عرض فى «بانوراما» مهرجان برلين الفيلم الفرنسى التسجيلى الطويل
«العذراء والأقباط وأنا»، إخراج المصرى الأصل نامير عبدالمسيح، الذى كان
عرضه العالمى الأول فى مهرجان الدوحة فى أكتوبر ٢٠١١، وفاز بجائزة أحسن
فيلم عربى تسجيلى طويل، والفيلم أنتج بدعم من مؤسسة الدوحة للسينما فى قطر.
هذا هو الفيلم الثالث لمخرجه، الذى ولد عام ١٩٧٤ لأسرة مصرية هاجرت
إلى فرنسا، بعد فيلم قصير عام ٢٠٠٤، وآخر طويل عام ٢٠٠٦، وأفلامه الثلاثة
تسجيلية. إنه فيلم فرنسى من حيث هوية الإنتاج، لكنه مصرى خالص من حيث هويته
الثقافية، وعلى نحو يفوق العديد من الأفلام المصرية لمخرجين يحملون الجنسية
المصرية.
نقطة الضعف فى الفيلم مدته البالغة ٨٥ دقيقة، منها نحو عشرين دقيقة من
التكرار والثرثرة، لكنه عمل فنى مهم وممتع، لأنه يعبر ببساطة وعمق وجمال،
ربما لأول مرة، عن مجتمع الأقباط فى القاهرة وأسيوط، ويماثل فى السينما
التسجيلية من هذه الناحية فيلم أسامة فوزى «بحب السيما» فى السينما
الروائية.
البحث عن الجذور
يأخذ الفيلم شكل المذكرات الشخصية، فالمخرج يروى على شريط الصوت،
ويتحاور خلف وأمام الكاميرا، ويظهر طوال الفيلم من أول إلى آخر لقطة،
وموضوع هذه المذكرات رغبته فى صناعة فيلم عن ظهور العذراء فى كنيسة بحى
الزيتون فى القاهرة عام ١٩٦٨.
وفى بداية الفيلم يتحدث المخرج عن نفسه فيقول إنه مصرى من أحفاد توت
عنخ آمون، ولا علاقة له بالعرب، وقد تبدو هذه العبارة صادمة للبعض، لكن
الحقيقة أن العروبة المكون الأساسى للثقافة المصرية منذ قرون، لكنها ليست
المكون الوحيد لهذه الثقافة، ووجه المخرج ذاته دليل واضح على ذلك، فهو يبدو
كأنه منتزع من وجوه رسوم وتماثيل المصريين القدماء، أو من أيقونات الفيوم.
ويتحدث المخرج مع والديه فى مسكنهم بباريس عن موضوع فيلمه، فيقول
والده سوف تجد الناس ما بين مصدق ومكذب لظهور العذراء، ولن تتوصل إلى أى
نتيجة أخرى، فلماذا تصنع هذا الفيلم، أما والدته فتشجعه إزاء إصراره، وليس
اقتناعاً، وبالفعل لا ينتهى الفيلم إلى أى نتيجة أخرى غير التى توقعها والد
المخرج، لكن موضوع ظهور العذراء ما هو إلا تكؤه درامية للموضوع الحقيقى
للفيلم، وهو بحث المخرج عن جذوره المصرية، بل وعن سبب، أو أسباب، هجرة
أسرته إلى فرنسا.
حقيقة أخرى صادمة
يصور نامير عبدالمسيح القاهرة بعين من لم يعرفها من أبناء أسيوط، وليس
من أبناء فرنسا، فهى عين مندهشة، لكن وراءها قلب يحب، وعقل يفكر ويسعى إلى
معرفة الحقيقة، ومرة ثانية يقول المخرج على شريط الصوت عبارة صادمة، وهذه
المرة للجميع وليس للبعض: المسلمون والأقباط فى مصر لا يحبان بعضهما البعض،
وكلاهما يكره اليهود، ويقول: الحكومة تذكر أن الأقباط ستة فى المائة من
السكان، والأقباط يذكرون أنهم عشرون فى المائة، ولا أحد يعرف الرقم
الحقيقى.
