كل الضحك الذي ضحكته خلال مشاهداتي لأفلام اسماعيل ياسين، بما
فيه
الضحك
المبتذل والمفتعل، بددته عندما علمت أن هذا الممثل الكوميدي الذي أضحك
الملايين مات وحيداً وحزيناً ومفلساً!..
وبالرغم من كل شيء، الافتعال والسذاجة
والسطحية والابتذال، فإن اسماعيل ياسين شخص خفيف الدم بلا شك، خفة الدم
تلك.. من
النوع المصري!.. خفة الدم ذاتها التي أتاحت لهذا الممثل اختراق
حواجز رقابية صارمة
لدرجة.. ان الفيلم (اسماعيل ياسين في الجيش)، تم إنجازه بلا شك من دون
الإحساس
بالتهمة: تهمة الإساءة إلي الجيش المصري وقواته المسلحة!..
وإكراماً لذكري هذا
الممثل الفنان، فقد قمت بتأليف الحادثة الحقيقية التالية، وأسندت دور
البطولة فيها
لاسماعيل ياسين، وممثلين آخرين سوف يظهرون في الفيلم بأسمائهم
الحقيقية.
بعد
العودة من الإجازة الأولي، علم جميع أفراد الطاقم بما قام به عبدالعزيز
مخيون مع
أحد سائقي التاكسي، وبدأ الجميع يتندر بذلك. وتطوع محمد هنيدي
(وكان أحد ممثلي
الكومبارس آنذاك) أن يروي الحادثة للعقيد وحيد سيف. وتتلخص الحادثة بأن أحد
سائقي
التاكسي سأل عبدالعزيز مخيون في دردشة عابرة: أين تخدم؟! فثار الشك في نفس
عبدالعزيز مخيون المعروف عنه تقيده الحرفي بالتعليمات،
وتحديداً حفظ الأسرار
العسكرية، فعمد بعد مجادلة طويلة، وشبه مشادة مع زميله محمد هنيدي، إلي أخذ
اسم
السائق ونمرة سيارته، وطلب منه أن يتوجه إلي أقرب مكان، أو جهة ملائمة، حتي
يتم
التأكد من هوية السائق.
قام السائق بتقبيل يد عبدالعزيز مخيون ليغفر له هذه
الغلطة، وحلف بشرفه ألف مرة أنه لن يفعل ذلك ثانية في حياته،
وإذا لم يصدقه، فعلي
الأقل من أجل الأطفال. ولأن عبدالعزيز مخيون يتمتع بموهبة البحث العلمي،
(كان يعمل
كيميائياً في أحد مراكز البحوث العلمية قبل مجيئه لأداء خدمة العلم)، فلم
يصدقه،
فقام زميله محمد هنيدي بشتمه، واتهامه باللوثة العقلية،
واقتربا من التعارك، فقام
السائق بإنزالهما، وشتم عبدالعزيز مخيون، وفر هارباً، وهو يقول: إذا كان كل
الممثلين مثلك.. حَ ترجع سيناء من بكرة الصبح إنشالله.. ولم يضحك وحيد سيف
كما كان
متوقعاً، بل قام بمباركة ما فعله عبدالعزيز مخيون، وقام بتأدية
مشهد يموّت من
الضحك، فتكلم عن ضرورة أن يتحلي جميع الممثلين المصريين بأخلاق ومناقب
عبدالعزيز
مخيون، لترجع مصر كما كانت: أم الدنيا!.. وقال إن العدو يقوم بتجنيد ممثلين
من ضعاف
النفوس، من أبناء شعبنا (تم اقتراح حذف هذه الجملة أثناء
الإعداد للفيلم)، وهم
كثيرون للأسف، لذلك يجب أن نكون يقظين، وأن نكون محتاطين من أقرب الناس
إلينا، من
أمهاتنا، وآبائنا، وأصدقائنا، وحتي من زوجاتنا في المستقبل..
