الفيلم الأول الذي حظي بنقد الجمهور هذا الأسبوع هو «حيث توجد الأشياء
المتوحشة» أوWhere
the Wild Things Are ففي الوسط النقدي حظي فيلم المخرج سبايك جونز
الجديد على نحو ثلاثة أرباع الآراء الإيجابية من بين مجموع النقاد وذلك حسب
ثلاثة مواقع إلكترونية تعني بإحصاء الميول النقدية للأفلام الجديدة. أما
على المستوى المادي، فقد تبوأ الفيلم الرقم الأول في الإيرادات بسهولة،
جامعا في أسبوعه الأول خمسين مليون دولار، أضف أو احذف بضعة ألوف من
الدولارات.
السبب هو أنه فيلم فانتازي للصغار وحين يدخل الصغار فإن الكبار يتبعونهم
بفضول مشترك. أحيانا تحت حجة أن الصغار يجب أن لا يتركوا وحدهم لعتمة
الصالات، لكن في أحيان كثيرة لأن الكبار ليسوا أقل رغبة في مشاهدة تلك
الفانتازيات المشهدية الكبيرة، خصوصا إذا كانت كحالة هذا الفيلم، مأخوذة عن
إحدى روايات موريس سنداك الكلاسيكية.
و«حيث توجد الأشياء المتوحشة» هو أشهر أعمال هذا المؤلف الأميركي البالغ 81
سنة من العمر الذي وضع أكثر من 190 رواية هذه أشهرها. نشرت مصورة سنة 1963،
لكن من ذلك الحين عرفت أنواعا مختلفة من الإنتاجات، فهي تحولت قبل أعوام
إلى فيلم أنيماشن قصير ثم إلى أوبرا قبل أن تجد طريقها إلى سوق ألعاب
الفيديو والشاشة الكبيرة في عامين متواليين. وبحساب عدد النسخ المباعة من
الكتاب فإن الجمهور تحلق حولها، إذ بيع منها، حسب دار نشر هاربركولينز، 19
مليون نسخة.
وكلمة «الأشياء» في العنوان مقصودة. حين رسم سنداك روايته هذه لاحظت وكيلة
أعماله أنه لا يجيد رسم الجياد التي كان المفروض بها أن تكون الحيوانات
التي تلتقي بها الشخصية الرئيسية في الفيلم، فطلبت منه تغيير الجياد إلى
وحوش. ما قام به، هو رسم «أشياء» من البال ولو أنه يقول إنه اقتبسها من
أشكال أقاربه في بروكلين وحولها إلى كاريكاتورات، مستخدما خياله في النقلة
من الرسم الواقعي إلى الرسمين الساخر والفانتازي.
القصة ذاتها مناسبة: إنها حول صبي مشاغب اسمه ماكس، يثير غضب والدته فتأمره
بالتوجه إلى غرفة نومه للحال من دون أن يتناول طعام عشائه الذي بات جاهزا.
الصبي الجائع ينصاع وينفرد وحيدا في غرفته. فجأة غرفة نومه تصبح عالما غير
هذا العالم وشخصيات موحشة غريبة تبرز له. لكنه لا يخاف ويبحلق بها ما
يجعلها تقبل به صديقها وبل تنصبه «ملكا للأشياء الوحشية» وتنقله إلى عالمها
الغريب حيث يمضي مغامرة خيالية، يعود حين تنتهي، ليجد نفسه في البيت. ها هو
عشاؤه لا يزال ساخنا ينتظره.
في تلك الرحلة إلى المجهول والعودة منه، سعى الكاتب لتقديم وجهين متلازمين:
المغامرة والتشخيص النفسي ليصل، حسب ما قاله ذات مرة، إلى صياغة رواية
تتحدث عن العلاقة الأسرية ونوازع الغضب التي يظهرها الآباء والأمهات،
ويتحمل عبئها الصغار من دون معرفة أين مكمن الخطأ في تصرفاتهم. في الوقت
ذاته، هم أطفال مشاكسون وغاضبون كما يقدمهم المؤلف ولو من دون إبحار في
الأسباب أو تحليل في الدوافع.
إنها ليست المرة الأولى التي نرى فيها عملا يتحدث فيه عن هذا الوضع، لكن
قبل المضي في هذه النقطة، فإن النتيجة التي أنجزها سبايك جونز على الشاشة
جديرة بالاهتمام.