والقول بأن المسلمين والأقباط فى مصر لا يحبان بعضهما البعض، هكذا على
نحو تقريرى ومطلق، غير صحيح، لكن المؤكد أن هناك أزمة كبرى فى العلاقة
بينهما، وليس لها مثيل فى تاريخ مصر الحديث، وأن علاج هذه الأزمة يكون
بمعرفة أسبابها والقضاء عليها، وليس بإخفائها، أو بالحديث عن «الأيام
الجميلة الماضية»، التى كانت فيها العلاقة الأخوية تربط بين كل المصريين من
كل الأديان والطوائف والأعراق، ويشير الفيلم إلى تلك الأزمة، لكن من دون
بحثها، وهى موضوع آخر على أى حال.
بين القاهرة وأسيوط
فى النصف الأول من الفيلم يبحث المخرج فى القاهرة موضوع ظهور العذراء
عام ١٩٦٨، ويبدى احتراماً واضحاً لوجهتى النظر التى تؤكد والتى تنكر، وفى
إطار هذا البحث يصور ملف الموضوع فى أرشيف جريدة «وطنى» القبطية، ومن بين
وثائقه بيان بابا الأقباط عام ١٩٦٨، الذى يؤكد صحة الظهور، وأنه جاء
احتجاجاً على احتلال اليهود للقدس بعد هزيمة ١٩٦٧، كما يصور مجموعة من
الصور الفوتوغرافية من أرشيف شخصى، ويتحاور مع بعض ممن عاصروا الحدث، الذين
يرون أنها كانت «لعبة» من الحكومة للتغطية على هزيمة ١٩٦٧، وفى النصف
الثانى من الفيلم يواصل المخرج البحث فى أسيوط، ويلتقى لأول مرة مع عائلته،
وكان قد عاش معهم فترة من طفولته عندما جاءت به أمه إليهم بعد ولادته فى
فرنسا.
وهذا الجزء من الفيلم ربما يكون أول تعبير سينمائى عن قرية فى أسيوط،
وأول ظهور للفلاحين المصريين على الشاشة منذ سنوات طويلة، سواء فى الأفلام
التسجيلية أو الروائية، المتفرج المصرى يفتقد مناظر النيل والحقول
والفلاحين، ربما بقدر ما زهق من مناظر شرم الشيخ والبحر الأبيض والساحل
الشمالى، والتصوير فى أسيوط ليس قيمة فى ذاته، وكذلك تصوير الفلاحين، وإنما
القيمة فى الأسلوب الذى عبر به المخرج عن الحياة فى إحدى قرى أسيوط، وجعل
الفلاحين يتحدثون بصدق عن حياتهم ومشاكلهم، وكم هو مؤلم قول أحدهم إنه أصبح
يكره الزراعة، ويندم على عمله بها.
ومن المشاهد المتميزة محاورات المخرج مع خالته التى قامت برعايته وهو
طفل، ومع جدته العجوز الفقيرة الشامخة الواثقة، ومع الفلاحين عندما يعرض
عليهم «كروت بوستال» لصورة العذراء كما تظهر فى اللوحات الغربية، فيحتجون
لأن شعرها مكشوف، ويتساءلون أين «الطرحة»، ولا يكتفى الفنان الموهوب بأن
يكون الفيلم عن صنع فيلم تسجيلى عن العذراء والأقباط، وإنما يختتم عمله
بصنع فيلم روائى داخل الفيلم التسجيلى عن العذراء تظهر فى كنيسة بأسيوط،
وتأتى أمه من باريس لتساعده بحماس لصنع هذا الفيلم بدلاً من «الفضائح»،
والحديث عن فقر العائلة فى فيلم تسجيلى.