وكان اسماعيل ياسين
نائماً، فصحا بسبب الصوت الجهوري الذي يتمتع به وحيد سيف الذي قال في هذه
اللحظة
ليبرهن علي أقواله: انظروا للمجلات والبرامج التلفزيونية، فلا
أحد من الممثلين يذكر
اسمه أو رتبته، فالعدو يرصدنا ليلاً ونهاراً.. وهنا قاطعه اسماعيل ياسين:
ولكن يا
سيادة الزابط.. دول الغوازي (الحجيات في اللهجة السورية) بي يبعتو تحيات في
الحفلات
والموالد للكثير من الممثلين بأسمائهم ورتبهم الحقيقية، وبعضهم
يمثل أدوار بطولة،
ده
ما فيش حفلة تمر.. إلا وفيها يجي ميت تحية لسيادة اللوا أنور وجدي، وغيرو
كتير،
وحضرتك لا مؤاخزة، فيك تشتري كاسيت من أي كراج، وفيك تعرف أسماء ياما، ورتب
ياما،
دا حتي الممثلون أنفسهم يحضرون الحفلات دي، ويقولو أسماءهم،
ويباركو لبعض بالترقية،
وتوقف المزيكا كرمالهم.. ويقوصو رصاص كمان.. يعني مش أحسن العدو يشتري
الكاسيتات
دي، بدل وجع القلب بتجنيد ضعاف النفوس..
وانفجر جميع ممثلي الكومبارس بالضحك،
وانفجر وحيد سيف بالغضب، وقام بتلقين اسماعيل ياسين درساً قاسياً، واتهمه
صراحة
بأنه من ذوي النفوس الضعيفة، وأنه من الذين يريدون النيل من
شرف السينما المصرية،
وأكثر من ذلك اتهمه بأنه جاسوس، وطلب من جميع الممثلين ألا يأتمنوا اسماعيل
ياسين
علي شيء، لأن هكذا بني آدم لا يؤتمن علي بيته. وازداد ضحك الكومبارس عندما
بدأ
اسماعيل ياسين باستخدام ملامح وجهه كما هو معروف عنه، فازداد
غضب وحيد سيف الذي أمر
بعقوبة قاسية، ومهينة.. وكان اسماعيل ياسين في ذلك الوقت مشهوراً، ويفرض
شروطه علي
المخرجين، فقمت شخصياً بأداء الدوبلير، وخضعت للعقوبة والشتائم، ثم ذهبت
إلي السجن
لمدة ستة أيام، وحرمت من الإجازة التي يتمتع بها جميع الممثلين.
واستولت علي
اسماعيل ياسين مشاعر حزن وكآبة، وطال به الأمد علي تلك الحال، لدرجة أن
عبدالعزيز
مخيون نفسه شعر بالتعاطف معه، والحيف الذي لحق به (هذه اللقطة من أجل تطور
الشخصيات)، ومع اقتراب الفيلم من نهايته، وتمهيداً لنهاية
سعيدة، وبعد تلقي الممثل
وحيد سيف ملاحظة من المخرج بأن أداءه كان مبالغاً به، بدأ بالتقرب من
اسماعيل
ياسين، وكان اسماعيل يفكر بتصفية آثار ذلك المشهد، فقال بمشاعر وطنية
جياشة: شوف
الآليات الخربانة يا سيادة الزابط.. ده حرام، ده أنا قلبي
يتقطع لما أشوفها. فرد
وحيد سيف بروح أبوية: يا ابني يا اسماعيل أنت عاوز كتير حتي تتعلم، إنت
تفتكر
المخرج ما بشوفهاش، طب إيه رأيك..إنو إحنا متقصدين نحطها هنا، طب إسالني
ليه. وسأل
اسماعيل ياسين: ليه يا سيادة الزابط. فقال وحيد سيف: ده إحنا
حطينها هنا علشان تخدع
العدو، علشان الطيارات لما تيجي الطيارين مش حَ يعرفو إنها خربانة، فَ
يضربو
السواريخ عليها، وإحنا نكون ما خسرناش حاجة! وشعر اسماعيل بتلك الإحاطة
الوطنية،
وتلك العودة، عودة الإبن الضال، ثم شعر بالاغتباط لأن وحيد سيف
نفسه أخبره بسر،
وشعر اسماعيل ياسين بألم عابر في جرحه القديم، ثم شعر بالامتنان عندما
أخبره وحيد
سيف بسر آخر. قال وحيد سيف: معليش يا ابني يا اسماعيل، ما كانش قصدي، بس
أنا كنت
زعلان المخرج نيازي مصطفي واجهني بتفاصيل دقيقة خالص، خلي بالك
يا اسماعيل.. ده فيه
بصاصين كتير بينكم، منكم وفيكم.. ودول بيسجلو كل حاجة، ونيازي يعرف كل حاجة
بتحصل
معاكم، ده حتي كنت فاكرك واحد منهم، تعرف حد منهم يا اسماعيل؟! وحاول
اسماعيل أن
يغير الموضوع، لأنه لم يعرف ماذا عليه أن يفعل. ثم إنه.. لم
يستطع اسماعيل ياسين أن
يمنع نفسه من الاشتراك في الخطة الرامية إلي الإيقاع بطيران العدو، فاقترح:
أنا
بشوف إن الآليات الخربانة دي لازم تنحط في مكان بعيد، علشان هيه دي الوقتي
محطوطة
في نص الأستديو، ولما طيران العدو يضرب حَ يموت جميع
الممثلين.. وساد صمت ثقيل بين
الممثليْن، وتم تسجيل هذا المشهد بأنه يضم أقسي صمت في تاريخ السينما
كلها!..
