كان فلم أوليفر ستون ( ولدوا كقتلة
Natural Born
Killers
) من عام 1994 من أكثر أفلام التسعينات الذي تضاربت حولها الآراء ، تماما
كما كانت الحال مع فلم سام بيكنباه ( العصابة الوحشية ) أو (البرتقالة
الميكانيكية ) لستانلي كيبريك ، من عام 1971. بالطبع كثيرون إتهموا ستون
بتمجيد العنف والقهر ومن ثم تحريض المتفرج على إرتكاب الجريمة وتحويل
القسوة الى مشهد ساحر وإلى آخره...
في تصريحات صحفية كثيرة يعلن ستون عن هويته الفنية : "
ستراتيجيتي هي أستكتة
aeshetisation
العنف والتصرف بحلول ذات تأثيرات إخراجية ، كما هناك رغبتي في خلق عمل
ُيظهر آليات ٍ تدعم ظاهرة القسوة وحضورها الشامل في الثقافة الراهنة
والميديات".
وكان كاتب سيناريو هذا الفلم كونتين تيرينتينو قد اراد لعمله
هذا أن يكون هجاء للمؤسسات التي تعتاش على شيوع العنف ، ومحاكاة ساخرة
لتقاليد هذه الأصناف من الفلم. كما هي واضحة في هذا الفلم السخرية المرة من
مجتمع منوَّم ومسحور بهوس الجريمة والقتلة ، ويعايش عبث المبتذل والسوقية و
أسوأ اشكال الفن ، في حياته.
لقد حوّل أوليفر ستون العرض الفلمي الى آخر شبيه بما نلقاه في
الميديات ، حين أخذ بأستيتيكا الفيديو كليب و صنف المسلسلات الكوميدية
المسمى سيتكوم
situation
comedy / sitcom، والدعاية التجارية و أفلام الرسوم المتحركة ، وبهذه
الصورة يطلق تيارا متباينا من الصور والأصوات . وتلك الدراماتورغيا الشرسة
ل( ولدوا كقتلة ) تولد طراز خاصا من تلقي ّهذا العالم المقدَّم الذي يكون
العنف والقسوة وليس فقط ظواهر طبيعية بل متجذرة في الواقع وتكون من صفاته
الأساسية. فبطلا الفلم ميكي
Mickey
ومالوري
Mallory
يظهران على خلفية صور مصطنعة حيث النوافذ تتحول الى شاشات تضيء مشاهد
القسوة والعنف. ولهذا الزوج من البشر صار العنف بمثابة مشهد طبيعي يسقطون
فيه المشاعر وردود الفعل. و في الواقع لاخيار أمامهما بين اللاعنف والعنف.
ففي عالمهم لاشيء غير الثاني، وهناك من ذكرنا بالشبه القائم بين ( ولدوا
كقتلة ) و فلم نيكولاس رويغ
N. Roeg ( الإنسان الذي سقط على الأرض
The Man Who
Fell to Earth
) من عام 1976 . فبطل هذا الفلم خضع لعمليات أريد منها أن يتكيف للحياة على
كوكبنا . أحاطوه بعشرات الشاشات كي يرغموه على مشاهدة اعمال عنف تعرض
بوتيرة أسرع فيها. وُمشاهد فلم ستون قد دفع الى وضع شبيه بهذا: إنه ُمهاجم
بمشاهد القسوة الناتجة من الخطوط السردية للفلم . وفي فلم ستون تفتقد أي
فرصة للهروب والإحتماء من العنف ببطل من صنف آخر وأيّ كان مدى إيجابيته.
فقد حرم ستون بطليه هذين من كل مشاعر ( طبيعية ) تذكرنا بشيء من رومانسية
عاشقين. وبالمقارنة مع ( ولدوا كقتلة ) يبدو فلم المخرج أرثر بين
A. Penn
( بوني وكلايد
Bonnie
& Clyde) بالغ الرومانتيكية وتكون كل جرائم بطليه مجرد مواجهة
مع آليات المجتمع والنظام القائم بل لا يخلو الأمر هنا من ميل الى تفسير
سلوك البطلين بأنه نوع من الدفاع عن النفس.، في حين ان بطلي أوليفر ستون قد
صورا كمخلوقين منفرين حرما من كل أحاسيس عد ا الإنقياد الى القسوة. بعبارة
أخرى حرم ستون المتفرج من أي فرصة كي يتطابق ولو قليلا مع هذين البطلين .
وكما قلت يستخدم ستون كل التقنيات ، إلا أنه غالبما ما يكرر
تقنية الفيديو كليب بمونتاجه الدينامي والوصل الحرّ للشريط الملون بالآخر
الأبيض والأسود. هناك أيضا العمل العشوائي للكاميرا وإختيار زوايا لها غير
تقليدية أو تشويه الصورة المتعمد أو التبدلات المفاجئة للكوادر والأخذ
بتقينة النشاز الصوتي وتلك الفلاش – باكات الفجائية والإستبطانات. في واقع
الحال يكون ( ولدوا كقتلة ) كولاجا كاليدوسكوبيا لمختلف الشعريات والأصناف
الفلمية والميديات من وسائل النقل الجماعي. واضح أنه حين تخلى ستون عن منطق
وصل الصور والأحداث في نسق ما يسمى الأسباب والنتائج ، قد حوّل الفلم الى
مجموعة من أفعال التشويق الصورية – الصوتية. وحين منح العنف السينمائي صيغة
الكاريكاتور يكون قد نزع عنه الفعلية من ناحية وقام بتضخيمه من ناحية اخرى
عند لجوئه الى حلول كلاسية ، كإبطاء سرعة الصور أو الأخذ بتقنية ما يسمى
بالمفرقعات
squibs.
