فرق كبير ان تلتقي مع واحد والسلام وبين ان تلتقي مع استاذ في مجاله، وكلمة
استاذ هنا لها معنى ومدلول، فنحن نخاطب من لا نعرفهم: يا استاذ فلان، ولكن
عندما نقول مثلا عن محمد عبدالوهاب الاستاذ، فنحن نقصدها، وعندما نطلق على
فؤاد المهندس الاستاذ فنحن نعنيها، وعندما نقول عن اسامة انور عكاشة
الاستاذ، فإنما نريد ان نعلي من شأنه ونضعه في مكانه الذي يليق بمن هم على
قدر قامته.
منذ 8 سنوات كان لي مع استاذ الدراما التلفزيونية واديبها اسامة انور عكاشة
لقاء، اذكره واذكر تفاصيله كأنني كنت معه بالامس، والاستاذ ـ لمن لا يعرفه
عن قرب ـ انسان في غاية الرقة والتواضع وخفة الظل، كان اللقاء في بيته بحي
المريوطية في الهرم، يومها تأخر عن موعده معي 10 دقائق نتيجة مرور القاهرة
الذي لا يرحم، فإذا بالاستاذ يعتذر بأدب جم عن هذه الدقائق العشر، رغم انني
واثناء انتظاري له في مكتبه كنت مستمتعا وعيني تتفحص المكان بصوره المعلقة
على الجدران لأراه مع نجيب محفوظ ويوسف ادريس وجمال الغيطاني، واطالع
مكتبته فتزغلل عيني أمهات الكتب.. قديمة وحديثة، غير الجوائز التي حصل
عليها من الدولة التي تربى فيها ومن دول عربية متعددة عرفت قيمته فأنزلته
المكانة التي تليق به.
نَفَس سيجارة
يومها كان الاستاذ لتوه عائدا من رحلة علاج في أميركا خضع فيها لعملية
جراحية دقيقة، قال له الاطباء بعدها: بينك وبين الموت «نفس سيجارة».. اسحبه
ان اردت وارحل. كان اسامة انور عكاشة يدخن في اليوم 140 سيجارة.. تخيل
الرقم.. لا يكتب او يقرأ الا والسيجارة في يده حتى ولو لم تكن مشتعلة،
وعندما عرف ان موته مرتبط بنفس واحد يسحبه، تركها وظن انه بتركه التدخين
سيودع الكتابة الى الابد.. يضحك الاستاذ وهو يقول لي قبل ان نبدأ حوارنا:
كذبة كبيرة ووهم اكبر من يظن ان الدخان محفز على الابداع، كلام فارغ، فقد
توهمت انني لن اقدر على الكتابة بعد الاقلاع عن هذه الآفة اللعينة، لكنني
كتبت بعده اعمالا ربما افضل من كل الاعمال التي كتبتها وفي يدي سيجارة.
الأبيض وأسود
يومها دار الحديث بيننا عن اعماله وبداياته منذ «الفارس الاخير» ايام
التلفزيون «الابيض واسود».. ومسلسله الآخر «وأدرك شهريار الصباح».. عملان
يحملان قيمة فكرية عالية جديدة على جمهور التلفزيون الجالس في البيوت الذي
يحب الحدوتة التقليدية، وعرف اسامة انور عكاشة بذكائه وفطنته هذا الامر،
فكان مسلسل «الشهد والدموع» اول بطاقة تعارف بينه وبين الجمهور «البيتوتي»
على حد تعبيره، الحدوتة المصرية العادية.. لكنها تعكس اوضاع امة، صراع
عائلي بين اشقاء واقارب يترجم صراعا سياسيا مصريا وعربيا انتهى بنكسة دون
ادانة مباشرة للزعيم في وقتها.
أحلى لياليه
ومن بعد الشهد ودموعنا التي سالت على حال امة، اخذنا الرجل لنعيش معه احلى
لياليه.. «ليالي الحلمية» ليؤرخ في خمس اجزاء تاريخ مصر منذ ما قبل الثورة
الى عهد مبارك، ولا أحد كبيرا كان او صغيرا تسأله عن «ليالي الحلمية» الا
وعرفها واثنى عليها ثناء المدركين لقيمة العمل وثقله.. سليم البدري وسليمان
غانم، او الباشا والعمدة، او ان اردت الدقة المال والسلطة.. لمن تكون
الغلبة؟ ادرك اسامة انور عكاشة بحسه ان الزمن القادم هو زمن التزاوج بين
الاثنين وهو ما حادث الآن في حكومة مصر، منبها منذ 20 سنة الى خطورة هذا
الامر على الحركة السياسية في البلد، صحيح انه في «ليالي الحلمية» كان هناك
تنافر بين سليم البدري وسليمان غانم، لكنه تنافر الراغبين في الاقتراب
والتوحد ليخلقا جيلا بعدهما لا يعرف الا مصلحة نفسه وليذهب الآخرون الى
الجحيم.
