"الجونة
السينمائي"... "ترند" وفستان وشرطة أخلاق
لم يعد مجرد مهرجان فني بل شهب سنوية تكشف عما يجري في
قاعدة ومنتصف وقمة الهرم المجتمعي المصري
أمينة خيري صحافية
الدنيا قائمة، ولن تقعد إلى يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول)
الحالي، أو بعده بقليل، حين تهدأ الأعصاب، ويفتر ضخ الأدرينالين، ويترجل
المحاربون والمحاربات من على منصات الصراع، حيث الشاشات المستنفرة، والدق
على كل من الأعصاب المستفزة ولوحات "الكيبورد" الآمرة بفتح مزيد من الصور
ومقاطع الفيديو وتغريدات الفنانات والفنانين لتحليلها وتفنيدها وتلقينهم
جميعاً دروساً لا تُنسى على هامش مهرجان الجونة في دورته الخامسة.
فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان
الجونة السينمائي
"الخاص" دائرة رحاها، ومشتعلة أرجاؤها على مدار الساعة. صحيح أن الاشتعال
بدأ حرفياً بحريق هائل في القاعة الرئيسة للمهرجان قبل بدايته بساعات، إلا
أن الاشتعال بات سمة المهرجان.
حديث الشارع
المتابع لحديث الشارع المصري في ميادينه وأزقّته، والجدل
الدائر على منصات التواصل
الاجتماعي ما
ظهر منها في صفحات عامة وما بطن بين جموع الأصدقاء والمعارف، يعي أن
"مهرجان الجونة السينمائي" لم يعد كذلك فقط، بل يمكن القول إنه الكاشف
الزاعق العاكس والمعاكس الذي تحول إلى شهب سنوية تكشف عما يجري في قاعدة
ومنتصف وقمة الهرم المجتمعي المصري، الذي كان حتى الأمس القريب وقبل افتتاح
المهرجان موزعاً اهتماماته، ومقسماً انشغالاته بين نار الأسعار الملتهبة
ونسب التضخم المتضخم، ولغز الميكروباص الغارق دون أثر، ومعضلة التكدس في
المدارس مع توليفة سريعة من كورونا وتحوراتها، والعاصمة الإدارية وقطارها
والمرأة وعطرها وما قالته دار الإفتاء في شأنها، دخل بكل قوته وعزيمته على
خط مهرجان الجونة السينمائي، ولكن دون محتوى سينمائي.
السينما المصرية، التي تأثرت كثيراً على مدار سنوات عشر
ماضية، حيث ألقت أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 بآثارها على تفاصيل
الحياة كلها، وصناعة السينما ليست استثناءً، أصابها عطب إضافي بتعثرات
"القاهرة السينمائي"، المهرجان "الرسمي" الذي يعاني الأمرّين منذ سنوات.
فبين مُرّ الوقوع في براثن التجميد والروتين وضعف الإنفاق، ومُرّ التقدم في
العمر الذي لم يصحبه تجديد أو يواكبه تحديث على مدار 43 عاماً، بدت آثار
الشيب واضحة، ومقومات الإنقاذ غائبة.
زخم الإطلاق وقوة الإنفاق
ساعد هذا الغياب مع زخم الإطلاق وقوة الإنفاق واستنساخ روح المهرجانات
الغربية في
تحويل "مهرجان الجونة السينمائي" الشاب إلى حدث تنتظره الملايين كل عام، لا
لمشاهدة أحدث الأفلام، أو متابعة ندوات نقاش هموم وتوقعات صناعة السينما،
أو حتى لتقييم فساتين الفنانات واستنتاج من تزوج من؟ وطلق من؟ ومن يستلطف
من؟ بل بات حلبة صراع بين أيديولوجيات متنافرة وتوجهات متضاربة وتراشقات
سابقة التسييس والتديين، وكل منها ينضح بما في إنائه من محتوى.
