ماذا حَدث لصوت الشجاعة السياسية اليوم؟
أين الناس الذين لا يهابون المخاطر من اجل ما يُؤمنون به؟..
أين هم أولئك الذين
يساندون ما يرونه حقا أخلاقيا، بدلاً منْ مساندة ما قد يكون مناسبا
سياسياً؟... أين
هي القيادات التي تمتلك رؤيا اليوم؟...هَلْ هي غيوم السلبية والخوف التي
تخيّمُ على
سماء البلادِ هذه الأيام وتجعل الناس تتردد في اتخاذ المواقف
الصعبة وفي الوقوف
بوجه السلطة ؟.....هَلْ هو مناخ الخوف الذي ساد بعد الهجمات الإرهابية في
11/9، أَو
أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟.... هذه التساؤلات طرحتها وبجرأة نادرة
الكاتبة
الأمريكية 'كوني مكلافلين' في عرضها لمجموعة من الكتب التي
صدرت مؤخرا في الولايات
المتحدة والتي تعالج قضية استخدام الخوف بكثافة لتحقيق الأهداف السياسية.
تشير
هذه الكتب إلى إنّ الثقافةَ المنتجة للَخوف في أمريكا أصبحت واسعة الانتشار
بشكل
رهيب، خصوصاً في أجهزةِ الإعلام حيث أدرك الجميع أن 'الخوف يزيد من حجم
المبيعات
'.
تستطرد ماكلافلين قائلة ' نحن نعيش لحظات رعب يوميا حيث تنهمر علينا
العديد من
القصص المروّعة حول ما يُمكن أَنْ يؤذينا - كُلّ شيء مِنْ هجوم إرهابي
عالمي، إلى
استخدام قنابلِ نووية بدائية ضد مُدنَنا، إلى تسميم غذائِنا ومائِنا، إلى
تزايد
معدلات الإصابة بالسرطان، إلى مدراء الشركات الغشّاشين الذين
أضاعوا مدّخراتَ
حياتِنا. الإعلام يُرعبنا بآلاف القتلة المجانين واللصوص والمغتصبين (حتى
في
الكنائس)، بحيث تعالت الدعاوى بأنّ الحَلَّ الوحيد لكُلّ مواطن هو في
امتلاك ترسانة
مِن الأسلحةَ.'...... وفي نفس السياق تقول الكاتبة بريوني جوردون ساخرة..
'لا حاجة
بنا لابتياع تذاكر سينما لمشاهدة أفلام الرعب، فيكفي أن نفتح
التلفاز ونشاهد
الأخبار'.
الخوف تجربة شخصية
لا نعلم الكثير عن لحظات الإنسان الأولى
على الأرض ولكننا نستطيع أن نجزم أنها كانت مليئة بالمخاطر.
ونستطيع أن نجزم أيضا
أنه في مواجهة شراسة المخلوقات الأخرى واستبداد قوى الطبيعة لابد وأن هذا
المخلوق
الضعيف قد تعرف مبكرا على الشعور بالخوف. هذا الشعور الطاغي الذي يعبر عن
المعاناة
ليُشل القدرة ويخضع الجسد والفكر لحالات من التوتر من مخاطر
حقيقية كانت أم وهمية،
أكيدة كانت أم محتملة، ليدفع بالسلوك، أحياناً، إلى خارج حدود المنطق. فمنذ
تلك
اللحظات تلازما الخوف وقرينه الألم وانصهرا في حياة البشرية في مشوارها
الطويل من
الكهوف حتى ناطحات السحاب. الخوف جزءُ لا يتجزأ من الشرط
الإنسانيِ. وهو كعاطفة
أساسية بدائية يمكنها أَنْ تُحفّزَ إي شخص ليتَصرف دفاعا عن ذاته بشكل
منطقي ومعقول
أو يتصرف بشكل لا عقلاني ينتج عنه أخطاراً له وللغير. وبسبب دور الخوف
كحافز للسلوك
البشري كان من الطبيعي جدا أن يتم استغلاله وبشكل مكثف لتحقيق
غايات سياسية. وربما
لهذا السبب قلما تعرض استخدامه إلى التدقيق والتساؤل.
الخوف شعور مؤلم وقوي
ويُساعد الناسَ على التعرف والرَدّ على الحالاتِ والتهديدات الخطرة. على
أية حال،
الخوف يكون ايجابيا عندما يكون وقائيا. أما إذا تطور ليصبح خوف مرضي فأنه
غالبا ما
يؤدي إلى سلوك مبالغ فيه يتسم بالعنف. الخوف هو أقوى المشاعر وأسرعها
حدوثا.
