شوهد مرة ونصف (نصف مرة خلال عرضه الأول، ثم مرة
ثانية في اليوم التالي)، وكان يكفيه نصف المرّة الأولى، لأن الفيلم
إذ يبدأ بلا تبلور للأحداث أو للشخصيات يستمر على هذا النحو حتى
مشهده الأخير.
إنه فيلم المخرج الفرنسي عبد اللطيف كشيش، وعنوانه
«مكتوب حبي»، وهو مؤلف من 3 ساعات و6 دقائق، وليس أقل من طن من
الحوار، مما يعني أن السيناريو كان يحتاج لقوة بدنية لحمله. المخرج
نفسه أبلغ المدير العام للمهرجان، ألبرتو باربيرا، بأنه لم يستخدم
كل ما صوّره، وربما حقق جزأين لاحقين، مما يدفع للتساؤل عما إذا
كان الاثنان هما الوحيدان السعيدان بهذا الفيلم.
منذ أول أفلامه المشهورة «سمك بالكُسكُسي يا سمك»
(2007)، والمخرج يميل إلى المطولات، سواء أكانت بصرية أم حوارية،
لكن ذلك الفيلم الذي أثار عاصفة من الإعجاب، حمل ناحيتين لم تتكررا
على النحو الجيد ذاته في أي من أعماله اللاحقة: الجالية العربية
وبيئتها، وسرد الحكاية على نحو تتبلور فيه كمضمون وكحالات إنسانية.
لا يعني ذلك أن على المخرج الانصراف إلى الحديث عن المهاجرين من
تونس (موطن المخرج أصلاً) في كل فيلم، لكن في ابتعاده شيء من
التجاهل، خصوصاً أن اختياراته لمواضيعه خلال السنوات العشر لم
تتعاطَ مسائل اجتماعية آنية، بقدر ما صورت حالات اجتماعية مفتوحة،
ولو حاضرة.
لكن الخيط غير الرفيع الذي حافظ عليه كشيش منذ ذلك
الفيلم هو تلاعبه بالجسد. «سمك بالكسكسي» عشر دقائق من الرقص
الشرقي المثير الذي وفّرته الممثلة حفصية حرزي (ذابت بعد ذلك في
أفلام فرنسية مختلفة بعد بارقة نجاح واعد). بناء على نجاح هذا
الفيلم، قام المخرج بتحقيق فيلم متوسط الطول (45 دقيقة)، مبني على
حياة راقصة في ملهى، مع حرزي في الدور أيضاً.
«فينوس سوداء» (شوهد هنا سنة 2010)، كان حول الحياة
(الحقيقية) لامرأة أفريقية اقتيدت، في مطلع القرن الثامن عشر،
لتكون فقرة في ألعاب السيرك في بريطانيا، ثم لتكون عاهرة في باريس،
لكي تنتهي كجزء من بحث علمي حول النشأة والتطور من منظور عنصري
بالكامل. في هذا الفيلم طرح جاد لموضوع يتجاوز المعطيات الواقعية
إلى تلك الفكرية. في الوقت ذاته، هو فيلم عن ذلك الجسد.
ثم فتح المخرج باب الحديث عن الجسد على مصراعيه في
فيلمه المفجع «الأزرق أكثر الألوان دفئاً»، الفيلم الذي نال سعفة
«كان» الذهبية سنة 2013.
لا الحديث بعينه، بل ذلك البصري حول حب شبق بين
امرأتين داوم المخرج تصويرهما في المخدع لمعظم ساعاته الثلاث. وبضم
هذا الفيلم الجديد الذي يصور الأجساد في حالات شتى، فإن الواضح أن
المخرج لديه حالة عاطفية أو نفسية مع جسد المرأة.
«مكتوب حبي» هو عن أمين (شاهين بومدين) الشاب
الباريسي الذي يمضي إجازة على شاطئ البحر المتوسط. الفيلم يبدأ به
يقود دراجته الهوائية في ربوع بلدة سيت (Sète)،
قاصداً بيت صديقة (لم تربطه بها علاقة) اسمها أوفيللي (أوفيللي
باو)، ليجدها منهمكة في ممارسة الحب مع شاب تونسي آخر، يحمل اسم
طوني (سليم كشيوش). يسترق السمع والبصر، لكن كاميرا المخرج لن
تفوّت الفرصة للانتقال إلى داخل البيت لمتابعة التفاصيل!