المحتوى عبّر عن نفسه قبل انطلاق المهرجان بقليل، وتحديداً
مع انطلاق شعلة الحريق الذي أتى على قاعة الافتتاح. الكتائب المستنفرة
والميليشيات المؤدلجة على طرفي النقيض وما بينهما اتخذت مواقعها في الهجوم
والدفاع والإقدام والإدبار والكر والفر، بالإضافة بالطبع إلى تحليل الحريق
وتفنيد أسبابه. فريق أكد أنه ماس كهربائي، وآخر رجح أن يكون إهمال عمال إما
متعمداً أو يأتي ضمن منظومة الإهمال الكبرى، وثالث جزم وأقسم بالأيمان أن
ما جرى هو انتقام السماء من هذا الحدث الخادش للحياء الذي يهدف إلى محاربة
الدين والقضاء على المتدينين.
الدين والمتدينون والمهرجان
الدين والمتدينون لم تعد أماكنهم في مدرجات المتفرجين ولا
حتى على "دكة الاحتياطي"، بل أثبتت مجريات المهرجان في دورته الحالية أنهم
نزلوا أرض الملعب، وأصبحوا لاعبين رئيسين في "مهرجان الجونة السينمائي".
فئة عريضة من المصريين المتأثرين بالأفكار المتشددة والمتطرفة التي شاعت في
مصر منذ سبعينيات القرن الماضي تعتنق مبدأ العداء الشديد لكل ما يتعلق
بالفنون والثقافة غير الدينية. هذه الفئة وجدت في حريق ما قبل الافتتاح
فرصة ذهبية لنشر ما تؤمن به من ثقافة العقاب الإلهي، حيث امتلأت منصات
التواصل الاجتماعي بكمٍّ هائل من الشماتة المتصلة بعقوبة سماوية!
الكاتب الطبيب خالد منتصر كتب تحت عنوان "هستيريا الشماتة
ورهاب الفن"، أن "ما حدث على وسائل التواصل الاجتماعي من شماتة في حريق
مهرجان الجونة ليس مجرد ضغطة على كيبورد عابرة أو مداعبات قتل وقت فراغ.
إنها عرض لمرض. ولا أتفق مع من قال إنهم فئة قليلة وصوتها عالٍ. لا، بالعكس
هذا المزاج العصابي الشامت الشتام الكاره للفن والفنانين لدرجة تصل إلى
الرهاب المرضى، هذا المزاج صار كاسحاً وأغلب ممثليه من الشباب للأسف".
أضاف، أن "الهجوم على بقعة سياحية مثل الجونة لأنها تحتضن مهرجاناً
سينمائياً عالمياً هو كارثة تدل على اضطراب ورؤية قاصرة ممن لديه كل هذا
الغل والسواد والقبح الداخلي. كراهية الفن هي كراهية الحياة، من يكره الرسم
والنحت والموسيقى والسينما والمسرح هو مشروع انتحاري تكفيري".
تكفير الفن والفنانين
تكفير الفن والفنانين ربما
لا يجري التعبير عنه صراحة ومباشرة هذه الأيام من خلال هذا الفريق من
المتابعين والمتابعات، لكن ما يجري هو تقييم وتقويم ديني لهم مع إرسال
رسائل غير مباشرة لأقرانهم من المتابعين لفعاليات المهرجان يدور أغلبها حول
مغبة البعد عن الدين والتشبث بالدنيا وعقوبة الضاربين عرض الحائط بتعاليم
الدين ومعصية متابعة الفنانات ومشاهدة الفساتين.
الفساتين وما تمثله من صدمة حضارية لأجيال وُلدت في كنف
موجة محافظة متأثرة بتوسع قاعدة الجماعات والأفكار الدينية المتشددة في مصر
أصبحت الوجه الآخر لمهرجان الجونة السينمائي. فريق من القناصة يتابع لأغراض
تنديدية وهجومية، وفريق من المتشوقين ممن يعانون نوستالجيا الماضي المتفتح
يتابع لأغراض تأييدية ودفاعية.