يقوم المخرج باختيار الفتاة التى تمثل دور العذراء من بين فلاحات
أسيوط الأقباط، وينجح فى إقناع إحداهن وإقناع أسرتها، ويختار للأدوار
الأخرى فى «التمثيلية» مجموعة من الفلاحين، ويشرح لهم «الخدعة» التى سيصور
بها العذراء مرتفعة فوق الكنيسة، ثم نرى الفيلم داخل الفيلم قبل أن يغادر
القرية مع أمه، وتلك نهاية رائعة تعنى أن الناس فى حاجة إلى العذراء، وإذا
لم تظهر لهم بالفعل، عليهم تخيل أنها تظهر لتباركهم وتساعدهم.
samirmfarid@hotmail.com
المصري اليوم في
23/02/2012
مواهب مصرية جديدة فى أفلام غير
مصرية
بقلم
سمير فريد
واجب الناقد، ولا شكر على واجب، الذى يكتب بالعربية عند متابعة أى
مهرجان دولى، أن يهتم بالأفلام «من وعن العالم العربى»، لأنه يتوجه بعمله
إلى القارئ العربى، وقد شهد مهرجان برلين ٢٠١٢ عدداً غير مسبوق من الأفلام
من وعن العالم العربى فى إطار الاهتمام الدولى الكبير بما أطلق عليه فى
الغرب «الربيع العربى» بعد الثورات ضد الديكتاتورية فى تونس ومصر واليمن
وليبيا وسوريا مطلع العام الماضى.
أردت مشاهدة كل الأفلام، ولكنى مع الأسف لم أشاهد الفيلم الأردنى
الروائى الطويل «الجمعة الأخيرة» إخراج يحيى العبدالله، لأن عرض «الصحافة»
كان مفتوحاً للجمهور بتذاكر، ولا يتاح للصحفيين إلا إذا كانت هناك مقاعد
خالية، وهو ما يحدث فى كل العروض مع الأسف ماعدا عروض البرنامج الرسمى كما
أن عرض الفيلم تأخر أكثر من نصف ساعة «لأسباب فنية»، وهو أمر نادر الحدوث
فى المهرجانات الكبرى. كما لم أشاهد الفيلم البريطانى «أخى الشيطان» إخراج
المصرية سالى الحسينى، الذى عرض فى «البانوراما» مثل الفيلم الأردنى، لكن
فى صالة بعيدة عن موقع المهرجان، وكان من الصعب المغامرة بالذهاب دون ضمان
وجود مقعد خال، فضلاً عن درجة الحرارة التى وصلت إلى ١٣ تحت الصفر، وكان
المعتاد فى برلين ٣ أو ٤ تحت الصفر.
مواهب جديدة
كان الحدث العربى أن الدورة الـ٦٢ من المهرجان الدولى الكبير شهدت
الإعلان عن مولد أربع مواهب مصرية جديدة فى أفلام عن مصر، لكنها من الإنتاج
غير المصرى، وهم المخرجات سالى الحسينى ومى إسكندر وحنان عبدالله، والمخرج
نامير عبدالمسيح.
ولدت سالى الحسينى فى بريطانيا لأسرة مصرية مهاجرة، وأخرجت فيلماً
قصيراً عام ٢٠٠٨، وفيلماً تسجيلياً عام ٢٠٠٩، و«أخى الشيطان» فيلمها
الروائى الطويل الأول إنتاج بريطانى واشترك فى إنتاجه المنتج المصرى
المعروف محمد حفظى، مؤسس ومدير شركة «فيلم كلينك» المصرية.
عرض الفيلم لأول مرة فى مسابقة مهرجان صاندانس للسينما المستقلة، الذى
عقد فى الولايات المتحدة فى يناير الماضى، وفاز بجائزة أحسن تصوير لمدير
التصوير، دافيد ريدكير، وكان الفيلم «العربى» الوحيد الذى اهتمت صحف مهرجان
برلين الثلاث (فارايتى.. وهوليوود ريبورتر.. وسكرين إنترناشيونال) بنشر
ثلاث مقالات نقدية عنه، وكلها إيجابية جداً وترحب بالفيلم وتشيد به، بل إن
دافيد أركى فى «سكرين إنترناشيونال» يقول فى مقاله «من النادر أن تجد
فيلماً أول يتمتع بهذه الأناقة رغم موضوعه»، ويقصد أن موضوعه عن العالم
السفلى فى أوساط شباب المهاجرين الفقراء من المصريين والعرب والقصة عن
أخوين مصريين: محمد (فادى السيد) ورشيد (جيمس فلويد)، الذى يرتبط بعلاقة
مثلية مع سيد (سعيد طغماوى).