ولم ينجح فيلم اسماعيل ياسين في الجيش (في الحقيقة كان ذلك
متوقعاً)
فشعر
بالإحباط والكآبة المزمنة، فضلاً عن الضائقة المادية وذلك بسبب أن المنتج
لم
يعطه كامل أجوره، ومرت أيام قاسية، حتي أن اسماعيل ياسين دخل في قوقعة
نفسه. وفي
الوقت الميت سنحت له فرصة فيلم جديد، بقصة مثيرة، وعنوان أكثر
إثارة: اسماعيل ياسين
في
أمريكا..
وحلم اسماعيل ياسين باستديوهات هوليوود، وممثلاتها الفاتنات،
فشد
الرحال،
مخلفاً وراءه ديونه المتراكمة عليه منذ بدأ بتصوير فيلم اسماعيل ياسين في
الجيش . ووصل اسماعيل إلي أمريكا، واكتشف أزمته في اللغة الإنكليزية، فأجّل
أحلامه
قليلاً ريثما يتقن اللغة، دون أن يفارقه الحلم بالكاميرات
والأضواء والنجوم
والمهرجانات والصالات العملاقة والأفلام الملونة (وقال في نفسه أنا مش قادر
أمثل
فيلم أبيض وأسود تاني). ورغم غلاء الأسعار وضيق ذات اليد حتي الدرجة القصوي،
فقد ظل
اسماعيل ياسين يكافح، ببطولة أحياناً، وبدأ بالبحث عن عمل،
فقصد جميع العرب الذين
عرفهم في أمريكا، وسألهم عن فرصة عمل، أي عمل: إذا ما فيش كومبارس، أشتغل
مساعد
إضاءة، أو حتي عامل كلاكيت. ولم يجد اسماعيل ياسين عملاً عند أبناء جلدته،
فقبل أن
يقوم بأداء دوبلير لممثل سلافي يقوم بدور مساعد طباخ في مطعم،
ولم يخفف عن نفسه سوي
بعض البروفات مع ممثلين من جنسيات مختلفة..دون أن ينسي الاتصال بأبناء
جلدته
لتذكيرهم بالوعود، ثم قطع الأمل بهم نهائياً عندما صارحه أحدهم بأن عليه أن
يحتفظ
بعمله، وألا يلوم العرب كثيراً، فهم معذورون، وهم يتخوفون من
أشخاص مثل اسماعيل
ياسين بأن يكونوا مدسوسين عليهم من قِبَل المصريين، والتجارب كثيرة (لم
يفهم
اسماعيل ياسين المقصود بالضبط، فسأل: تقصد بصاصين..حضرتك؟!) فرد الآخر:
أيوه.. وإذا
ماكنتش واحد منهم.. خلي بالك منهم! وهنا ولأول مرة ضحك الممثل
الكئيب اسماعيل ياسين
في
الأرض الجديدة، وعلا صوت القهقهة ممزوجاً بالسعال والدموع، وغابت الصورة،
وظلت
القهقهة الآبقة تتردد في الوقت الذي كانت فيه أسماء فريق صنّاع تظهر علي
الشاشة..
كاتب من
مصر
tariqawahid@yahoo.com
القدس العربي في 21
فبراير 2008
|