ويبدو أن الضالعين والضالعات في مهرجان الجونة السينمائي
يتبعون مبدأ "داوها بالتي هي الداء". تيار متصاعد نحو الفساتين "الجريئة"
وصل إلى مستويات غير مسبوقة هذا العام. من فستان من دون "بطانة" إلى فستان
منخفض الظهر إلى آخر مفتوح الصدر إلى رابع من دون صدر. تدور دوائر فساتين
الفنانات غير مكتفية بتحريك مياه السينما الراكدة، بل ممتدة إلى قلب أثير
العنكبوت رأساً على عقب بين باكٍ مُولولٍ على الدين والأخلاق، ومزغرد مطبل
على عودة زمن فات إلى فريق ثالث مندثر منقرض لا يرى في الأجواء تهديداً
للدين، لكن أيضاً لا يرى في الفساتين برهاناً بالضرورة على عودة زمن تنوير
ولّى ودبر، ويحاول فك الاشتباك والالتباس بين الفريقين المتنافرين.
السهام المارقة
وبينما الفريقان الرئيسان منشغلان بتصويب السهام المارقة
إلى بعضهما البعض، حيث الأول يتهم الثاني بالفسق والفجور، والأخير يدين
الأول بالجهل والجمود، إذ بفريقين آخرين يخرجان منتصرين من الجولة الأولى
من المباراة. فريق الفنانات اللاتي نجحن في أن يتربعن على عرش الترند، سواء
بفستان بلا صدر، أو تغريدة بلا معنى، أو حتى تصريح بلا مغزى.
صناعة الترند واقع معيش في جميع أنحاء العالم. وصعود
المشاهير إلى قمته نجاح معروف ومرغوب، بل وصناعة المشاهير عبر الترند
بيزنيس بات مألوفاً، لكن في حرائق "مهرجان الجونة السينمائي" الشعبية يتحول
الترند والوصول إليه تهمة شنيعة ووصمة مريعة. جموع المغردين والمدونين
والحاضرين على منصات التواصل الاجتماعي الغارقة حتى الثمالة في هوامش
المهرجان تتعامل مع صعود الفنانين والفنانات إلى الترند باعتباره سُبّة في
الجبين. والغريب أن هناك مئات يحاولون الافتئات على هذا الصعود عبر صعودهم
شخصياً أعلى سلم المشاهدة أو المتابعة أو المشاركة لصفحاتهم الشخصية التي
تتغذى على "ترند" المهرجان وفناناته وفساتينه ونوادره.
شرطة الأخلاق الحميدة
الفريق الثاني الذي يبدو منتصراً في معركة السهام المارقة
هو الفريق الذي يسميه الخبثاء "شرطة الأخلاق الحميدة". هذه الشرطة
الافتراضية تحوي كتيبة من المحامين ومتخصصين استراتيجيين فضائيين (صنعوا
خبرتهم من الاستضافة في البرامحج الفضائية) تنتظر المهرجان من العام للعام
وهي تقف على أبواب أقسام الشرطة ونصوص البلاغات المقدمة ضد فلانة (مع ترك
الخانة خالية) بأنها "أتت بفعل فاضح يخدش الحياء"، مستنداً إلى نص المادة
278 من قانون العقوبات، حيث "على كل من فعل علانية فعلاً فاضحاً مخلاً
بالحياء يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف
جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين". وفي كل عام
يكون المتهم فستاناً، ومقدم البلاغ محامياً، وخط سير البلاغ مجهضاً، حيث
التنازل بعد تحقيق الشهرة وبلوغ الترند جنباً إلى جنب مع صاحبة الفستان.
