أكثرت من التساؤل مؤخراً عن مدى الدهشة التي يمكن أن تحققها
السينما بعد عمر يتجاوز القرن وعقداً من قرن جديد، هذا السؤال
الذي يتقدم عمره في
كل
عام جديد، والذي يشاركني فيه الكثير، ينطلق ليمخر عباب المحيط الأطلسي
ليجيب عنه
الأخوان كوين، في فيلمهما الأخير "لا بلد للمسنين
-No Country for Old Men".
يقتبس الفيلم قصته وبشكل مخلص جداً من رواية للأمريكي "كورماك
ماكارثي" تحمل نفس
العنوان، صدرت عام 2005م، وحققت نجاحاً نقدياً واسعاً، سبق أن حققته
رواياته
السابقة مثل "سوتري" عام 1979م، أو اللاحقة مثل "الطريق" عام
2006م.
الفيلم يفتتح بمشهد يتحدث فيه الشريف "إد توم بِل" -يؤدي دوره
"توم لي جونز"- عن
عمله القانوني، الذي توارثه عن رجال عائلته، والذي يجعله يشعر بالفخر، ثم
يروي بصوت
استثنائي ومميز، عن أحد الجرائم التي قبض فيها على شاب قتل
فتاة في الرابعة عشر من
عمرها، جريمة لم تكن عاطفية كما حاول الناس تبريرها، الشريف "بيل" يروي لنا
هذه
الحكاية الفظيعة كمدخل لقصة الفيلم الأشد قتامة، والتي جعلته
يفكر كثيراً بالنيابة
عن
المسنين الذين بدأوا يشعرون بأن أمريكا لم تعد بلداً لهم.
يمكن تلخيص حبكة القصة في مطادرة "لولين موس" صياد فقير يعيش
في بيت متنقل، لظبي
حاول اصطياده في تكساس الغربية عام 1980م، ثم يقوده خيط الدم لجثث لعدد من
تجار
المخدرات الذين تمت إبادتهم في عملية تسليم فاشلة، حيث يأخذ المليوني
دولار، ثم
يعود ليلاً بسبب ضميره الذي دفعه للعودة بالماء، للوحيد الذي
ما زال ناجياً يطلب
رشفة ماء قبل الموت، إلا أن تلك المخاطرة تسير في الاحتمال الذي حوله من
صياد إلى
طريد يريد النجاة بحياته وحياة زوجته "كارلا جين"، مع الاحتفاظ بالنقود،
ومن هنا
يدخل الخط الأشرس في الفيلم لشخصية أنطون تشيغور "خافير
بارديم"، الذي يبدأ هو
الآخر في الضلوع بدوره كصياد شرس لا يقيم أي اعتبار للحياة البشرية، حيث
ينشر الموت
في
كل مكان يتواجد فيه، لا لشيء في بعض الأحيان سوى تعكر مزاجه، على الرغم من
أننا
نفاجأ أحياناً وبشكل يحمل من الطرافة والتناقض ما يجعلنا نقف
على حقيقة شخصية مؤثرة
جداً، أتقن الأخوان كوين نقلها للشاشة.
هذه المفاجأة تكمن في المبادئ التي يمكن لثورٍ قاتل أن يحملها
في قلبه، عازماً
على عدم المساس بها، من أجل روح بشرية رخيصة، يمكن أن يقايض صاحبها في بعض
الأحيان
على قرعة رأس أو ذيل في عملة معدنية، مشهد مبكر في أول الفيلم، في محطة
الغاز مع
السبعيني الذي يدير حواراً مفزعاً مع "تشيغور" شبح الموت
ببذلته السوداء وحلاقته
الرديئة وشحوبه الذي يزداد مع عين تدمع باستمرار، وتحمل في داخلها هوة
مفزعة من
الجحيم.
"تشيغور" يتحول إلى طريدة هو الآخر، صياده الأول هو الشريف
"بِل" والآخر صائد
الجوائز "كارسون ويلز"، بيد أن "تشيغور" لا يهتم بهذه التفصيلات في مسيرة
الأحداث،
حيث يستمر في دوره كحاصد للأرواح والتي يدخل ضمن قائمتها وبشكل
خاطف صائده المعتد
بنفسه "ويلز"، بينما تستمر المطاردة بينه وبين "موس" الذي يبدي شجاعة
ومهارة تليق
بجندي سابق في فيتنام، وكاوبوي في زمن لم يعد يعترف برعاة
البقر، ومن خلفهم الشريف
"بِل"
الذي يزعجه كل هذا، وبالأخص الدماء التي تلطخ الطرقات وغرف الفنادق لأسباب
واهية في تبرير الوجود الإنساني، وشعور منغص بالعجز مع كبر يلحقه في كل
يوم، مع
تغييرات ضخمة تصيب الحلم الأمريكي، وتقوض فانتازيا الجنة التي
أوهم الغرب نفسه بها
في
حقبة مضت.
يمكن أن يجد المعجبون بأفلام الأخوين كوين، ملامح في الفيلم
تعد بصمة لهما في
أفلام سابقة وعلى وجه التحديد في "فارغو" المرشح لجائزة الأوسكار عام
1996م، لكن
الإخلاص الشديد للرواية، والمنهج الذي انتهجوه في إخراج هذه
الفيلم، يعد جديداً إلى
حد
ما، حيث كوادر الالتقاط هادئة إلى حد الشاعرية التي لا تعترف بها هوليوود
بشكل
عام، الإضاءة والنور منحت كثيراً من المشاهد قدرة على
الاستمرارية دون أدنى شعور
بالضجر أو الرغبة في الاكتفاء، الانتقال في المشاهد كان يحمل نوعاً من
السلاسة التي
لم تعد مطروقة في زمن الاستعراض بأساليب الزمن المتكسر أو
التلاعب بالسيناريو حتى
الملل، شاعر التصوير "روجر ديكنيز" كان موجوداً هنا، مثلما كان في قرية "شاميلان"
عام 2004م، أو قبل ذلك في "منزل الرمل والضباب" للأوكراني
فاديم بيريلمان عام
2003م.
الموسيقى كانت مختبئة بشكل أتاح للأصوات الحية احتواء دورها في الارتفاع
بحدة الأحداث والانخفاض بها بشكل يحبس الأنفاس، لينجح الفيلم في اتجاه آخر
بأن يكون
فيلم إثارة وجريمة مميز، وهي نقطة تحسب للموسيقار "كارتر برويل"،
والذي سبق له
التعاون مع الأخوين في فيلم "لابوسكي الكبير".
الأخوين كوين يغامران على الدوام، بالتعبير عن السينما التي
يعتقدونها، وهي خلاف
السائد في الغالب، لكن مغامرتهما محسوبة للدرجة التي تجعل هوليوود قادرة
على فتح
أبواب استوديوهاتها لهم على الدوام، ومع رواية لمكارثي تتحول المغامرة إلى
معادلة
للنجاح، إلا أن عوالم مكارثي السوداوية التي اكتسبها عبر
الخمسين عاماً التي قضاها
من
حياته مثل البدو الرحل، خففت بشكل كبير من الكوميديا التي اكتسبتها أفلام
الأخوين على الرغم من سوداويتها هي الأخرى في بعض الأحيان، فالكل لا يتوقف
عند
التعبير عن تحول أمريكا إلى بلد لم يعد موطناً للمسنين فقط، بل
بلداً لم يعد موطناً
لأحد، حيث حياة الفرد لا تساوي سوى قرعة قرش معدني أو سوء مزاج.
الرياض السعودية في 21
فبراير 2008
|