يستطيع مخرج متمكن من حذف كل هذه البداية لأنها
بالكاد تحتوي على ما يرتبط بما سيلي؛ هي ليست حتى ضرورية لتقديم
أمين الذي سيتصرف كما لو أنه وصل للتو بعدما انتهى المشهد الداخلي.
أوفيللي ستفتح الباب الأمامي، وطوني سيفر من الباب الخلفي. لاحقاً
أمين وقريبه طوني سوف يجالسان فتاتين على الشاطئ؛ كل منهما سينجذب
إلى واحدة، وبذلك يبدأ سجال لا ينتهي من المشاهد الطويلة المملوءة
بالحوار المثرثر. صحيح أن الثرثرة هي في حياة كثير منا، لكن هذه
الثرثرة لا تنقل الحياة إلا من الخارج. بخلو الحوار، ولاحقاً كما
سندرك سريعاً الأحداث، من أي طرح مهم في أي شأن (على الأقل كانت
أفلام الشواطئ التي أخرجها إريك رومير مبهجة، ولها مقصد فكري
مباشر).
خلال ذلك وبعده، وصولاً إلى مشهد لا ينتهي أيضاً
للشباب والبنات (الأربعة صاروا أربعين) يقع في ملهى ليلي، كاميرا
ماركو كرازيابلينا لا تكف عن التحديق بالأجساد.
لدى أمين عواطف إيجابية بلا ريب؛ إنه يحدق في جسد
أوفيللي تحت البلوزة والجينز الضيقين. وحين يتعرف على فتاة الشاطئ
التي تبادله الاهتمام، يراقبها وقد «لطشها» سواه.
مهما كانت دوافع المخرج الذاتية وراء الاهتمام
بتصوير أجساد نسائه، وحاجته الدفينة لهذا الفيلم وسابقه، فإنه لا
شيء يبرر أسلوباً قائماً على عدم الرغبة في شحن ما يدور بطاقة
درامية مواكبة. المناطق الوحيدة التي يختفي فيها الحوار هي مشاهد
الرقص، وفي أخرى قليلة تصوّر أمين كشاب هادئ يقترب من الحياة التي
يعيشها ابن عمّه طوني بقدر ما يبتعد؛ إنه رومانسي لكن ذلك بحد ذاته
ليس بعداً، بل مجرد حالة.
####
إيثان هوك لـ«الشرق الأوسط» :
بعض أفلامي سينجح أكثر لو أعيد عرضه
·
أين تضع «فيرست ريفورمر» بين مجموعة أفلامك؟
- هذا سؤال محيّر. لا أدري حقاً… أين تضعه أنت؟
·
في القسم الخاص بأكثر أفلامك جدية.
- هذا صحيح… هذا صحيح… موافق. كان ذلك واضحاً منذ
البداية، عندما قمت بقراءة سيناريو بول شرايدر. إنه رائع ككاتب
سيناريو، ورائع كمخرج، وعندما بدأنا العمل كنا في فهم كامل لما
يطرحه الفيلم، وما تطرحه الشخصية. نعم، هو فيلم جاد، وهذا كان
القصد من البداية.
·
شخصيتك في الفيلم، كراهب، تؤكد أن مشكلتها ليست عدم
الإيمان، بل كيفية تطبيقه... هل هذا اعتقادك أنت أيضاً؟
- الأب تولر صادق مع نفسه، ومع الآخرين، لكن مشكلته
- كما أراها - أنه يحارب وحده، وليس هناك من يؤازره في حربه. مطلوب
منه الكثير، وعندما يخفق في تأمين ذلك، ليس هناك من يتحمل
المسؤولية عداه. شخصية معقدة بالفعل لأنها في الوقت ذاته تربط خلو
الكنيسة من المصلين بما يحدث كذلك في البيئة، ومن حولنا.
·
أول ما يطلب منه هو إنقاذ الشاب الذي لا يرى جدوى
من المستقبل…
- تماماً. ذلك ما يدفعه أولاً لاكتشاف أن ما يتحدث
عنه الشاب هو بالفعل صحيح، وهذا يجعله يشعر بالعجز لأنه لا يستطيع
أن يفعل شيئاً، ويزداد شعوره هذا عندما يقدم الشاب على الانتحار.