الخوف الجماعي
وبالرغم من انشغال عدد من الفلاسفة والمفكرين
بتحليل الخوف ودوافعه وأسبابه وتأثيراته. وتحديد العلاقة بينه
وبين النظم السياسية
والثقافية والاجتماعية التي تفرزه وتعيد أنتاجه. إلا أن هذه المعرفة قد
بقت، لسوء
الحظ، مقصورة على عدد قليل جدا من الناس. وطالما كان الناس غافلين عن كيف
يتم
التلاعب بعواطفِهم، فهم غير مستعدين أيضاً لمُواجَهة هذا
التلاعب. في الحقيقة،
يَعتقد بَعْض الناسِ أن عواطفهم محصّنة ضدّ التلاعب، لكن كم هم مخطئون.
بالطبع
يستفيد السياسيون من مثل هذه المواقف. لأن وجود الخوف سيمنع النقاشات
السياسة
الجادة. فالجمهور الذي يحس أنه تحت طائلة هجوم شرير - سيدعم كل
سياسة تُبنى على عدم
التفاهم أو التفاوض مع مصدر الشر. الشرّ يجب أنْ يُقاتلَ حتّى النهاية
المرّة كما
يشير إلى ذلك الشعار الشهير 'أمّا نحن أَو هم' وهكذا يستعمل الخوف كأداة
سياسية
لتَجَنُّب النِقاشِ السياسيِ ولتفادي الخيارات السياسية الصعبة.
ومن الكتب
الجيدة التي تناولت هذا الموضوع كتاب للكاتب الأمريكي كوري روبين بعنوان '
الخوف:
تاريخ فكرة سياسية'.
كان الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه تقدم بها الكاتب
لجامعةِ ييل في عام 1999، يَستكشف فيها تاريخ الخوف كمفهوم في النظرية
السياسية
الحديثة كما يستعرض توظيفه لإدَارَة العمليات السياسية
والاقتصادية الأمريكية
المُعاصرةِ.
يُعرف الكاتب الخوف السياسي على أنه - 'الخوف الذي يَنبثقُ مِنْ
المجتمع أَو الخوف الذي يخلق العواقب للمجتمع'. مثل المخاوف التي تَنْجمُ
عن
النزاعات بين المجتمعات (كالإرهاب والحروب) أَو تَنْجمُ عن
الأحداث الشخصية (كالتمييز
العنصري). فالناس اجتماعيون بالطبيعة، تربطهم القيمِ المشتركة، والدين،
والتقاليد، واللغة، الخ. ولكن حينما تصبح هذه الخصائص الأساسية
التي تَرْبطُ
الجماعات مُهدّدة، فإن هذه الجماعات سَتَخشى زوالها. وكنتيجة لذلك،
سَتُحاول
التَخَلُّص مِنْ التهديد، بكل الوسائل المتاحة لها حتى وإن كانت عنيفة أو
غير
شرعية.
الفلسفة والخوف السياسي
يستعرض النصف الأوّل من الكتاب أراء
وتحليلات عددا من الفلاسفةَ الغربيين مثل هوبز، مونتسكيو،
توكفيل، وارندت للخوف
السياسي. يجادل روبن بأن الخوف شغل هؤلاء المفكرين سواء الذين رأوه كعنصر
لا يتجزأ
من الطبيعة البشرية يجب أنْ يُلجم من قبل الدولة، أو الذين رأوا في نمو
الديمقراطية
الليبرالية وسيلة لكبحه.
فعلى سبيل المثال، كانت وجهة نظر هوبز أن الخوف من
الآخرين ومن الموت يشكل قاعدة للتماسك الاجتماعي (وان غياب الخوف هو أخطر
بكثير
للمجتمع من وجوده) وهي وجهة نظر تتناقض مع تفسير مونتسكيو
للاستبداد، بأنه الحكم
عبر الخوف ومطالبة مونتسكيو لليبراليين بالوقوف ضده. أما توكفيل فيرسم
صورةَ مبكّرة
لغربة الحشود المعزولة: كيف أن المجتمع الديمقراطي الذي لَمْ تعُدْ تحكمه
قوَّة
استبدادية، يواجه سرعة التغيير وغياب المعايير الاجتماعية
بطريقة تجعل الحشود فيه
في حالة ارتباك وخوف من الخيارات الصعبة التي تولدها الحريات الفردية، لذا
فهي تجد
الأمان في التكتل. هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية يتكرر وصفها في تحليل
حنا ارندت
لحكم الحزب الواحد. رغم أنها - كما لاحظ روبن - طورت أرائها
هذه أبان محاكمة أدولف
ايخمان عام 1961. حين رأت أن شرور النازي أمراً يصدر عن بشر عاديين وليس
بالضرورة
فعلاً شيطانياً، ونظرت إلى النازية كسياسة معيّنة مِنْ الإرهاب يُمْكِنُ
محاربتها،
بدلاً مِنْ رُؤيتها كتعبير عن القلق المعاصر بوجه عام.