ظل رجل
تناولنا الفيلم الأمريكى للمصرية الأمريكية مى إسكندر فى رسالة الخميس
الماضى، أما المخرجة الثالثة فهى حنان عبدالله التى ولدت فى لندن عام ١٩٨٨
لأب مصرى مهاجر من مثقفى اليسار فى السبعينيات، وهى شقيقة الممثل خالد
عبدالله، الذى حقق نجاحاً ملموساً فى عدد من الأفلام العالمية فى لندن
وهوليوود، وقد درست حنان السياسة والفلسفة فى جامعة أكسفورد، ثم درست
السينما، وشهد مهرجان برلين العرض العالمى الأول لفيلمها الأول «ظل رجل»
الذى أنتج بدعم من منظمات الأمم المتحدة فى «البانوراما».
«ظل رجل» تسجيلى طويل مثل فيلمى مى إسكندر، ونامير عبدالمسيح،
والعنوان مستمد من المثل المصرى الشعبى «ضل راجل ولا ضل حيطة»، ويعبر عن
السخرية المريرة من حال العلاقة بين الرجل والمرأة فى مصر، والأمل فى
تغييرها، خاصة بعد ثورة ٢٥ يناير التى اشترك فيها النساء مع الرجال بنفس
القدر، والثورة فى الفيلم فى خلفية «الأحداث»، وقد صور أثناءها ولكنه ليس
عن الثورة، وإنما عن أربع نساء من أربعة أجيال وأربعة أحوال مختلفة: وفاء
فى الستينيات وشاهندة فى الخمسينيات وسوزان فى الثلاثينيات وبدرية فى
العشرينيات.
بدرية زوجة وأم فى الصعيد (قرية بنى مر)، وكانت تريد أن تكون رسامة،
لكنها لم تحقق حلمها، وتزوجت وتستمر فى الحياة مع زوجها فقط من أجل تربية
أولادهما، وشاهنده هى الناشطة السياسية المعروفة أرملة شهيد الفلاحين صلاح
حسين فى قرية كمشيش بالدلتا، ووفاء فقيرة من أحياء القاهرة القديمة كانت
تعمل فى غسيل الملابس فى البيوت، ثم هاجرت إلى لندن، وهى مطلقة، وتجاربها
مع الزواج جعلتها تكره كل الرجال. أما سوزان التى تملك محلاً لبيع الهدايا
فى حى مصر الجديدة، فلم تتزوج، وفضلت أن تصبح ما يطلق عليها «العانس» بعد
عدة تجارب فاشلة مع شباب فى مثل عمرها.
يذكرنا الفيلم بتحفة تهانى راشد «أربعة نساء من مصر»، الذى يعد من
كلاسيكيات السينما التسجيلية المصرية، لكن فيلم حنان عبدالله رغم تنوع
شخصياته وثرائها الإنسانى، يفتقد المونتاج المحكم، حيث هناك ما لا يقل عن
عشر دقائق من التكرار والثرثرة من مدته البالغة ٦٥ دقيقة، وإلى الغباء
الدرامى الذى يربط بين الشخصيات الأربع، ولا يجيب عن أسئلة لابد من الإجابة
عنها فى الفيلم التسجيلى حول ظروف هجرة وفاء إلى بريطانيا، ولماذا وكيف؟،
وحول ظروف مقتل صلاح حسين، ولماذا وكيف أصبح ضحية للإقطاع عام ١٩٦٦ بعد ١٥
سنة من ثورة ١٩٥٢، فضلاً عن استخدام وثائق بالأبيض والأسود لحادثة كمشيش
دون الإشارة إلى مصدرها، وهى من فيلم تسجيلى قصير أخرجه الراحل سيد عيسى.