ترند وفستان وشرطة الأخلاق
لكن بين الترند والفستان و"شرطة
الأخلاق" مجتمع يموج بكم هائل من التناقضات والحراكات والسجالات الناجمة عن
هوامش مهرجان الجونة السينمائي. قبل ساعات، كتب أحدهم على صفحته على
"فيسبوك" أن زميلة له استنجدت به لأن شاباً في الشارع استغل وجودها وحدها
وكشف نفسه أمامها وهي تصر على اصطحابه لقسم الشرطة لتحرير محضر، لكن الشاب
يحاول الفرار. وصل الزميل إلى موقع الحدث ليجد جموع المارّة وقد تجمعوا حول
الفتاة والشاب والميل العام السائد في الأجواء يميل إلى "المسامح كريم"،
و"يا بخت من قدر وعفى". الكثير من استجداءات العفو والسماح تذيّلت بألوان
دينية وأحاديث نبوية وآيات قرآنية تدعو إلى التسامح والتصالح. وأمام المزاج
العام المائل نحو عتق الشاب الكاشف لأعضائه التناسلية للفتاة باعتبارها
"المسامح كريم" توجهت الفتاة وزميلها إلى قسم الشرطة، حيث وجدا مزاجاً
شرطياً لا يقل "تسامحاً" عن مزاج المارّة.
هذه الأجواء الروحانية المتسامحة تقف على طرف نقيض من
الأجواء المتربصة بالفنانات المتصيدة للفساتين والمسلحة ببلاغات حماية
الفضيلة ووأد الرذيلة، وهي الأجواء التي تحتدم في مثل هذا الوقت من كل عام.
وفي تلك الأثناء، وفي مكان آخر تماماً، لكنه غير بعيد،
تتواتر التعليقات على فتوى أصدرتها دار الإفتاء قبل أيام لتحسم قضية
مصيرية، ألا وهي إمكانية وضع المرأة للعطر خارج بيتها. الخبر أوردته صحف
ومواقع خبرية إلكترونية لتتوالى التعليقات كاشفة ومؤكدة لما يدور في
المجتمع المصري من حراك وعراك. معلقون اتهموا الدار بتطويع الدين لإرضاء
غير المتدينين، وآخرون سخروا من "إصرار رجال الدين على الغوص فيما ثقل وزنه
وخف أثره من شؤون الدنيا"، وفريق ثالث وجد صلة بين الفتوى والمهرجان.
الغريب والطريف والمؤسف في آنٍ أن أعضاء الفريق الأخير
انقسموا إلى قسمين: الأول يرى في تحليل التعطر تأكيد على تعطل التحضر إما
لأن العالم يتجه نحو استشكاف إمكانية العيش على كواكب أخرى أو ينقل
معاملاته المالية إلى العالم الافتراضي، أو يعتبر السينما وصانعيها قوى
ناعمة رئيسة لنهضة أي مجتمع، وأن التربص بمهرجان الجونة وتفاصيله الدقيقة
يؤكد وجود فارق زمني كبير "بين ما هم عليه وما نحن عليه". والثاني يرى أن
تحليل التعطر ليس إلا جزءاً من كل، يبدو واضحاً في مهرجان الجونة، حيث
ابتعاد عن الدين وتحلل من الأخلاق وتشبّه بغير المتدينين.
المثير أن كل ما سبق تتخذه بعض الصحف مادة دسمة للكتابة
وتصوير مقاطع الفيديو وإعادة تدوير ما يُدار في الـ"سوشيال ميديا" لإبقاء
شعلة المهرجان متقدة والانتفاع بما تصنعه من "ترند" قائمة والحفاظ على نسب
المشاهدة المرتفعة، سواء أكانت لفستان خرج عن المألوف، أو غضبة تجاه
الفستان غير المألوف، أو بلاغ يُجاري الغضبة ويغازلها ويطالب بتوقيع أقسى
العقوبة على الفستان غير المألوف.
استقرار الوضع في "الجونة"
أما في الجونة، فالوضع مستقر تماماً. فلا أثر لمعارك
الفستان أو خوف من بلاغات حراس الفضيلة أو حتى أمارة لتغريدات الفرق
المتناحرة ما أيّد منها المهرجان وما هاجمه. السهام المارقة بين الفرق
المتناحرة لا تعرف طريقها إلى المهرجان وكواليس الأفلام. وما صنعه الترند
بفضل الفستان لا تفسده حرائق المهرجان التي أصبحت مناسبة تشريحية لقطاعات
المجتمع المصري بطبقاته وفئاته في مثل هذا الوقت من كل عام. |