في سيرته «الصندوق السحري» كتب انغمار برغمان الفقرة الآتية:
«أدرك ما يريد فيلليني قوله حين يؤكد أن صنع الأفلام ، بالنسبة إليه، طريقة
من طرق العيش». تدور هذه العبارة في الخلد عند لقاء مانيا أكبري، المخرجة
والممثلة الإيرانية الشابة.
مانيا سحرت جمهور مهرجان نانت بابتسامتها المضيئة، هو الذي شهد
عذابها في كل لحظاته في «عشرة زائد أربعة»، الفيلم الذي سرد حكايتها مع مرض
السرطان وتجربتها المرة مع العلاج. تجربة تبدو معها معاناة الحياة اليومية
تافهة «كل الألوان تبدو باهتة أمام الموت» كما تعبّر. لم ترد مانيا
للمعاناة أن تنسيها ما حولها من جمال ولو مؤقت ومن سعادة ولو عابرة. لقد
وجدت في الفن الروح، وفي السينما طريقها نحو الحياة.
مانيا أكبري تعمل في مجال الفنون البصرية، الفيديو والصورة
والرسم والسينما. هي حالة خاصة. لا ترغب في الحديث عن نفسها وتقديم
أعمالها. لا تعتبر أدوارها تمثيلاً. لا تريد التفكير في الممنوعات التي
تعيق عملها كفنانة في إيران. لا تحب الحركات النسوية. ولا تحتمل العمل تحت
إدارة أحد. وتنفر من السينما!
ما قدمته في فيلم كياروستامي «عشرة»، وفي فيلمها «عشرة زائد
أربعة»، هو حياتها الحقيقية. فيلمها نقل بالحرف، في أسلوبه الإخراجي، عن
عمل كياروستامي. تصفه هي بوصف أدق «السرقة الأكبر والأكثر جدية في تاريخ
السينما». لكنها سرقة ذات طابع خاص كونها نالت موافقة المسروق منه «عشرة»،
جوهرة لا يمكن لأحد أن يقتنيها سواي وكياروستامي، إنها جزء مهم وحقيقي من
حياتي». حين احتج زوجها الأول والد ابنها قائلاً إنه كان بمقدورها تغيير
الأسماء على الأقل! شرحت له أن ثمة نوعين من الفنانين، نوع يتوارى خلف عمله
الفني والثاني يصرخ أمامه «أنا من النوع الثاني وكياروستامي من النوع
الأول».
فمانيا تعتقد بأن القصة عند تجسيدها على الشاشة لا تعود خاصة
بأحد بل تغدو عملاً فنياً للجميع. في الفيلمين، تدور المشاهد في سيارة
تقودها امرأة شابة (مانيا) ويتوالى العابرون فيها من ابن وأخت أو صديقة أو
مجرد عابرة طريق. ومن هنا تدور الأحاديث وتسرد الحكايات الأليمة والسارة...
فيلمها فاز بجائزة الجمهور في مهرجان نانت، و يعرض في دول أخرى ليس من
ضمنها إيران. فالحصول على الموافقة «صعب منذ سنوات عدة وللجميع». مانيا لا
تريد أن تشغل نفسها بالتفكير في هذا الأمر»أنا مخرجة. حين تستحوزك فكرة ما
وترغب بتحقيقها، لا تفكر بأنك إيراني وبأن ثمة ممنوعات. أنا أعمل مع ابني.
التفكير بتحقيق فيلم مناسب للعرض أمر أرفضه بل وأستنكره. الممنوعات موجودة
في بلاد أخرى أيضاً ولا يشغلني هذا الأمر لأنني أؤمن بأن الأشياء في طريقها
نحو التغيير. في إيران اليوم، تتواجد السينما في البيوت وقد تتم العروض
فيها يوماً ما».
