الفيلمان العربيّان اللذان تم تقديمهما الى الآن في المهرجان يطرحان
موضوع المرأة في الصدارة. شيء مما سبق للسينما الإيرانية أن تبنّته قبل
سنوات عندما أخذت، ولا تزال، تفتح صفحات من القهر الاجتماعي الذي تعانيه
المرأة هناك. الفارق أن المرأة العربية موجودة في أكثر من بلد عربي وفي حين
أن بعض مواصفات مشاكلها مع المجتمع الرجالي ومع التقاليد الصارمة التي تقف
حائلاً دون أن تبني شخصيّتها المستقلّة، مواصفات مشتركة، لكن للكثير منها
أيضاً مواصفات منفصلة بحكم البيئة الاجتماعية التي تنتمي اليها.
فيلم يسري نصر الله “احكي يا شهرزاد” قد لا يكون الإطار المثالي
للطرح، لكن قضيّة المرأة مطروحة فيه من أكثر من جانب. وفي مواجهة قصوره
الفنّي على صعيد المعالجة، فإن ما يطرحه في هذا المجال أربع قصص يعرض فيها
لأربعة نماذج مما تتعرّض له المرأة. وكل من المواضيع التي اختار الكاتب
وحيد حامد تأليفها مستوحاة من الواقع، لكنها تحت يد المخرج تتفاوت قيمة بين
حالة وأخرى.
القصّة الأولى هي مسرح الأحداث الآني: زوجان شابّان (منى زكي وحسن
الردّاد) هي مقدمّة برنامج ذي اسم معقد. شيء مثل “نهاية الليل، مطلع
الصباح” وهو صحافي معروف في صحيفة تنتمي الى الحكم. هي نشطة في عرض المشاكل
الاجتماعية في مصر ومن وجهة نظر نقدية جريئة، وهو نشط في محاولة إقناع
زوجته بالعدول عن هذا الموقف لأن برنامجها هو الذي يمنعه من الوصول الى
كرسي رئيس التحرير كما يرغب. حباً بزوجها تقرر أن تفعل ذلك وتبدأ باستضافة
شخصيات نسائية تلتقطها من هنا وهناك. الأولى تفضّل العيش في المصحّة
النفسية. امرأة تجاوزت منتصف العمر وما زالت عذراء لأنها لم ترد أن تخوض
غمار النفاق العاطفي المتداول. الثانية سجينة سابقة أقدمت على قتل شاب يدير
المحل الذي تركه والدها لها ولشقيقتيها فعرف طريقه الى قلوب الثلاث
مخادعاً، وحين أدركت الأمر قتلته وأحرقت الدكان. والثالثة طبيبة أسنان
مثقّفة يغرر بها رجل الأعمال والمقرّب من الحكومة ويخدعها ثم يتّهمها بأن
الذي في بطنها ليس ابنه لأنه عقيم ويطالبها بثلاثة ملايين جنيه تعويضاً
لكرامته و-بعيداً عن الكاميرا- تنقذها زوجته السابقة حين تدلي بشهادة
لصالحها في المحكمة.
طوال كل تلك القصص يواصل الفيلم، طبيعياً، الانتقال بين القصّة الآنية
والقصص المُسترجعة، لكن مع نهاية تلك الحكايات الشهرزادية، كما يرغب الفيلم
تسميتها، ما عليه الآن الا أن يغلق النافذة على حكايته الأولى وفي هذا
الفصل نشاهد فشل الزوج في الوصول الى المنصب وتبرير فشله بأن برنامج زوجته
لا يزال السبب فيضربها وها هي الزوجة تجلس أمام كاميرا التلفزيون بعين
مضروبة تحكي قصّتها هي.
يبقى الحديث في هذه القصص نوعاً من الدعوة للإنشغال بمواضيع عاطفية
بحثتها السينما المصرية كثيراً فيما سبق. الزوج الانتهازي والزوجة التي
تعاني من انتهازيته أساس فيلم محمد خان “زوجة رجل مهم” الذي لم يأت بعد
فيلم يصل الى مستواه التعبيري، فنيّاً وكقضية اجتماعية، ولا حتى هذا الفيلم
بالتحديد. المشكلة الأخرى والسائدة هي فنية. الفيلم فيه تنفيذ جيّد لضرورات
التصوير والمونتاج، لكن ما عدا ذلك إسهاب غير مريح. الحكايات المسرودة ليست
جميعاً مثيرة، لكنها كلها تدين الرجل كما لو أن مناصرة المرأة يعني
بالضرورة وضع كل الرجال في خانة من الآثام الأخلاقية والاجتماعية. الى ذلك
لو أن شهرزاد ألف ليلة وليلة هي التي كانت تسرد على ملكها هذه القصص
بالرتابة التي تسودها في أكثر من مرحلة لأعدمها من الليلة الأولى.
