تنقضي متعة الفرجة عادة بمجرد أن يكتشف الجمهور مفتاح الفيلم،
وهذا الواقع تجاوزه المخرج شريف عرفة في فيلمه الجديد «الجزيرة» الذي يمزج
- بمستوى جيد من الحرفية - بين خواص فيلم الحركة «الأكشن» ومشاهد مفعمة
بالمشاعر الإنسانية. من هذا الفيلم قدم عرفة عرضاً ممتعاً بعد ان استشعر
احتياج الجمهور لبطل شعبي، يتحدث عن الصراع الأزلي بين بطل مغامر من الشعب
وبين قوات الأمن. عرض هذا الفيلم صعود مأساة هبوط منصور الحفني تاجر
المخدرات، في فيلم لم تكن خاتمة الأحداث فيه إلا استراحة المحارب، ما يشير
إلى أزلية الصراع بين الطرفين.
اتسم «الجزيرة» بإيقاع حار يفيض بطبيعته عن جغرافية المكان
وملامح الأهالي المنحوتة كما الصخر، في قرية محصورة بين النيل والجبل في
صعيد مصر· ودعم الإيقاع عدسة أيمن أبو المكارم، والقطعات الخاطفة
والمتلاحقة للمونتيرة داليا الناصر، وذلك في وفاق مع موسيقى عمر خيرت والتي
جنحت على أي حال الى المبالغة خصوصاً في مشاهد المعارك على عادة السينما
المصرية.
رؤية خاصة
الفيلم، كما أعلن صانعوه، مأخوذ عن قصة حقيقية صارت متداولة
بعد أن عرفت الواقعة اذ نشرت الصحف أخبارها وعرضتها الفضائيات فشغلت الرأي
العام إلى أن أعلن القضاء كلمته وخرجت قوات الأمن مكللة بالغار. لم يكن
لشريفة عرفة أن ينقل الواقعة كما حدثت، بل كان عليه أن يستلهمها في رؤية
خاصة به تكشف علاقات خافية، كما تفرغ في ذات الوقت شحنة الغضب التي تغلي في
الصدور من بعض ممارسات الشرطة.
عقد شريف عرفة لواء البطولة المطلقة لمنصور الحفني (أحمد
السقا) والذي اكتسب لياقة بدنية من تجنيده في سلاح الصاعقة (كما ورد في
الفيلم). لقد ورث منصور عن أبيه لقب «الكبير»، كما اكتسب حكمة أبيه في
إدارة إمبراطورية المخدرات. لم يكن «الكبير» يعرف القراءة والكتابة، ولكنه
وعى أن يعنى بتعليم وليده، ليكون التعليم العلامة المميزة التي رجحت كفة
منصور في وراثة اللقب – على رغم حداثة سنه - عن عمه (باسم السمرة) وانفراده
بإدارة الامبراطورية.
أضفى محمود ياسين (الحفني الكبير) هيبة على العمل برصانة أدائه
وردائه الذي استلهمته المصممة ناهد نصرالله من فيلم «المومياء». اتسم
الحفني الكبير بذكاء فطري ورؤية متعمقة فاستقطب عضو مجلس الشعب عن الناحية
وهادن منافسيه ونهج نهجاً «ديموقراطياً» قائماً على الشورى. فدعى النساء
لحضور مجلس اتخاذ القرار (في مشهد يكشف عن رؤية خاصة للمخرج وإن خرج عن
التقاليد المتبعة في الصعيد). أسبغ «الكبير» عطاءه على أهالي الجزيرة وبدا
في غاية الكرم ليلة الاحتفال بوصول ابنه منصور، فأمر أن يأخذ أي واحد كل ما
يريد من طعام أو أفيون (مع ملاحظة أن لقطة توزيع اللحم على الأهالي كانت
مفرغة من الإنسانية).
وعى منصور وصية أبيه أن يكون قوياً حتى نهاية الحكومة، فالمرء
إن باع سلاحاً صار في عرفهم مجرماً أما إن باع ألفا يعينوه وزيراً! (لاحظ
سماحة الرقابة) ورث منصور عن والده اللقب كما ورث عداوة (النجايحة) الذين
هاجموا سرادق العزاء واقتحموا سراي العائلة محاولين ان يفجعوا منصور في
وليده، لولا أن كريمة (هند صبري) ابنة النجايحة تنجح في إنقاذ الرضيع·
اصطبغ المشهد بالدموية إذ تقتل زوجة منصور وأمه خلال رؤية خاصة للمخرج تجسد
شراسة الصراع بينما يتعارض المشهد مع تابوهات الصعيد التي تحرم اقتحام
الحريم والاعتداء على الرضع، ذلك الأمر الذي يدعونا لمناقشة خطورة تصدير
العنف خلال الأفلام.