لست بصدد التحدث باستفاضة عن «ليالي الحلمية» والا ما تحدثت عن غيرها من
اعمال رائعة اخرى وكثيرة.
كل الشخوص..أبطال
اذكر خلال اللقاء ان قلت له: كل شخوص رواياتك ابطال في العمل، ليس بمعنى
انهم اسماء كبيرة، ولكن حتى وان أداها ممثلون صغار، الا اننا نعيش معهم
ونتفاعل ونذكر مواقفهم الصغيرة المؤثرة في سياق العمل ككل، فهل وانت تكتب
تقصد ذلك الامر بعكس غيرك حيث الاعمال تركز على البطل الاوحد، الكل يدور في
فلكه فلا نرى على السطح الا هو؟ اعجبه السؤال، ومن احساسه بقدره وعلو شأنه
استشهد بعمل ليس له، حدثني عن «اوبرا عايدة» التي كتبها شاب غير معروف خطفه
الموت في لحظة وعمره 32 سنة اثر حادث أليم.. هذا الشاب اسمه اسامة غازي
ويقول الكاتب الكبير عنه: لو قدر الله له ان يعيش، لصارعني مصارعة النبلاء
على التألق والابداع.. كنت ارى شبابي في هذا الولد، كان يدرك معنى الدراما
الحقيقي.. من يشاهد اوبرا عايدة يتذكر شخصية «الفيل» ويعلق بذهنه تماما مثل
سيد اوبرا المحامي بطل المسلسل، ولا ينسى «الخالة ستوتة» او «منجي» الزوج
البخيل وغيره كثيرون، كلهم ابطال على الورق وفي العمل الدرامي، وبالنسبة لي
عندما نشاهد «الشهد والدموع» على قدر ما نتذكر «زينب» بطلة العمل او شوقي
واخاه حافظ على قدر ما نتذكر دولت هانم ونجية الخادمة ومختار برهامي،
والاخير شخصية موجودة في حياتنا، تلك الشخصية التي تحب دائما التقرب من
الكبير، هي شخصية صعلوكة لكنها تستمد قوتها من هذا الكبير صاحب السلطة
والمال، وهذا الكبير لا يستغني عن هذا الصعلوك. وفي جملة حوارية كتبتها على
لسان حافظ رضوان الكبير: مختار برهامي لا يمكن استغني عنه، عشان لما ايدي
تتوسخ الاقي حاجة امسحها فيها!
«الحب وأشياء أخرى»
ولخص لي الاستاذ روايته «الحب واشياء اخرى» في هذه العبارة شديدة الايحاء:
مش مهم انك تكون زي اللي بتحبه، لكن المهم ان تكون على نفس قدره ومكانته.
وهذا ما لم يدركه بطل المسلسل سامح مدرس الموسيقى الذي تزوج من طبيبة
«د.هند» ويراها في مكانة ارفع منه لأنه فاقد ـ عن عدم وعي ـ لقيمة نفسه.
وفي «الراية البيضاء» احد اهم اعماله، الصراع بين القيمة والمادة متمثلا في
المعلمة فضة المعداوي والسفير المرموق، القيمة التي انهارت او كادت لولا
التصدي بقوة وثبات لكل من يريد ان يواريها التراب.
«أميرة في عابدين»
سألت الاستاذ عن «اميرة من عابدين» إحدى روائعه، فابتسم وصحح لي الاسم
قائلا «اميرة في عابدين»، استغربت وسألته: وهل هناك فرق؟ اجاب: فرق السما
والارض، «اميرة من عابدين» عادي، لا توحي بأي شيء، لكن «اميرة في عابدين»
فيها كل المعنى الذي اقصده، بمعنى ان البطلة لن تكون اميرة بحق الا في
عابدين، بمعنى اكثر وضوحا، اننا لن نكون امراء ونستعيد هيبتنا الحقيقية
والتي نستحقها الا بالعودة الى الجذور والاصول.
وكأنني تلميذ نجيب في محراب استاذ، أصغي بأدب من يريد ان يتعلم ويدرك قيمة
من يجلس امامه ويشرف بلقائه.
«ويرفرف العمر الجميل الحنون»
قال لي اسامة انور عكاشة ضمن ما قاله: ان اهم اسباب نجاح مسلسلاته هم
المخرجون الكبار امثال محمد فاضل واسماعيل عبدالحافظ وجمال عبدالحميد، ثم
فاجأني: وتترات المسلسلات المغناة، ساعدت على نجاح المسلسلات بدرجة هائلة
لأنها تترجم ببراعة الفكرة التي اتحدث عنها في 30 حلقة بكلمات بسيطة وغاية
في الروعة كتابة ولحنا وغناء. وذكر لي تتر مسلسل «زيزينيا» الذي كتبه احمد
فؤاد نجم واختار هذا الجزء:
وياموج بحر الليالي
عديتك وانت عالي
ودفعت المهر غالي
بالايام والسنين.
