سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

فيلم الست صائد الجوائز

السودان وكنز التراث الشعبي

بقلم: د. وليد سيف

 
 

حصل فيلم «الست» السوداني من تأليف وإخراج سوزانا ميرغني على جائزة أفضل فيلم عربي قصير بمهرجان القاهرة للفيلم القصير، وتُضاف هذه الجائزة إلى عديد من الجوائز التي نالها الفيلم خلال مشاركاته في مهرجانات عربية ودولية.

وكان الفيلم قد حصل على أكثر من دعم وتمويل، ففاز بالجائزة التي تقدمها قناة كانال بلس سينما الفرنسية في عرضه الدولي الأول ضمن فعاليات مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة بفرنسا. وفي عرضه العالمي الأول في الدورة الأخيرة من مهرجان أجيال السينمائي بالدوحة حصل على ورشة التطوير وفاز بمنحة الإنتاج من مؤسسة الدوحة للأفلام ومنحة تصميم الإنتاج من جامعة فيرجينيا كومونويلث في قطر.

تتناول سوزانا فى فيلم الست قصة حب بين صبية وصبي (نفيسة وبابكر) بمنتهى الرهافة، تتخللها أزمة عندما يطلب شاب مغترب عائد الزواج من الصبية، شاب يصعب رفضه من قبل العائلة وخاصة الأم، فهو وسيم وثري ولبق ويغريهم بمشروع استثماري كبير، لكن طبقًا للتقاليد وإصرار الأب فالمُوافقة النهائية لا بُدَّ أن تأتي من قبل الجدة العجوز، أو «الست» وهي التي ترفض الزيجة بشدة، وتقضي الصبية يومًا مع الجدة تحكي لها خبرة حياتها وتجربتها الشخصية الصعبة، لتعود الفتاة لملاقاة صديقها الصبي، ليواصلا قصة حبهما البريء، بينما يتزوج عريسها من ابنة الجارة.

تمتلك المخرجة سوزانا لغة سينمائية جيدة تجعلها قادرة على أن تلمح دون أن تصرح، أن تتجاوز الأسلوب الخطابي لتعبر بأسلوب سينمائي يعتمد على توظيف بارع لمختلف أدوات الفيلم، فالصورة تكاد تنطق بالتعبير، والضوء يلعب دورًا كبيرًا وبارزًا في منح الصورة دراميتها وبهاءها في الوقت نفسه، وتمتزج المشاهد الداخلية مع الخارجية في تركيب مونتاجي بارع، لتضفي على الصورة واقعيتها وصدقها وسحرها.

ترسم المخرجة الحركة للممثلين: ميهاد مرتضى، ورابحة محمد، ومحمد مجدي، وحرم بشير، لتوفر لهم المساحة الكافية في المكان للتعبير برشاقة وليونة، فتعبر من خلالهم عن حسها الساخر الفكِه، فالأم وهي تخرج إلى الشارع بصحبة العريس تُبدي فخرها وزهوَها به ومكايدتها لجاراتها بالحركة والصوت، والكاميرا ترصدها ببراعة. أما الصبية نفيسة فتعتمد على لغة الصمت، تعبيرًا عن حيرتها وقلة خبرتها، أما الجدة العجوز فهي تمتلك المساحة الكافية والحوار الملائم لطبيعتها وشخصيتها الأخاذة لتمنح الفيلم طابعه الاجتماعي ورؤيته الفلسفية البسيطة.

فى المقابل يعتمد الفيلم كثيرًا على اللقطات العامة والطويلة التي تحيل الكادر في بعض الأحيان إلى خشبة مسرح، وهو أسلوب أصبح شائعًا في الأفلام المستقلة بوجه خاص، ربما لظروف الإنتاج أو لطبيعة هذه النوعية من الأفلام، لكن هذا الأسلوب كثيرًا ما يأتي بعيدًا عن صالح العمل، فاللقطات القريبة تبدو ضرورية بل ملزمة في كثير من الأحيان لرصد المشاعر والتفاصيل التي لا تسمح بها اللقطات العامة، وهي مسألة جديرة بالالتفات لها من صناع الأفلام الشباب، مهما تعارضت مع الأساليب بعد الحداثية التي ينتهجونها.