وسبايك جونز معروف بين هواة السينما كمخرج لفيلمين لقيا نجاحا نقديا لا بأس
به، هما
Beign John Malkovich سنة 1999 والثاني
Adaptation سنة 2002. الأول كان ترجمة خيالية لسيناريو تشارلي كوفمن، الذي نال
جائزة بافتا البريطانية كأفضل سيناريو، بينما نال الفيلم نفسه جائزة مهرجان
دوفيل الفرنسي كأفضل فيلم، ولو أنه فشل في استحواذ أوسكار أو غولدن غلوب في
الولايات المتحدة.
الفيلم الثاني كان عن كتاب لسوزان أورلين التزم فيه كاتب السيناريو كوفمن
بالنواحي الأدبية التي وضعتها الكاتبة، وحاز الفيلم على أوسكار واحد من بين
أربع ترشيحات، هو ذاك الذي ناله الممثل كريس كوبر كأفضل ممثل مساند، وكان
الممثل نال جائزة الغولدن غلوب عن الدور ذاته، كذلك نالت الممثلة ميريل
ستريب جائزة أفضل تمثيل نسائي مساند، ولو أنها أخفقت في الحصول على جائزة
موازية في سباق الأوسكار. لكن البافتا البريطانية منحت كاتب السيناريو
تشارلي كوفمن وشقيقه دونالد، الذي شاركه الكتابة، جائزتها، في حين نال
المخرج سبايك جونز جائزة الإخراج في مهرجان برلين.
الآن تتلألأ الجوائز في أفق فيلم سبايك جونز الثالث هذا. وهو ينطلق جيدا
بالفعل. بطل الفيلم ماكس (كما يؤديه ممثل في العاشرة اسمه ماكس ريكوردز)
صبي صغير في التاسعة من العمر (في السادسة حسب الرواية) يملأه الحنق حين
يجد نفسه وحيدا في دنياه. أمه المطلقة (كاثرين كينر) مشغولة عنه بمتابعة
حياتها العاطفية الجديدة، وشقيقته الأكبر سنا في سن لا يسمح لها باللعب معه
ومشاركته عالمه الصغير الذي نتعرف عليه في غرفته كما كوخا على شاكلة أهل
الاسكيمو، أمام البيت. ما يقصده الكاتب في قوله أن روايته تدخل الفانتازيا
وعلم النفس (أو بالأحرى النفس مع علم محدود) صحيح والمخرج يقتحم به الفيلم
من البداية. ها هو ماكس يعيش ثورة باتت مفهومة من قبل المشاهد كونه لا يجد
شريكا لمغامراته، فيثور عاكسا إحباطه وغضبه، وحين تحاول والدته تهدئته يقوم
بعضها ثم الهرب من البيت كما كنا (أو بعضنا على الأقل) نفعل حين كنا صغارا
حتى ولو اقتضى الأمر التوجه إلى بيت الجيران أو الجلوس عند نهاية بيت
السلم.
هنا يستبدل المخرج الغرفة التي حبس فيها ماكس نفسه في الرواية بالقارب الذي
يركبه في البحيرة القريبة ويمضي به. ما سبق مرصود بكاميرا ملاصقة في حركتها
لحركة الصبي في عنفها ونشاطها. ما يلي وصوله إلى القارب هو مشاهد مفتوحة
أمام جو مختلف تماما. حركة الصبي (الذي يرتدي رداء على هيئة ذئب) تهدأ،
وهدوؤها يوازي هدوء البحيرة النسبي والهدوء الشامل حولها. فجأة يصل ماكس
إلى جزيرة. فوق هذه الجزيرة سيلتقي بشخصيات متوحشة بعضها مستخلص من النعاج
وبعضها من النمور وجميعها عملاقة كبيرة، وتفكر في أن تفتك به وتأكله. لكن
الصبي يواجهها بلا خوف فتنصاع هي إليه وتعينه ملكا عليها.
بعد ذلك ستتوالى الأحداث التي لا وجوب لكشفها هنا حتى لا أفسد متعة
المشاهدة لمن يرغب في مشاهدة الفيلم. لكن حين تجلس منساقا وراء هذه
الخيالات، تدرك ـ خصوصا إذا ما قرأت ولو نذرا قليلا من الرواية ـ أن ما
يراه ماكس هو انعكاس لاستمرار خياله. خرج غاضبا لأن لا أحد يشاركه عالمه،
لكن ثورته تلك لم تنته بتغيير المكان بل استمر عائشا خيالاته التي تتبلور
أمامه (وأمامنا) صورا متتابعة.