ومن «اربيسك»:
ويرفرف العمر الجميل الحنون
ويفر ويفرفر برقة قانون.
اما «ابوالعلا البشري»، فلخصها لي في صوت على الحجار:
ياصاحبي ياصديقي
ياللي طريقك طريقي
انا يوم ما اعيش لنفسي
ده يوم موتي الحقيقي.
«طواحين الهواء»
عاش اسامة انور عكاشة مثلما عاش بطله ابوالعلا البشري (دون كيشوت) يصارع
طواحين الهواء، حالم في زمن غارق في الموبقات، مثالي في زمن «خد الفلوس
واجري»، المتوهم ان للانسان قيمة في زمن اصبحت هذه القيمة صفرا على الشمال،
لا تستطيع ان تشتري رغيف خبز او سندوتش طعمية.
هو دون كيشوت الذي صارع طواحين الهواء فلم تكسر هذه الطواحين الغبية الا
رقبته.
مات الكاتب الكبير وتركنا لطواحين الهواء نصارعها مثله لعلنا ننجح ـ لا
أقول في قهرها ـ انما في انقاذ رقابنا منها.
صديقه الصدوق
سألت الأستاذ عن أقرب أصدقائه الى قلبه فقال دون تفكير: الفنان نبيل
الحلفاوي، وعلى فكرة الى جانب انه فنان كبير فهو شاعر أيضا وله ديوان
رباعيات رائع. وأسمعني احدى رباعياته:
لو سعدك زمانك وبقيت لوا من دول
تأمر وتنهي وتبقى صاحب القول
نصيحة مني عشان ماتتهزأش
اوعى تعمل لوا ع اللي شافك صول.
سرحت ولم انطق من روعة الرباعية التي ربما على حد قول الاستاذ تلخص مأساة
مجتمع انفتاحي طغى فيه على السطح من لا قيمة لهم، وانداس تحت الأحذية
الكثير من الشرفاء!
ضمير أبلة حكمت
معروف من هي فاتن حمامة ومعروف قدر هذه الفنانة.. سيدة الشاشة العربية..
حدثتها المخرجة اللامعة انعام محمد على لتحمسها لعمل درامي في التليفزيون،
فكان شرط القديرة الوحيد ان يكون كاتبه هو الاستاذ أسامة أنور عكاشة.
الكبير يدرك قيمة الكبير.. وكان مسلسل (ضمير ابلة حكمت) البسيط في سياقه..
العميق في معناه.
الشرق في
31/05/2010
أضعف الإيمان - مات حسن أرابيسك
داود الشريان
رثى محمد فرحات في يومياته في «الحياة» الكاتب المصري أسامة أنور عكاشة،
وتساءل
فرحات، هل اخطأ عكاشة أم أصاب في اختيار مسار كتابته، «بدأ كاتب رواية وقصص
قصيرة،
ونشر كتابين لا يخلوان من قيمة كانت تؤهله لمكانة لا تقل عن مكانة بهاء
طاهر
وابراهيم أصلان، لكن الرجل اختط مساراً مغايراً هو الكتابة للتلفزيون. كان
أول
روائي عربي ينصرف تماماً للدراما التلفزيونية». عكاشة لم يتخل عن الكتابة.
لكنه
غيّر الوسيلة، وان شئت فهو اختار الوسيلة الأكثر انتشاراً. اكثر صعوبة
وتعقيداً.
أسامة أنور عكاشة نقل الدراما التلفزيونية من الصنعة الى الإبداع. وهو جعل
الحوار في المسلسلات التلفزيونية حالة أدبية غير مسبوقة قبله. كان الحوار
في أعمال
عكاشة يخرج من يده، يصبح رهناً بتلقائية الشخصيات، وتصاعد الموقف، تجد هذا
المعنى
في مسلسل «ليالي الحلمية» على نحو ممتع، وكان اكثر وضوحاً وجنوناً وتوهجاً
في
مسلسله الجميل «أرابيسك». عكاشة اشبع وجدان المشاهد العربي بلغة الحوار.
نقل الحوار
من مرحلة الترهل والإنشائية الى الإبداع والمتعة والروعة والفن الجميل.
قدم عكاشة حكايات الأسرة وصراعها في «الشهد والدموع»، ونقل تناقضات الحي
وعالمه
المثير وتفاصيله الجميلة في «ليالي الحلمية»، وفي «المصراوية» كتب حكاية
المدينة.
وهو في كل أعماله كان مشاهداً متميزاً لما يكتب. يعجبني في عكاشة انه لم
يمارس
سلطته الفكرية على الشخوص. كان ينساق مع الحدوتة على نحو عجز عنه كثيرون.