الخوف، كأسلوب
أمريكي
أما في الجزء الثاني فيستعرض الكاتب كيف تم توظيف الخوف في أمريكا
لمصالحِ الأقوياءِ: منْ الحقبة 'المكارثية' إلى الدور الذي يلعبه الخوف في
المجال
الاقتصادي (الخوف من فقدان العمل) إلى التخويف
بالإرهاب..الخ. في هذا السياقِ
الأمريكيِ، يَفْحص روبن الخوف كأداة سياسية، ووسيلة لحكم النخبة ويبين كيف
يتم خلق
الخوف ودعمه مِن قِبل القادة السياسيين أَو من قبل المحرضين الذين
يَستفيدونَ منه،
أمّا لأن الخوفَ يحقق لهم مكاسب سياسية محددة أو لأنه يَعْكسُ
ويَدْعمُ معتقداتَهم
الأخلاقية وسياسيةَ - أَو للسببين معا. مثل هذا التحليلِ التاريخي قَدْ
يسبب للبعض
الكثير من الإزعاج، ولكن الإزعاج الحقيقي في وجهة نظري يكمن في مقولة روبن
أننا
نَحْبُّ الخوف ونَرْغبَ في العيش خائفين.
فطبقاً لروبن، يخلق الخوف قاعدة
للتماسك الاجتماعي للجماعات والمجموعات السياسية والعرقية
ولهذا فإن هذه الجماعات
لا تمانع الشعور بالخوف بل حتى بتضخيمه لأنه يحقق لها ذاك التماسك ويحافظ
لها على
تلك الهوية. مع إنها في نفس الوقت، تدرك بأنّ الخوف وحده غير مجد في نهاية
المطاف
كي يحقق تماسكها. هذا التناقض برأي الكاتب يشكل إحدى قواعد
الليبرالية الأمريكية:
فمن ناحية، شُيدت مؤسسات النظام السياسي على الخوف من سوء استعمال السلطة؛
ومن
ناحية أخرى أُستعمل الخوف بشكل قد يُقوّضُ التزام هذه المؤسسات نحو
المساواةِ
والديمقراطية. وهنا يسعى الكاتب إلى تأكيد فكرته أن الخوف قد
لعب دورا فعالا في خلق
القمع المؤسساتي التي تشكو منه المجتمعات المعاصرة.
وبالرغم من كون الكتاب
تحليلا وتفسيرا تاريخيا إلا أن المرء لا يجد عناء في اكتشاف إسقاطاته على
واقع
أمريكا ما بعد 11/9. فرضوخ النخبة الليبرالية لأجندة اليمين المتطرف
(المحافظين
الجدد) ودعمها لسياساته كاحتلال العراق وأفغانستان والموافقة
على استصدار تشريعات
مناهضة لحرية الفرد كقانون الوطنية. وينجح روبن عبر صفحات كتابه في التدليل
على أن
الخوف عميق الجذور في السياسات الليبرالية، ويوضح كيف أن الخوف يؤجج شعورها
بقيمة
الحرية داخل وخارج أمريكا. يستهدف هذا الكتاب جمهوراً واسعاً،
ويقدم بأسلوب رشيق في
جزئه الأول مناقشة ممتعة (ومكثفة في بعض الأحيان) لفهم الفلاسفةَ
السياسيينَ
لطبيعةَ واستعمال الخوف، وتزداد متعة القراءة في جزئه الثاني. في تقديري
كتاب كوري
روبن هو إضافة ثمينة إلى هذا الحقلِ المتنامي من الدراسات التي
ترى الخوف ضمن سياق
الفكر السياسي، وَتتبّعُ العلاقة الوثيقةَ له بالفكر والممارسات السياسية.
'كاتب وقاص من ليبيا
Lawgali1@hotmail.com
القدس العربي في
14/07/2009 |