على أنه في مجال المقارنة بين الرواية والفيلم لا بد من التوقف حول ناحيتين
متلازمتين. الأولى أنه في حين يلتزم المخرج بشخصيات وروح القصة، يضيف إليها
ما هو ضروري لفيلم عليه أن يتوسع في حكايته، لأن الأصل لن يصنع فيلما في
ساعة أو مائة دقيقة. لكن ما يضيفه سبايك جونز في بعض جوانبه ليس في محله
الصحيح دائما.
شخصياته «الحيوانية» تلك مثرثرة عكس القصة المرسومة التي لا يتجاوز عدد
كلماتها (بما فيها الحوار) الثلاثمائة كلمة. وفوق ثرثرتها هي بدورها بالغة
الشكوى من دون أن نعرف لماذا، كما لا نعرف لماذا الصبي غاضب باستثناء أنه
وحيد في عالمه، لكن ألم نكن جميعا هكذا على نحو أو آخر؟ مع رفع سن الصبي من
السادسة إلى التاسعة، فإن المخرج رفع أيضا درجة البراءة أو أضاف إليها، إذا
أحببت، بعض الخيوط الرمادية. لا يزال الفيلم مقبولا من الصغار، لكن ما يجعل
قبوله ذلك مشروطا هو أن الشخصيات الحيوانية على شكواها الدائمة ونسبة
لمشاعرها المتوثبة تبقى موقع خطر بالنسبة للأولاد. لست ولدا بالطبع، لكني
كنت أتساءل إذا ما كان الفيلم من منظور ابن التاسعة هو مسالم ومقبول أو أن
عنفه وغرابة شخصياته وتصرفاتها تجعله يشعر بعنف الفيلم وعنفها أكثر مما
يجب. في مطلع هذا العام شاهدنا فيلما آخر عن كيف يدفع شعور ولد بأنه وحيد
من دون التواصل الذي يطلبه من والديه، إلى تبني عالم مختلف مواز.
الفيلم هو «كورالاين» الذي أخرجه هنري سيليك عن كتاب لنيل غايمن وفيه قصة
فتاة صغيرة (في العمر نفسه تقريبا) تجد والديها مشغولين عنها وتكتشف سردابا
يؤدي بها إلى عالم مواز، فيه نسخة مطابقة لوالديها، إنما أكثر حنانا وألفة
ولو أن أزرارا تحتل موقع العيون لديهما، وهما يشجعانها على أن تترك البيت
الأول وتلتحق بهما في هذا الجو الذي بدأت تنجذب إليه، لكن الشرط هي أن ترضى
باستبدال عينيها بزرين أيضا.
مثل «حيث توجد الأشياء المتوحشة» ينتهي «كورالاين» باكتشاف البطل الصغير
بأنه بحاجة إلى العائلة البشرية عوض تلك الشخصيات الغريبة الماثلة في
مخيلته، لكن في حين أن فيلم سيليك من نوع الأنيماشن، فإن فيلم جونز فيلم حي
مع استخدام للكومبيوتر غرافيكس لتمرير مشاهد غرائبية وتصرفات خيالية أخرى
(كالطيران عبر الفضاء مثلا).
المهم في هذه المقارنة ما يلعبه عنصر البيت في أفلام كهذه (وبالنسبة
للروايتين الأصليتين) لكن المرء إذا ما أبحر في هذا الموضوع سيجد أن هناك
الكثير من الحكايات المشابهة في هذا المنطلق. حتى الحكاية الأشهر «سندريللا»
تنطلق من تفعيلة نفسية تحمل الغيرة والحسد وسوء النية من قبل شقيقات الفتاة
سندريللا، قبل وبعد أن تؤم الفتاة حفلة وتخرج بأوسم الشبان وأكثرهم جاها.
الحكاية كلها يمكن تفسيرها على أنها خيال مفرط فلا خرجت سندريللا من بيتها
ولا التقت بفتى الأحلام بل عاشت تجربتها تلك خياليا، وهذا ما تنص عليه
نهاية فيلم سبايك جونز، رغم أن الدعوة مفتوحة لكي يصدق الأولاد كل تلك
الشخصيات الغرائبية إذا أرادوا، فعودة الصبي ماكس إلى بيته بينما لا يزال
صحن العشاء ساخنا وبانتظاره معناه أنه لم يغادر المنزل على الإطلاق وأن ما
شاهده (وشاهدناه) تفعيلة ذهنية جانحة. هذا إلا إذا كان قادرا على أن يعيش
عالمين يتجمد الحقيقي حين يدلف الخيالي منهما.
الشرق الأوسط في
23/10/2009 |