·
هل تفكر شخصياً بما يحدث لكوكبنا هذا من متغيرات
مناخية؟
- طبعاً، والمؤسف أن الفيلم لا يغالي. لكنه ليس
المناخ وحده الذي علينا أن نشعر بالخوف حياله، بل كذلك ما يحدث في
كل جوانب الحياة من حولنا. المسألة عندي ليست مسألة دينية، بل
أخلاقية في المقام الأول. المشكلات القائمة حولنا هنا في أوروبا،
عندكم في الشرق الأوسط، وفي أنحاء مختلفة، ناتجة عن فقدان التوازن
الاقتصادي، ما جعل الكثيرين يلجأون إلى العنف. عندنا في أميركا،
العصابات هي بزنس قائم بذاته. الحروب هي بزنس أيضاص. المسألة هي
تداعي الأخلاقيات بتداعي أحلام العيش الرغيد. قد تقول لي: لكن
الخير والشر يتصارعان منذ فجر التاريخ، لكن هذا الصراع لم يكن
دموياً إلى هذا الحد.
·
في العام الماضي، شاهدنا لك هنا «الرائعون السبعة»…
كان مختلفاً تماماً عما عرض لك هذا العام، ما يعني أنك منفتح على
تنوع المواضيع والشخصيات والأداءات.
- هذه هي ميزة العمل كممثل. أنت في فيلم وسترن هنا،
وفي دراما تقع في الزمن الحالي بعد ذلك. أخيراً، شاركت في الظهور
في فيلم «فالريان ومدينة الألف كوكب»، وهو خيال علمي، وقبله في
«مودي» الذي هو دراما عاطفية؛ هذا شغل الممثل. «الرائعون السبعة»
كان ترفيهاً جيداً بالنسبة لي، وهو فيلمي الأول كوسترن.
·
الآن، أراك أكثر من ذي قبل إقبالاً على الجاد
والترفيهي معاً…
- حقاً؟
·
هذا ما أراه. كثير من الأفلام هي ترفيهية وجادة
معاً، مثل «قتل أول» قبل 3 سنوات.
- صحيح. هناك الكثير مما يحدث في هذا العالم،
والأفلام لا تتوقف عن رصده ومتابعته. الفيلم الذي ذكرته (قتل أول)
يصلح اليوم كذلك. ألا تعتقد؟ أعني أنه مع تصاعد العمليات العسكرية
التي تستخدم طائرات الدرون، هناك اهتمام واسع لدى الجمهور.
·
لكن «قتل أول» لم ينجز نجاحاً…
- في اعتقادي، أنه كان الأول من نوعه، ولو عرض
اليوم لنجح أكثر.
·
هناك كثير من الأفلام الجيدة التي تحتاج أن تعرض
مجدداً... هل توافق؟
- نعم، وهناك عدد من الأفلام التي مثلتها أنا لم
تحظ بالاهتمام الكافي عندما عرضت في أوانها، لكنها عرفت لاحقاً
اهتماماً أكبر من قِبل الذين شاهدوها في وسائل أخرى.
·
مثل ماذا... غير«قتل أول»؟
- «قتل أول» لم يبلغ بعد هذا الشأن، لكن «غاتاكا»
هو ما في بالي الآن.
·
أعرف أن آخرين بانتظارك لمقابلاتهم، لكن لا يمكن أن
أمضي دون سؤالك عن أي من الأفلام التي مثلتها، وطبعاً هي كثيرة،
تفضله على سواه؟
- التفضيل شأن ذاتي. أقصد بذلك أن أسبابه تبقى على
علاقة بقربي من الفيلم، وليس لأن هذا الفيلم هو فنياً أفضل، أو
تجارياً أنجح. لذلك، سأسارع وأقول إن «يوم التدريب» (Training
Day)
أحد هذه الأفلام المفضلة، أيضاً ثلاثية «قبل» (3 أفلام مثلها إلى
جانب جولي دلبي تبدأ بكلمة
Before،
وهي: «قبل الشروق»، و«قبل الغروب» و«قبل منتصف الليل»). كما تعلم
هذه الأفلام تحكي عن علاقة مستمرة عبر نحو 25 سنة. أحب هذه
الثلاثية لأنها حسّاسة ومختلفة، هي في صميم البحث العاطفي وقريبة
من أي حكاية تقع مع أحدنا، عندما يلتقي بشخص، ثم يلتقي به مرّة
أخرى بعد 7 أو 8 سنوات. |