وبقدر التباس شخصية سوزان بقدر وضوح وجمال شخصية بدرية، والجزء الخاص
بها أفضل أجزاء الفيلم من مختلف النواحى. بدرية تحكى بعمق وبساطة فى آن
واحد، أما سوزان فلا توضح أسباب ارتدائها الحجاب، ثم تخليها عنه، وهناك
شخصية خامسة فى الفيلم هى هبة المنتقبة التى يدور معها أكثر من حوار فى محل
سوزان، فهى من الناحية الفنية «زائدة» أو خارج سياق السرد، ولا نعرف ما
العلاقة بينها وبين سوزان، كما لا نعرف لماذا هى منتقبة، وكيف تدافع بحماس
عن حقوق المرأة فى مصر، وهى ترتدى هذا الزى غير المصرى، وهذه الملاحظات
بالطبع لا تغير من حقيقة أننا أمام مشروع فنانة تسجيلية موهوبة وطموح. أما
فيلم نامير عبدالمسيح، فسيكون موضوعاً لمقال قادم.
المصري اليوم في
19/02/2012
جوائز مهرجان برلين السينمائي 2012
بقيت في أوروبا ومالت إلى الفيلم المتقشف
زياد الخزاعي
لم تخرج جوائز الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي التي
اختتمت فعالياتها ليلة الأحد الماضي (19 الشهر الجاري)، عن خيارات السينما
الأوروبية والتي ضمت سابقاً سبعة دبب ذهب لسينما القارة خلال الإثنتي عشرة
دورة الماضية، لتتحول محاصصات لجان تحكيمها إلى إعلان مستتر وشبه مؤكد على
انتصار هذا المهرجان العريق لتحولات اللحظات السياسية والإقتصادية في
أوروبا الساعية إلى تجديد خطاباتها العرقية والإيمانية.
وبقدر ما حمل إعلان رئيس لجنة التحكيم المخرج البريطاني ذائع الصيت
مايك لي- المدجج بدوره بعشرات من الجوائز الأوروبية عن "عام آخر"(2010)
و"فيرا درايك"(2004) و"أسرار وأكاذيب"(1996) و"عري"(1993)- بصوته حاد
النبرات لانفعاله الواضح في منح الأخوين الإيطاليين المخضرمين باولو
وفيتوريو تافياني دباً ذهبياً عن جديدهما "على قيصر ان يموت"، إشارة علنية
إلى استمرار قوة الشكيمة السينمائية لدى السينمائيين الأوروبيين الذين
يواجهون خطراً ماحقاً بنضوب الدعوم الحكومية (كان نموذجها الصارخ "اغتيال"
أكبر مؤسسة دعم بريطانية هي "يو كاي فيلم كاونسل" التي جاهدت على مدى أعوام
طويلة في رفد الساحة الأوروبية بأسماء فاعلة مثل ستيفن فريرز ومايكل
وينتربوتوم وسالي بوتر من بين اخرين)، فإن دب برلين الذهبي 2012 أعلن عن
انحياز ضمني إلى الفيلم المتقشف، وهو ما شعّ في نص الأخوين تافياني، بما
يمكن اعتباره خلاصاً ديناميكياً لصناعة دولية، عليها أن تستمر في العيش
مهما كانت صعاب التمويل ومراهنات هوليوود على نظام التضخيم الإنتاجي.
هذا التقشف ميّز عدداً معتبراً من أفلام الدببة الذهب السابقة، كما هي
الحال في العمل الباهر للإيراني الموهوب أصغر فرهادي "انفصال نادر
وسيمين"(دورة 2011) الذي لم ترتفع ميزانيته عن نصف مليون دولار، ليحقق
لاحقاً مايقرب من 11 مليوناً في السوق العالمي، وبعده زميله التركي سميح
قبلان أوغلو في "عسل"(2010) الذي لم يكلف سوى مليون وربع المليون من
الدولارات رغم مصاريف مواقع تصويره الصعبة التي جرت في جرود جبال الأناضول.