الأمور مختلفة في الفيلم الثاني “الدواحون” أو “أسرار دفينة” (يحمل
الفيلم عنوانين). إنه من المخرجة رجاء العماري ويتبلور سريعاً كعمل مثير
للاهتمام من دون أن يكون مدّعياً. في ذات الوقت، ومع أنه يطرح وضعاً
نسائياً ذا علاقة بالكبت العاطفي، الا أن ميدان أحداثه يُبعد الفيلم عن
الوضع الاجتماعي بحيث لا يمكن اتخاذ شخصيات هذا العمل كنماذج من أي نوع
يُذكر. لكنه فيلم جيّد ينتمي الى التشويق ويطل على احتمالات كان يمكن أن
تؤدي به الى سينما الرعب لولا أن الغاية لدى المخرجة البقاء بعيداً عن هذا
التخصيص رغم توفّر الأجواء ونوعية الشخصيات.
هن ثلاث نساء يعشن في ملحق لقصر كبير مهجور: الأم وابنتاها وكلّهن
راشدات. عشن بعيداً عن الأعين (من دون الإبحار في الأسباب). في مطلع الفيلم
تستيقظ عائشة (حفصية حرزي التي أدهشت في فيلم عبداللطيف قشيش “سر الكُسكُس”)
من نومها وتخرج من الملحق الوضيع الى حمّام في غرفة النوم في الطابق الأول
حيث تبدأ بحلق شعر ساقها قبل أن تداهمها شقيقتها، فهذا لسبب ما ممنوع. مهما
كان هذا السبب فإن الفيلم يبدأ من هنا الإشارة الى وضع قمعي يكبّل الفتاة
ويجعلها تعاني من الكبت العاطفي كما سنرى في أكثر من مثل لاحق في الفيلم.
لكن عائشة ليست “المكبوتة” الوحيدة في الفيلم، بل شقيقتها أيضا ولدى
المخرجة رجاء القدرة على تجسيد ذلك في مشهد معيّن تظهر فيه كبت عواطفها.
أما الأم فهي صارمة لكنها ليست شريرة. في الحقيقة ولا واحدة من هؤلاء
النسوة شريرة. كل ما في الأمر أنهن في وضع لا يمكّنهن، ولسبب غير معروف، من
فك العزلة والاختلاط مع المجتمع. في هذا لا تُدين المخرجة المجتمع بل تدين
الأسرة والظروف المبهمة التي فرضت عليها تلك العزلة.
كل هذا الى أن يأتي اليوم الذي يقرر فيه وريث العائلة العيش مع صديقته
في البيت لتبدأ سلسلة أخرى من الهواجس والتناقضات بالبروز الى السطح. وفي
النصف الثاني من الفيلم يتم للثلاث خطف صديقة صاحب البيت وحجزها في ذلك
المكان. تتابع المخرجة هنا خطّا من الألفة التي تبدأ بالجمع بين الثلاث
وبين تلك الصديقة (الأكثر ثراء وعصرنة وثقافة) رغم أن المخطوفة لا تنسى
أنها تريد أن تستعيد حرّيتها. الحالة التي يجد فيها المشاهد نفسه متابعاً
حالة من أكثر حالات السينما العربية إثارة. ومع نهاية داكنة يتم لعائشة
فيها التحرر من تلك القيود ولو غصباً، فإن الفيلم يسجّل نفسه في خانة
الأعمال ذات النهايات المأسوية ذات القدرة على البقاء طويلاً في البال.
في حين أن “احكي يا شهرزاد” يعرض في نطاق “أيام فينسيا” خارج
المسابقة، فإن “الدواحون” يعرض في المسابقة الثانية “آفاق”، لكن الأول شهد
الحشد الأكبر من المشاهدين بالمقارنة. وهما ليسا الفيلمين الوحيدين اللذين
عرضا حتى الآن لمخرجين عرب. هناك فيلم سويدي من إخراج المصري طارق صالح
وبأصوات ممثلين أمريكيين منهم جولييت لويس وفنسنت غالو وأودو كير وستيلان
سكارسغارد كون الفيلم أنيماشن.
نحن هنا في المستقبل حيث الحياة لم تعد كما هي الآن فقد نضب الغاز
الطبيعي وأخذت الناس تعتمد على القطار السريع للانتقال وهذا القطار الذي في
الفيلم ينتقل بين كافّة الدول الأوروبية. بطل الفيلم يعيش حالة غير
استثنائية في عالم تغيب عنه الديمقراطية أيضاً، فالأخ الأكبر يغزو العقول
ويطلب من الناس فعل ما يقومون به. نتيجة ذلك صراع إرادة مقهورة ضد القاهر.
لكن المخرج يعمل على إثبات أن المسؤولة هنا ليست الحكومة بل الفرد فهو الذي
في إمكانه التمرّد فيما لو امتلك الرغبة في ذلك، بل هو المسؤول عن تردي
الحالة كونه لم يكترث للتمرّد من قبل.
الفيلم لابد بدا جيّداً على الورق، لكن حين التنفيذ تتبدّى سلبياته في
مجال إثبات الحالات التي يقدّمها وتبرير تصرّفاتها. ينقص الفيلم خلق حس
جوهري بالوضع وهو الذي يبدأ واعداً ثم ينحسر وعده عن تمنيّات غير محقّة.
الخليج الإماراتية في
07/09/2009 |