في «ليالي
الحلمية» حيد ناصريته، وتجاهل انه من جيل اليسار والثورة. تعاطف مع
الباشوات
أحياناً. وقسا على ابن قاع المدينة علي البدري حين لزم الأمر. وهو في
الحقيقة ترك
الحكاية تصل الى حيث يجب ان تصل. جعل الدراما تمارس فعل التغيير بأحداثها.
اختلف عكاشة بين المقال والدراما. كان كاتباً عملاقاً في الدراما وكاتباً
عادياً
في المقالة. السبب انه في الدراما يعيش اللحظة، ويتفاعل مع شخصيات ويصبح
واحداً
منها طوال العمل. لكنه في المقال كان يعبر عن نفسه وينقل آراء تخصه. كان
رجل ذاتياً
في المقال وموضوعياً في النص الدرامي. ولهذا صنع شخصيات في مسلسلاته يصعب
ان يصدق
الإنسان أنها مجرد خيال كاتب. مات عكاشة وفي حلقه غصة من التطاول على
الدراما
المصرية. وحين مات اكتشفنا جميعاً ان الدراما العربية لم تلد حتى الآن مثل
عكاشة...
عكاشة المصري. رحمك الله.
الحياة اللندنية في
31/05/2010
نساء أسامة أنور عكاشة
نفيسة عبد الفتاح
قد تكون لك رؤية مختلفة في بعض القضايا التي تبناها الراحل أسامة أنور
عكاشة رحمه الله لكنك بالتأكيد أحد عشاق إبداعه المرئي الذي استطاع أن يغزو
القلوب ويخلق حالة من التعايش بين المشاهد والعمل الإبداعي قلما يستطيع
مبدع أن يخلقها، وقد توقفت طويلا أمام نموذج المرأة في تلك الأعمال، كان
للمبدع الراحل قدرة عجيبة علي إعطاء نموذجين لامرأتين تمثلان طرفي نقيض،
لكنهما علي نفس الدرجة من القوة والصلابة،
التحدي والفاعلية، لا فرق في ذلك بين شر فضة المعداوي في الراية البيضا
أودولت في الشهد والدموع أو نازك السلحدار في ليالي الحلمية،وبين الخير
الذي مثلته أبلة حكمت في ضمير أبلة حكمت وزينب في الشهد والدموع وأمل صبور
في الراية البيضا وحورية في عصفور النار،ونموذج المرأة في كلتا الحالتين
قوي سواء كانت تلك القوة في الشر أو في الحق،فالمرآة الشريرة قادرة علي كل
شيء سواء كان ذلك بعلم وعنجهية"دولت" أو بجهل وقدرة مالية"فضة" أو بطبقية
ونرجسية" نازك"، والمرأة القوية الطيبة هي نموذج للعطاء والمعاناة والقدرة
علي مواجهة عالم قاس رغم تحدياته المحبطة في كثير من الأحيان، امرأة قد
تجبرها الحياة علي كبت حاجاتها النفسية والبيولوجية لكنها تجاهد من أجل ما
تؤمن به وهي في جهادها هذا تملك الحكمة والصبر فتتصدي للإصلاح علي طريقتها
لتتفتح ثمار العطاء المدهشة علي يديها. حتي كبوات المرأة عند أسامة انور
عكاشة لابد أن يعقبها نهوض وتحقيق لنوع من التفوق في محاولة لإثبات الذات
من خلال النجاح العلمي أو العملي"زهرة" في ليالي الحلمية،"ناهد" في الشهد
والدموع.
المرأة عند أسامة أنور عكاشة هي المحرك الأعظم للحوادث الجسام خيرا أو شرا،
حتي عندما انهار النموذج العظيم "أبو العلا البشري" كانت وراء هذا الانهيار
امرأة. وهو يكره الشر ويريح قلب المشاهد بنهايات محتومة لمن يمثله باستثناء
قلة من أعماله منها الراية البيضا حيث ترك الصراع قائما بين الخير والشر
وإن اتحدت أيادي الجميع ورابضوا علي الأرض في مواجهة بلدوزر هدم التاريخ
والقيم والجمال الذي مثلته فيلا أبو الغار.
أسامة أنورعكاشة من جيل عاش حلم الثورة وآمن به شاهد طليعة نساء مصر وهن
يشاركن في حلم العمل وإثبات الذات،وعندما اختلفت قناعاته وتغيرت نظرته
للأمور لم تتغير بالنسبة للمرأة،فقد ظلت في وجدانه دائما أبدا ذلك الكيان
القادر علي ان يبني أو يهدم، يعلي أو يخفض من قيم الفضيلة والحب والجمال..
رحمه الله.
الأسبوع أنلاين في
31/05/2010 |