على الرغم من هذا فإن فيلم الست إجمالًا هو بالفعل من أفضل الأفلام العربية القصيرة التي عرضت في السنوات الأخيرة، إن لم يكن أفضلها، وهو أيضًا يؤكد المقدرة الفنية لأجيال جديدة من السينمائيين السودانيين بوجه خاص على التعامل مع التراث والتقاليد الموروثة بأسلوب فني متقدم، ليناقش قضاياها ويراجعها بوعي تقدمي لا يتوارى كذبًا وراء ادعاءات المقدس والمفاهيم الخاطئة، ويتبع من يصنعون من أنفسهم حرّاسًا عليه ومن يزعمون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة.

كثيرًا ما تنطلق أعمال رائعة في السينما السودانية من خلال هذا التوجه في مواجهة العادات والتقاليد البالية والموروث الذي يلزم أن نعيد النظر فيه وإليه. ومن هذه الأعمال، ومن أحدثها فيلما «سنموت في العشرين» و«حديث عن الأشجار»، وقد حقق كل منهما منجزًا كبيرًا في حصد الجوائز في المسابقات الدولية والعربية الكبرى، ليس على مستوى السودان فقط ولكن في محيط الوطن العربي.

 وينضم لهما بلا أدنى شك فيلم الست الذي نال عديدًا من الجوائز المهمة التي يصعب حصرها، ومنها «أفضل مخرجة» ضمن فعاليات «مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة»، و«أفضل فيلم قصير» و«جائزة تشيرمان» من «مهرجان زنجبار السينمائي الدولي»، وأفضل فيلم قصير بمهرجان الإسماعيلية، وتنويه وجائزة لجنة التحكيم لأفضل صانعة أفلام صاعدة من مهرجان الفيلم العربي في تورونتو، والجائزة الكبرى ضمن فعاليات مهرجان تامبيري السينمائي المؤهل لجوائز الأوسكار، وأفضل سيناريو وتنويه خاص من مهرجان وشقة السينمائي الدولي بإسبانيا، وجائزة لجنة التحكيم من مهرجان بوسان الدولي للأفلام القصيرة بكوريا، وجائزة الامتياز لأفضل صانعة أفلام من المهرجان الأوروبي للأفلام المستقلة بفرنسا.

 يبدو أن صناع الأفلام السودانيين من الأجيال الجديدة حريصون على مواصلة ما انقطع في مجال السينما بعد غياب طويل وتضاؤل شديد في الإنتاج. فعلى الرغم من أن السودان عرفت السينما منذ عام 1912 فإنّ حصادها السينمائي قليل، بل إن المحاولات الجادة في تحقيق أفلام متقدمة في الفكر والأسلوب تكاد تنحصر في بضعة أفلام، منها أعمال المخرج السوداني الراحل جاد الله جبارة أحد المؤسسين للسينما الروائية في السودان بأفلامه «تور الحر في العيادة»، و«تاجوج»، و«المحلق»، و«بركة الشيخ»، و«البؤساء»، وكذلك تجربة المخرج الراحل أنور هاشم في «رحلة عيون». ثم جاءت مرحلة الدارسين الأوائل لفن السينما، ومنهم إبراهيم شداد، والطيب مهدي، ومعظم أعمالهم طغى عليها طابع التجريب والمزج بين الروائي والتسجيلي.

في الحقيقة ورغمًا عن الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي يمر بها السودان فإنّ الموهوبين من أبنائه استطاعوا أن يتحققوا ويكشفوا عن أنفسهم، وهو تأكيد أن الموهبة مثل الجنين الذي تهيأ للخروج للحياة وهو لن يعدم الوسيلة لذلك.

في غياب شركات إنتاج سينمائي مستقرة لها خطة موسعة مع انعدام دعم وإنتاج الدولة، فكل هذه الأفلام السودانية الناجحة التي تتحقق هذه الأيام تعتمد غالبًا على الإنتاج المستقل، مع الحصول على الدعم من بعض المؤسسات الدولية ومنصات المهرجانات العربية، ويبدو أن هذا هو السبيل الوحيد للتحقق سينمائيًّا لفناني السودان في ظل الظروف الحالية.

سينماتك في ـ  21 سبتمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004