الطرف
الآخر
في مستهل الفيلم توفد الداخلية ضابطاً شاباً يدعى طارق (محمود
عبد الغني) إلى الجزيرة لتقصي الحقائق في حادث إيقاف قطار الصعيد والذي
تشير كل الشواهد - من دون أدلة - إلى أن منصور الحفني وراءه، ليحتل كل من
منصور سليل أسرة عريقة في الاتجار بالمخدرات وطارق سليل أسرة عريقة في
الداخلية طرفي الصراع في الفيلم.
على مدار الأحداث يقصد منصور الى قمة البطولة فيتصالح مع
مطاريد الجبل ويجلب وحده السلاح من السودان ليقضي- وحده أيضاً - على
الجماعة الإرهابية ويقدمها هدية للعميد (رشيدي) علاوة على حمولة حشيش
(ليُفبرك) بها تقريراً للداخلية. ويحبط منصور كل محاولات الضابط الشاب
لاختراقه فينتزع كاميرات المرصد فوق أعناق النخيل ويستعين بجهاز للتشويش
على الميكرفونات المزروعة سراً داخل بيته ويتصدى لأكثر من جهة فيواجه خصومه
ويفضح دور عضو مجلس الشعب في الوساطة بين تجار المخدرات.
تتطور شخصية منصور وتحل به علة تضخم الذات ليصل إلى منحنى خطر
فيصرخ بأعلى صوته «أنا الحكومة» لتعود بنا الذاكرة - مع الفارق - إلى محمود
مرسي في فيلم «شيء من الخوف» الأمر الذي يستفز سلطات الأمن للقضاء عليه.
خلال الأحداث يبدو الأداء الأمني أقرب إلى السذاجة ما يفجر
الضحكات في الصالة ويصل إلى ذروته حين يتمكن منصور من اعتقال «العميد رشدي»
في منزله بينما يفاجأ الضابط الشاب باكتشاف تنسيق سري بين قوات الأمن
(والده وزوج شقيقته) وتجار المخدرات من وجهة نظر خاصة بحقبة التسعينات كي
يستتب الأمن وتنشط السياحة وينتعش الاقتصاد القومي، فيقع الضابط الشاب في
دوامة من الصراع الداخلي بين فضح والده أو دفن الحقيقة.
وفي الفصل الختامي تتوجه كتيبة ثقيلة من المصفحات تظللها
مروحية لاقتحام سراي الحفني في مشاهد عاصفة، فتخترق الحصار وتحرر الرهائن
لتفاجأ باعتقال عميد الشرطة داخل سراي الحفني.
الأمر الذي يضطر الضابط الشاب الرجوع إلى منهج السلف وعقد اتفاقية سرية مع
منصور حقناً للدماء، وتلك الاتفاقية التي تتكشف أبعادها في المشهد الختامي.
في صبيحة المحاكمة تتكاتف جهات عدة لتصفية منصور، أولها السلطة
الأمنية التي تحرص على دفن الحقيقة، ثم عضو مجلس الشعب الذي فضح دوره،
إضافة للعائلات المتصارعة على إدارة إمبراطورية المخدرات في الجزيرة.
ويفاجأ الجمهور باختفاء منصور بينما ترصد عين العميد رشدي (الحفني الصغير)
وقد صار يافعاً متمكناً خلف الأسوار.
قدم المخرج شريف عرفة في «الجزيرة» عرضاً مشوقاً لرؤية خاصة
بتقنية عالية ما أمتع جمهوره بمغامرات بطل من الشعب حتى ولو كان تاجراً
للمخدرات، وهذا في شبكة ثرية بالأحداث المغزولة بالمشاعر، الأمر الذي يقدر
لمحمد دياب كاتب السيناريو، كما يقدر لمهندس المناظر فوزي العوامري تصميم
ديكور سوق الجزيرة لينطق بمدى جفاف حياة الأهالي ويحسب له أيضاً حسن
اختياره لموقع التصوير الداخلي فوق الجبل وعلى ضفاف النيل ما أضفى جمالاً
على الأحداث.
مهما يكن لا بد من الاشارة الى أن المتفرج تنتابه حال من
الحيرة يصيغها في سؤال موجه للمخرج شريف عرفة عن معنى الاستعراض الرهيب
لقوات الأمن بتجهيزاتها المتفوقة براً وجواً في مشهد الهجوم على الحفني
ورجاله، فهل كان يريد أن يرهب الخارجين عن سلطة الدولة أم يريد أن يثير
التعاطف مع الحفني أم أن المخرج يريد أن يجسد القبضة الجبارة للدولة لترويع
كل من تسول له نفسه الخروج عليها؟
الحياة اللندنية في 15
فبراير 2008
|