أعمال مانيا لا تعرقلها صعوبة إضافية طرحناها أمامها « إنه لمن
الصعب أن تكون امرأة في إيران. لتحقيق عمل فني هنا، يجب السير بعيداً من
حدودي كامرأة. في البدء، يجب التصالح مع جنسي والقبول به، حينها يمكن
التأقلم مع المشاكل. كوني امرأة لم يسبب لي شخصيا أية مشكلة، فرغبتي
الجارفة في عمل فيلم هي أقوى من أي اعتراض».
لا يمكن لمانيا أن تنسى رد فعل جدتها عندما علمت أن لابنها
ثلاث فتيات! وتعيد ذلك إلى أسباب تاريخية» في الماضي كان العرب يئدون
البنات، الآن ثمة أمور مشابهة. فكم من العائلات لا تشعر بالسعادة لولادة
البنات! هذه ثقافة كانت ولا تزال قائمة والاقتناع أن إنجاب الفتاة أمر جيد،
يحتاج وقتاً طويلاً».
لا تحب مانيا كلمة النسوية سواء تعلقت بالنشاطات أو بالعمل
الفني «هي وهم. ثمة نساء مثقفات يعتقدن بأن إهمال المظهر الخارجي أو جعله
شبيهاً بالرجال، يجعلهن قادرات على الدفاع عن النساء. النسوية لعبة جذابة
في إيران إنما لا تأثير لها علي لحسن الحظ». هذا على رغم أنها في فيلمها
تثير قضية منع المرأة من الغناء بمفردها في إيران ومعاناتها لعدم تحقيق هذا
الحلم».
تقول أكبري: «فيلمي هو بالطبع صوت امرأة. لكن عند مواجهة الموت
وتحديداً السرطان، تغدو المعاناة حقيقية. لا يظهر في الفيلم إن كانت
المغنية تعاني حقاً لأنها لا تغني، أو لأنها لا تفعل شيئاً بحياتها. لم تكن
القضية الرئيسة في عدم السماح للمرأة بالغناء في إيران، بل تبيان أن أية
معاناة أخرى هي باهتة أمام الموت. لذلك كنا نضحك في السيارة، لما كل هذا
الضحك؟! كان الموت هنا فيما اثنتان منا تتناقشان حول موضوع من نوع هل
يمكنني الغناء أم لا! إنه أمر عبثي».
تعتقد مانيا بأن مشاكل المرأة الإيرانية ليست في الغناء أو في
الحجاب إنها أكثر عمقاً. إن مشكلتهن هي في عدم قبولهن في المجتمع كنساء،
بينما لا يعاني الرجال من مسألة القبول تلك!».
عن توجهها نحو الإخراج تسرد «كنت مساعدة مخرج قبل «عشرة»، لم
أكن حقيقة ممثلة في فيلم كياروستامي وفي فيلمي. إنها حياتي التي لعبتها على
الشاشة. لا أبحث عن السينما بل هي التي تبحث عني. ثمة أناس يحبون السينما
لكنها ليست حالي. حين تحيط مشاكل الحياة بنا نبحث عن أدوات مختلفة، العاب
أخرى. في إيطاليا حين كنت أجري العلاج الكيماوي، أردت رؤية معرض للمصور
الكبير هلموت نيوتن، وخلال تجوالي أمام اللوحات أدركت كم أن الفن شيء عظيم
وكم أن وجوده مهم. نسيت أوجاعي خلال أربع ساعات. يضيف الفن شيئا ما إلى
حياتنا، إنه يضيف الروح و السينما إحدى أدواته. لكنني أنفر من سينما
هوليوود والسينما الحالية في إيران. وأقول لزوجي المجبر على مشاهدة أفلام
كثيرة لأنه ناقد سينمائي، إن حق الفن هو حق الاختيار. أنا أختار وأحب تغليف
خياراتي بالجمال. فيلمي هو معاناة مغلفة بالجمال. يجب أن أضيف الآن «إنني
لا أحب «عشرة» ولا فيلمي!».