في حين لم ترتفع ميزانية شريط المخرجة البيروفية كلاوديا يوسا "حليب
الأسى"(دورة 2009) سوى نصف مليون دولار، أما شريط زميلتها البوسنية جاسميلا
(جميلة) زابنيتش "غربافيتشا"(دورة 2006) فأُنجز بميزانية متواضعة جداً،
لكنه حقق في وقت لاحق رقماً قياسياً بالنسبة إلى شريط قاسٍ وكئيب يفضح
جرائم الإغتصاب خلال حرب البوسنة، قُدر بـ800 ألف دولار(مقابل ميزانية قدرت
بـ 13 مليون دولار أنجزت بها الممثلة الأميركية أنجلينا جولي باكورتها "أرض
الدم والعسل" الذي يتصدى إلى الموضوع ذاته، وعرض ضمن التكريمات الكبرى
وخارج المسابقة). ومثله الشريط الجنوب افريقي الذي اقتبس أوبرا الفرنسي
جورج بيزيه الشهيرة "يو ـ كارمن" من اخراج مارك دورنفورد ـ ماي (دورة 2005)
الذي كلف 600 ألف من الدولارات، وحقق مفاجأة أينما عُرض نظراً لأفلمته
المميزة لحكاية الحب والغيرة التي نقل أحداثها إلى أوساط فقراء سويتو
وأكواخهم وعزلتهم في ضواحي جوهانسبيرغ، وتدارس برونق صوري وعفوية ادائية
كفاح بشر محاصرين بالفاقة والأمل المفقود.
وفيما تتحول موسيقى بيزيه إلى طلق إنساني، شعّ شريط الأخوين تافياني
بطلق مشابه، اخترق هذه المرّة أسوار سجن محصن لعتاة المجرمين الإيطاليين.
الغاية هي أفلمة مسرحية وليم شكسبير "يوليوس قيصر" بطاقم منهم، تلبسوا
شخصيات بروتوس وكاسيوس ومارك انتوني. وبين مشهدي الافتتاح والختام اللذين
صورا بالالوان، يوثق صاحبا "ابي سيدي"(1977) و "ليلة القديس لورنزو"(1982)
جهد المخرج المسرحي فابيو كافالي اثناء توضيب المشهديات اللازمة، قبل ان
يحولا ما صنعه الى دوكيودراما سينمائية بالاسود والابيض، انجزت بميزانية
متواضعة جعلت أحد السجناء المشاركين يقول: "بعد انتهاء العمل، تحولت
زنزانتي الى سجن!".
لاريب ان نص الخيانات الشكسبيري يلقي بظله اليوم على سياسات عامة جعلت
أوروبا فجأة متورطة بحروب شرق أوسطية ومؤامرات دولية. إن استعارة كارمن
كثيمة للحب مقابل الشهوة، تحولت على يد المخرج دورنفورد ـ ماي الى صبّ لعنة
على الفصل العنصري ومنهجيته، عبر تحوير لوعات كارمن وثورتها الجنسية الى
تفرس اجتماعي في محيط بائس وضاغط بحصاره الذي يتشدد به عناصر من الأمن
والعسكر، وهي ذات الإستعارة التي تحيل طعنات سياسيى شكسبير الى جسد قيصر
كتطهير جماعي لنزلاء سجن ربيبيا شديد الحراسة ممن قرروا مصاحبة الاخوين
تافياني في المغامرة السينمائية التي قالا عنها: "في هذه النسخة الإيطالية
لعمل شكسبير، جلبنا إلى الشاشة الفضية العلاقات العظيمة والجديرة بالشفقة
بين البشر، ومنها الصداقة، الخيانة، السلطة، الحرية وكذلك الشك (...) لقد
صورنا الشريط في زنزاناتهم، في اروقة السجن كي نقارن بين الظلمة في حياتهم
كسجناء، مقابل القوة الشعرية للعواطف الشكسبيرية التي تستحضر الصداقة
والخيانة، الجريمة وعذاب الاختيارات، ثمن القوة والحقيقة. ان التعمق في عمل
من هذا النوع، يعني كذلك البحث في اعماق نفسك، خصوصا حينما يترك امرىء ما
خشبة المسرح ويعود الى الزنزانة".
