تظاهرة «أيام سينما الواقع» المقامة حالياً في دمشق مبادرة
سينمائية مستقلة أقدمت عليها مجموعة من الشباب المهتمين بالسينما التسجيلية
التي لا تحظى، تقليدياً، بالاهتمام. فهذه السينما توصف بأنها جسر للانتقال
إلى السينما الروائية بالنسبة الى السينمائي، لذلك لا تحتل الأولوية
بالنسبة الى أصحاب الصالات والجمهور ليس في سورية فحسب، بل في مختلف دول
العالم. الاحتفاء يكون، غالباً، من نصيب السينما الروائية حيث الأضواء
والنجوم والسجادات الحمر. أمام هذا الواقع سعى كل من ديانا الجيرودي وعروة
نيربية وجود سعيد وجود كوراني، بعد تحضيرات دامت نحو سنة، إلى اختيار أكثر
من عشرين فيلماً تسجيلياً من مختلف دول العالم، لعرضها في دمشق، وفي مدينتي
حمص وطرطوس، إيذاناً بولادة تظاهرة سينمائية ثقافية «غير ربحية ومجانية»،
تستحق التقدير والتشجيع، ومن المؤمل أن تكرس كتقليد سنوي.
بعيداً من
الرسميات
التظاهرة المقامة في إطار دمشق عاصمة للثقافة للعام 2008،
والتي دعمها الكثير من المؤسسات والمهرجانات المحلية والدولية المرموقة،
جاءت بعيدة من الطابع الرسمي. فقد خلا حفل الافتتاح من الخطابات والشعارات
التي تميز الاحتفالات الرسمية، إذ شاء المنظمون أن تكون كلمة الافتتاح
فيلماً يؤرشف لذاكرة السينما السورية، وهو فيلم «نور وظلال» لمجموعة من
المخرجين السوريين، وهم محمد ملص وأسامة محمد وعمر اميرلاي، الذين رصدوا،
في هذا الفيلم، تجربة نزيه الشهبندر، أحد أبرز رواد السينما السورية في
الثلث الثاني من القرن العشرين. كان رجلاً حالماً عشق السينما في ظروف
قاسية. ينحني على آلاته السينمائية بحنو بالغ، ويتعامل معها برهافة من يخشى
على كنز ثمين لا يدرك قيمته سواه. حقق الشهبندر الكثير، بمقاييس مرحلته،
لكنه سلّم الراية إلى أجيال لم تهتدِ، بعد، إلى كيفية رسم مشهد سينمائي
معافى على رغم المحاولات المضنية التي تتعثر لهذا السبب أو ذاك. كانت عينا
الشهبندر، خلف النظارات السميكة، تستقرئان هذه «النتيجة الخائبة»!
لكن هذا الواقع لم يستطع أن يقف يوماً في وجه محبي السينما،
ولعل هذه المبادرة الأخيرة تؤكد أن ثمة من يعمل بصمت كي تبقى السينما
حاضرة، ولو عبر فسحة متواضعة، لكن جريئة، إذ شاهد الجمهور وللمرة الأولى
فيلماً للمخرج عمر أميرلاي. صحيح أن الفيلم وعنوانه «مصائب قوم» يتناول
ظروف الحرب الأهلية في لبنان، لكن مجرد عرضه يشكل خرقاً للقاعدة الرسمية
التي «حظرت التعامل مع أفلامه». ومن هنا لوحظ غياب سينمائيي المؤسسة العامة
للسينما، وكأن هذا الغياب الذي لم يستطع المنظمون تفسيره على رغم الدعوات
التي وجهت اليهم، هو نوع من الاحتجاج على إدراج فيلم اميرلاي ضمن برنامج
العروض الذي لم يغفل توجيه الشكر إلى المؤسسة «التي قدمت الدعم للتظاهرة»،
بحسب المنظمين.