في الواقع هي لا تريد العودة إلى الماضي فكل شيء أفضل في
زمانه، و من المحزن لمخرج يريد متابعة العمل أن ينظر إلى الوراء، وخصوصاً
لأن أعمالي هي تجربتي الحياتية. حب الماضي أمر محزن، والسينما كالحياة. حين
أرى زوجي الأول أتساءل كيف أحببته وأنا في العشرين؟! لو بقيت على حبه لما
استطعت فعل شيء آخر».
تستنج بجرأة، و لا تتوقف عند هذا فلها أسبابها التي تجعلها
تفضل بصراحة الوقوف وراء العدسة وليس أمامها «لا أحب أن يقودني مخرج آخر،
أو أي إنسان. مع كياروستامي الأمر مختلف فهو مخرج ذكي. لقد عرف أن ليس في
مقدوره أن يديرني، وأدرك أنه لا يجب أن يكون هنا. أعطاني الحرية و فهم أن
عليه أن يلغي دوره كمخرج لهذا الفيلم. وأحياناً تكون مخرجاً بإلغاء دورك
كمخرج. الباقون يريدون أن يعلّموا الآخرين ولهذا لا يمكن أن أكون ممثلة
جيدة معهم، فلا شك في أننا سنتجادل في النهاية ولن ينتهي الفيلم!». نجدها
مناسبة لسؤالها عما تعلمته من العمل مع كياروستامي «لبيكاسو عبارة مهمة
فحين سئل. لماذا لا تعلّم؟ قال هل من الممكن تعليم الخلق؟! كياروستامي خلاق
ليس من الممكن أن نتعلم منه، ولكن من الممكن التفكير بأعماله. المبدع لا
يعلم بل يترك أثراً لدى الآخرين».
جيل نسائي
مانيا أكبري من الجيل السينمائي النسائي الجديد في إيران وهي
ترى انه أكثر تقدماً وله علاقة أوسع مع العالم وللتقنية فضل في هذا
«التصوير الرقمي حل مشاكل كثيرة. وأعتبر التصوير بكاميرا 35 ملم تعذيباً
فالقدماء قضوا وقتًا طويلاً لتعلم استخدامها. الإيرانيون يعشقون المعاناة!
يعتقدون بأنهم إن لم يعانوا لن يكون العمل على المستوى المطلوب! الرقمي
يحقق منفعة أخرى. مثلاً حين لا تعطيني جمهورية إيران الإسلامية الموافقة،
يمكنني تصوير الفيلم وعرضه في أي مكان».
ننتهز الفرصة لمعرفة إن كان عدم عرض فيلمها في إيران يسبب لها
الضيق «لا، لكنني أحب رؤية طابور أمام الدار التي تعرض فيلمي! أحب أن أحضر
والديّ وابني لأريهم هذا المشهد. آخر من يصدقك هو أهلك وآخر من يقتنع بك هو
بلدك! لقد رأيت هذه الطوابير في أميركا وكندا. كنت أعمل في مجال الفنون منذ
خمس عشرة سنة ولم يكن أهلي يسألون عن عملي «إنها تقوم برسم أشياء لا
نفهمها» هكذا كانوا يقولون، وحين نشرت أول صورة لي في جريدة إيرانية ورآها
والدي، اسر لأمي «يبدو أنها مهمة»! لقد اقتنع أخيراً!
تزفر مانيا بارتياح، لكن برزت مشكلة أخرى فوالدها يداعبها
محرضاً «طالما أن صورتك قد نشرت فأنت فنانة مشهورة، وتلك تكسب كثيراً فلمَ
لا يحصل هذا معك!». في كل المهرجانات التي تحضرها تجمع مانيا بحماسة كل ما
يكتب عنها لتريه لأبيها، لكن يبدو أن هذا «لا يكفيه» كما تعلق مبتسمة.
الحياة اللندنية في 15
فبراير 2008
|