ومثل هذه الحلول مأخوذة ، في الواقع ، من تلك الأستيتيكا المحجوزة
للتلفزيون وألعاب الكومبيوتر والرسوم
comics . فهناك صارت القسوة ما يغذي الميديات ومهاجمتها
للمشاعر والعقول بل وحتى أثناء عرض الإعلانات التجارية التي من المفروض أن
تسمح لنا بإلتقاط الأنفاس من وقت الى آخر! فهنا صار كل شيء طافيا على السطح
ومبتذلا. وفي المشهد الأول من ( ولدوا كقتلة ) تفتح إحدى بطلات الفلم جهاز
التلفزيون في كافيتيريا على الطريق. وكان هناك برنامج ترفيهي يجاور وجهين
بلقطات مقربة : نيكسن ودراكولا... وهذا التاثير جاء بواسطة ما يسمى القفز
من قناة الى أخرى
zapping
. و قد اصبح هذا التلقي المتواصل لصور سريعة الشكل الأساسي لمونتاج هذا
الفلم. فهذا ( القفز) يوفر للمتفرج فرصة التلقي المتزامن لمختلف الأشكال
والأمزجة. وفي المشهد الذي يلتقي فيه ميكي مع مالوري ، وقد أخرجه ستون
بأسلوب السيتكوم ، نشاهد صورا لتحرشات جنسية يقوم بها الأب إزاء إبنته ، ثم
تأتي مشاهد عنيفة أخرى عن إنتقام البنت. و يكون طبيعيا هنا رد فعل الجمهور
: الضحك الذي يذكر بذاك المتفرج الذي يقفز من مشاهدة برنامج تلفزيوني الى
آخر يختلف عن السابق مناخا وحدثا. فستون يقوم بخلط لنماذج تلق متباينة.
يرى ستون أن ما يميز الثقافة الجماعية ، الشائعة ، الجماهيرية
والميديات الحديثة هو أن اسلوب عرض العنف وتلقيه أصبح في النتيجة عملية
تدهور لأهميته ، فهذا تيار سريع من الصور والأحداث التي يصعب إخضاعها
للتدرج والفرز الى مراتب مسلية وأخرى خطيرة ، الى وهمية وحقيقية. فالبعد
الأخلاقي للقهر قد خضع هنا الى الإلغاء أو التسفيه. فقصة إثنين من القتلة
قد اصبحت على يد ستون تشهيرا بتلك القيم المحافظة والمعترف بها في الأقاليم
أي في أمكنة تصوير ( ولدوا كقتلة ). ومعلوم أن هذا الفلم ليس إستثناء في فن
أوليفر ستون. فهو نابع من موقفه الفكري و السياسي إزاء السائد من الأفكار
والتقاليد والممارسات على شتى الأصعدة ، وخاصة ما حصل في الستينات : إغتيال
جون كينيدي ، حرب الفيتنام ، فضائح السياسة ووكالة المخابرات المركزية إلخ.
وبصورة ما قام ستون بالتوقيع على ذلك المانفست غير المدون – مانفسيت
الإحتجاج على ( الجحيم ) الأميركي.
هناك وسيلة معيّنة لتصنيف أفلام أوليفر ستون : أفلام تحلل
أحداثا من الماضي وأخرى تتكرس للحاضر. إلا أن كلى الصنفين يتداخل ويخلق
تأثيرات متبادلة. ففلمه (
JFK
) عن إغتيال كينيدي ، من عام 1991 ثم فلم ( نكسن ) من عام 1996 وقبلهما عن
الحرب في الفيتنام ( الفصيل
Platoon
) من عام 1986 و ( المولودون في الرابع من تموز ) و حقبة الهيبز، " الأطفال
– الزهور " في فلمه ( الأبواب
The Doors ) من عام 1991 ، تقدم كلها بانوراما مثيرة تصّورملاحم
الإنعطاف السياسي – الإجتماعي آنذاك ، و تتابع آليات السلطة و تفاقم أزمة
الثقة بمؤسسات الدولة والتي يراها ستون مصدر كل سوء جاءت به إتفاقات سرية
داخل المؤسسة .
يصعب القول أن سينمائيين من طراز أوليفر ستون هم من دون نهج .
فكل ما في الأمر أنهم يطرحون خيارا أخر هو في غالب الأحوال من مدارات أخرى
غير مدار ثقافة الغرب. وليس بصدفة أن الشخصية الإيجابية الوحيدة في ( ولدوا
كقتلة ) كانت ساحرا عجوزا من الهنود الحمر. كما أن لدى هذا الفنان ميلا
واضحا الى مواجهة المسيحية بثقافات وأديان أخرى لا يتردد في التعاطف معها:
البوذية في فلمه ( السماء والأرض
Heaven
& Earth ) من عام 1993 أو معتقدات الهنود الحمر في ( الأبواب )
. وهو يفعل هذا كي يفضح بالصورتين المباشرة وغير المباشرة ، القيم المحافظة
التي لها شبه سيادة في المجتمع الأميركي. وفي الحقيقة لا أحد بمكنته القول
ومهما بالغ في تفاؤله وإنقياده الى إغراء الإيمان بإنتصار العدالة والقيم
الإنسانية ، إن هذا الفنان الأميركي لايقاوم كل يوم الإحباط بسبب تصاعد هذه
الموجة العاتية من العنف والقتل وليس في مجتمعه وحده...
القصة العراقية في 17
فبراير 2008
|