، وهو الأمر الذي أخفته السلطات السوفييتية في حينه. ففي 1 مارس آذار 1921 عقد اجتماع في كرونشتاد حضره ستة عشر ألف بحارٍ وعضوٍ من الجيش الأحمر، طالبوا فيه بانتخابات جديدة، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التعبير للعمال والفلاحين إلخ، وقد جرى التغطية على ذلك بقلب الرواية نفسها عن تمرد حدث على ظهر المدمَّرة بوتمكين.

ربما تبدو إعادة قراءة هذا الفيلم من هذه الزاوية أمرًا غير اعتيادي، فهو يحتل مساحة غير عادية في ذاكرة السينمائيين الذين يستلهمونه في دروس السينما نفسها، بوصفه علامة على انعطافة إبداعية كبرى في الفن السابع، أراد منها صانعها أن تسبقه إلى التاريخ، وهذا ما حدث بالفعل، إذ ارتبط اسم سيرغي ايزنشتاين أكثر ما ارتبط به، لا بل تجاوزه في شهرته كمنجز إبداعي متفرد، وحتى مع إبداعاته الأكثر لمعانًا بدا أن «المدمّرة بوتمكين» التصق باسمه بشكل غير عادي، وقيَّده، وصنع له فسحة غير مسبوقة في تاريخ التنظير السينمائي، فما زالت مشاهد أدراج أوديسا أثناء الهجوم على القصر الشتوي، وتصدي قوزاق القياصرة للمهاجمين على سبيل المثال تحتل الذاكرة السينمائية، وتلهم سينمائيين كُثرًا حول العالم حتى يومنا هذا، بل إنها تتيح مجالًا لتوجيه التحية لسيرغي إيزنشتاين نفسه في كثير من نتاجات الفن السابع التي استلهمت توليفه الخلاق لنزول الناس على الأدراج، وخلق ذلك الشعور بأن نزولهم لن ينتهي، وكأنه لحظة ثورية أبدية، وكذلك عربة الطفل الصغير التي تفلت من يد الأم وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ما تزال تظهر في عديد من الأفلام المعاصرة. وكلما أراد سينمائي أصيل أن يُعزز من حضور ايزنشتاين في ذاكرة معاصريه إنما يعود بالفعل إلى المونتاج الخلاق لهذه المشاهد التي لا تنسى في هذا الفيلم.

لا شك أن «المدمّرة بوتمكين» سيظل موجودًا ومعززًا في ذاكرة كل من يريد صنع أفلام، وهذا أمر غير قابل للنقاش –ربما- لكن الفيلم الذي فقد الحاجة إلى هويته الأولى في صنع الدعاية التي ولد من أجلها قد فقد كثيرًا من بريقه، لولا أن عبقرية إيزنشتاين قد تجلَّت في تلك الروح الهادرة التي أمَّنتها لقطاته القوية والمعبرة في تركيب حكاية الفيلم، وصنع إيقاعاته الموسيقية الخلابة، حتى من قبل أن تُكتب موسيقى شوستاكوفيتش من أجله، وهي الموسيقى التي لا تقل قدرة عن جذب الأرواح إلى أعشاش التمرد الذي حصل على ظهر المدمّرة بوتمكين.

من المؤكد بالطبع أن استعادة حكاية الفيلم تُشكل جزءًا مهمًّا من الكتابة نفسها عن قوة الصورة وتشكيل الكادرات وإرهاصات المونتاج الأولى التي أبدع فيها سيرغي إيزنشتاين، كنظرية وفن. لكن لا ينبغي أن نغفل تلك اللعبة الدعائية الضخمة التي نتجت عنه. يدرك السينمائيون الشباب الدارسون في معاهد السينما فتنة تلك اللعبة المونتاجية، بل إن سحر الفيلم ما زال قائمًا، أيضًا ربما بنوع من ذلك التعاطف الخفي الذي يشدهم إلى إيزنشتاين نفسه كصاحب هُوية سينمائية لا تتكرر، وهو الذي دفع أثمانًا باهظة فيما بعد في زمن أندريه جدانوف، المنظّر الثقافي البارز للحزب الشيوعي السوفييتي حين استدعاه إلى اجتماع مع ستالين وبحضور ممثل فيلم إيفان الرهيب «الجزء الثاني» الرئيس، أندريه شيركاسوف الذي يروي شيئًا عن ذلك الاجتماع في وثائق خرجت إلى النور بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع عقد التسعينيات حين أبدى جدانوف شكوكًا وريبة بأن سيرغي إيزنشتاين كان يقصد ستالين نفسه في الفيلم، وأنه (إيزنشتاين) لم يكن يدافع عن نفسه من الخوف، وكان يتلعثم بوضوح، فيما تولَّى شيركاسوف نفسه تفسير أشياء كثيرة من الفيلم. تردد لاحقًا أن إيزنشتاين وُجد ميتًا في مكتبه إثر نوبة قلبية، ولم يتجاوز الخمسين من عمره (1898 – 1948). أيًّا تكن أسباب وفاته، فإنّه لا شك ترك تأثيرًا هائلًا على صناعة الأفلام بنظرياته وأفلامه التي ملأت عالم الفن السابع، وليس قليلًا بالطبع أنه قد اكتشف في سياقات عدة مغزى الجماعة في الفيلم، ومدى تأثيرها في السياق الجمالي للقطة الواحدة. هذا حدث فعليًا في فيلمه المدوي في تلك الحقبة، المدمّرة بوتمكين، وليس غريبًا أن الفيلم ما زال يتجدد في حضرة دارسي الفيلم السينمائي، وكل من يريد أن يوجه تحية لصانعه، فيستلهم أدراج أوديسا، وذلك التقطيع الديناميكي الذي لا يُنسى لحظة تفكيك الرعب الإنساني، وقراءة كل تلك الوجوه التي نال منها هذا الرعب في أثناء إطلاق النار عليهم من قبل القوزاق.

إن لحظة تمرد البحارة على ظهر المدمّرة بوتمكين، ومطالبتهم بغذاء صالح للأكل بدل تلك اللحوم الفاسدة التي تملؤها الديدان، ومقتل قائد التمرد ثم نزول الناس على الأدراج للانتقام من قتلته الحقيقيين، وتدخل المدمّرة نفسها لتقصف أركان الثقافة القديمة، واللعب الأخَّاذ على تلك الظلال السوداء، وهي تتلاشى تدريجيًا، ليس إلا جردة حساب في لحظة تاريخية معفاة من المراجعة النقدية، فهي تمثل بروزًا تنظيريًّا خلَّاقًا في تركيب الفيلم، ما تزال تسحر حتى اليوم. أما عن تلك الرسالة الدعائية الصاخبة التي جاء بها، فيقينًا أنها لم تعد تمتلك شيئًا من تأثيرها اليوم حتى عند أعتى المتحمسين لإيزنشتاين نفسه.

سينماتك في ـ  10 ديسمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004