ان فلسفة الكشف التي ارادها الأخوان تافياني في قيصرهما، وجدت صداها
في شريط "الريح فقط"(الجائزة الكبرى للجنة التحكيم التي تذهب للمرّة
الثانية الى مخرج مجري بعد المميز بيلا تار عن "حصان تورينو" العام الماضي
) للمخرج الشاب بانيس فليغوف حيث حياة القلق والرعب التي تعيشها أسرة من
الغجر يومياً، جراء الهجمات العنصرية التي يتعرضون لها. إن أوروبا المعاصرة
بالنسبة إلى هذا المخرج العائد من كندا هي أرض انتهاكات مخفية. إنها إبادة
منهجية ضد عائلات تصفى بالكامل وبهدوء وتواطؤ سياسي مريبين، حيث نُظمت بين
العامي 2008 و2009 هجمات بالرصاص وقنابل المولوتوف الحارقة ضد 16 بيتاً
غجرياً في ضواحي العاصمة بودابست، قام بها مجهولون قتلوا خلالها 55 فردا.
هذا الفيلم الشجاع ذو المسحة الشعرية التي تقترب من عوالم زميله
الكبير النمسوي مايكل هانيكه في "مخفي"(2005)، من حيث عنفه المضمر، يضع
قضيته كإدانة حاسمة. أم شغولة وابنة فتية ساعية في دراستها وموهبتها برسم
الوشوم وابن فتي متبطر يحلم بالهجرة الى كندا بعد ان وعده والده المهاجر
هناك. يعيش الثلاثي مع الجد المريض في كوخ معزول. انهم جزء من طبيعة
مسالمة، غنية ومفعمة بالهدوء الرباني. هم كائنات عملية وعاملة اي انها
تُنتج من اجل لقمة عيشها، خلافا لسمعة الغجر كسراقين وقوادين. يُشدد فليغوف
على دعمه لحق هذه العائلة بالحلم والعمل والأمان، ولكن كلما تفرقت سبلهم
يوحي نصه بصعوبة ان يجتمعوا ثانية، قبل الغدر بهم واغتيالهم على يد عنصريين
محليين.
هذه الصعوبة ذاتها تمس حياة بطلة فيلم "باربرا" الحائز على جائزة افضل
مخرج للالماني كريستيان بيتزولد، حيث يكون عسف الدولة التوتاليتارية متربصا
بحريتها التي يجب ان تُقنن، ان لم توأد. بقيت هذه الجائزة للعام الثاني على
التوالي محصورة بإنتاج ألماني، وتحكمت أحداثها كذلك ضمن وسط طبي وصحي. ففي
العام الماضي حصد الجائزة ذاتها مواطنه أولريش كوليرعن شريطه "مرض النوم"
الذي لفق حكاية خبير صحي يعمل في افريقيا للقضاء على مرض النوم الشائع
هناك، بيد ان تورطه بعلاقة غرامية مع فتاة محلية وحملها بطفل منه، تقوده
الى حتفه او هكذا يُلمح الفيلم الذي نال التكريم عن غير جدارة.
في جديد بيتزولد، الذي نال تقريظا نقديا واسع النطاق جعله المنافس
الجدي لشريط الاخوين تافياني، تواجه الطبيبة المتمرسة باربرا (أداء نينا
هوس) عقابا قاسيا لتجرؤها على طلب تأشيرة مغادرة أراضي المانيا الديمقراطية
(الشرقية سابقا)، وتتحول المواطنة رفيعة المقام الى عدو مضمر، وتعاقب
بالإبعاد عن برلين الى قرية معزولة سهلة الرصد والمحاصرة. هذا الفيلم دراسة
محكمة ـ حسب صحيفة "فاراييتي" السينمائية المتخصصة ـ للكيفية التي تحول
أفعال البشر الخاضعين للاشتباه، وبالذات طرق توددهم واسئلتهم وادعاءات
الصداقة وافعال التودد المفاجئة، التي لايمكن تمييزها لاحقا عن لغة
الاستجواب والتهديد. من هنا تتحول الصداقة التي يسعى لها زميلها اندريه
معها الى قدر هائل من الشك وعدم اليقين بالاخرين، قبل ان تفقد البطلة
الشابة ايمانها بنفسها وخططها و...ذلك الحب الذي خافت ان تشرع له روحها
المضطربة الى الابد، بسبب نظرات عسس الـ"ستازي"(المخابرات الالمانية
الشرقية) ومطارداتهم وتخويفهم الاسود للنفوس النقية.
أبوظبي السينمائي في
22/02/2012 |