تقول ديانا الجيرودي: «نحن نسعى إلى إقامة تظاهرة سينمائية،
ولسنا طرفاً في أي نزاع، وكان المعيار الرئيس في اختيار الأفلام هو القيمة
الفنية والجمالية للفيلم في معزل عن أية أغراض أخرى»، هذا المعيار أتاح
للجمهور رؤية عدد من الأفلام النوعية التي حصد معظمها الجوائز في مهرجانات
عالمية، ومن هذه الأفلام: «بخصوص نيس» للفرنسي جان فيغو، و «عين فوق البئر»
للهولندي يوهان فان ديركويكن، و «آل بيلوف» للروسي فيكتور كوساكوفسكي،
و «سلفادور الليندي» للمخرج التشيلي باتريسيو غوسمان، و «ثلاث غرف
للسوداوية» للفنلندية بيريو هونكاسالو، و «دروس في العتمة» للألماني فيرنر
هيرتسوك، و «أن أكون وأن املك» للفرنسي نيكولا فيليبير، و «البذور»
للبولوني فويتشيك كاسبيرسكي، و «دفتر أحوال شوتكا» للصربي الكسندر مانيتش،
و «السطح» للفلسطيني كمال الجعفري، و «دوار شاتيلا» للبناني ماهر أبي سمرا،
الذي عرض له كذلك فيلم «مجرد رائحة» ضمن اختيارات التظاهرة لأفضل أفلام
مهرجان «دوك لايبزيغ» الألماني. وعرض كذلك ثلاثة أفلام للمعهد العربي
للفيلم، هي: «قمر 14»، و «زهر الليمون» و «عصفور من حجر».
خيط يربط
صحيح أن هذه الخريطة السينمائية بدت متباعدة ومتنافرة
جغرافياً، بيد أنها أتت متقاربة جداً في الهواجس والمعالجة والرؤى الفنية،
ذلك أن ثمة خيطاً رابطاً يجمع بينها يتمثل في أن الخيارات تركزت على البحث
عن الفيلم التسجيلي المؤثر الذي يوثّق لهموم الإنسان، ويحارب الاضطهاد
والاستغلال والحرمان، سواء كان ذلك في أقاصي التشيلي، أو في جليد سيبيريا،
أو في حرائق الشرق الأوسط. هي أفلام توثّق للخيبات، وتروي قصصاً تراجيدية
عن هشاشة الفرد، وغياب العدالة، لـ «تفتح الشهية للحوار، وربما للاختلاف»،
بحسب المنظمين الذين لا يشغلهم أي هم سياسي دعائي أو غير دعائي، باستثناء
«الهم الذي ينتصر للإنسان وقضاياه»، وتلك هي مهمة السينما، وخصوصاً
التسجيلية منها.
«لم تعترض رقابة وزارة الثقافة على عرض هذه الأفلام» كما يقول
نيربية، الذي أضاف «ان الموازنة المرصودة لم تسمح لنا بتخصيص جوائز للأفلام
المشاركة، فاقتصرنا على جائزة واحدة هي جائزة الجمهور، وهي في رأينا أهم من
جوائز المجاملة التي تُقرر وراء الأبواب الموصدة، في المهرجانات الباذخة».
وشهدت التظاهرة، الى هذا، ندوات تناولت قضايا أو هموم السينما التسجيلية
الوثائقية شاركت فيها مجموعة من المهتمين والمتخصصين في هذا النوع
السينمائي، وتبدي الجيرودي استغرابها من غياب المخرجين الشباب عن هذه
الندوات خصوصاً أولئك الذين اعتادوا الشكوى من غياب الفرص، وتقول: «كان في
وسعهم الحضور والحديث عن همومهم، وعن مشاريعهم المؤجلة، لكن ذلك لم يحصل».
في العموم يمكن القول بأن البداية كانت موفقة، وهو ما يشيع
تفاؤلاً بأن الدورات المقبلة ستكون أكثر حيوية ونضجاً إن استمر القائمون
على التظاهرة في الاحتفاظ باستقلالية تمكنهم من التركيز على «عتمة الصالة»
حيث الامتحان الحقيقي لأي تظاهرة سينمائية تطمح إلى التميز!
الحياة اللندنية في 22
فبراير 2008
|