1
في مثل هذه الأيام، قبل خمسين عامًا، كان العملُ جاريًا بدأبٍ
وهمّة في ستوديو القاهرة إستعدادًا لأخراج فيلم "دعاء الكروان"، عن قصة
طويلة لطه حسين؛ عميد الأدب العربي. إتسمَ هذا العمل، العظيم، في إرتباطه
بأسماء ثلاثة من مبدعي الكلمة والصورة. ففضلاً عن الكاتب، الموسوم، لدينا
كلّ من هنري بركات ؛ شيخ المخرجين المصريين، وفاتن حمامة ؛ سيّدة الشاشة.
والقصة هذه، ذيّلها كاتبها بتاريخ 1934، وكان قد لمّح في أكثر من مقابلة
بأنها مستقاة من حكاية حقيقية، جرت فصولها في مسقط رأسه بالذات ؛ بإحدى قرى
الصعيد. إنها حكاية ثأر، تتأثل العادة المرتبطة بتقاليد تلك المنطقة ؛ وهيَ
قبل كل شيء، حكاية عن جريمة شرف. وكاتبنا هنا، في قصته، غلّب السردَ على
الحوار، بما أنه جعلَ البطلة، " آمنة "، تروي الواقعة بضمير المتكلم. ويمكن
لنا، على رأيٍ ٍ شخصيّ، تصنيف هذه القصة في مراتب الأسلوب الواقعي الوجودي،
ليسَ فقط لما نعلمه عن تأثر طه حسين بمعلمه أندريه جيد، بل وخاصة ً لما
تطرحه الحكاية من مشكلة " التغريب "، العصيّة الإشكالات : إنّ الأمّ " زهرة
"، المبتلية بزوج مستهتر، سيكون عليها بعيد موته أن ترحلَ عن قريتها،
مُجبرة ً، والتشرّد من ثمّ مع إبنتيها المراهقتين في الطريق إلى المدينة
الصغيرة ؛ مركز المديرية. هذا الإنتقال، المفاجيء، من نمط الحياة الريفيّ،
شبه البدويّ، إلى نقيضه المدينيّ، كان بمثابة بؤرة الحدث. وبما أنّ الأمّ
قد فقدت برحيلها الأرضَ ؛ مصدرَ عملها ورزقها، فلا خيار أمامها هنا، في
المدينة، إلا التغاضي عن صرامة التقاليد، والقبول بجعل كبرى بنتيها، "
هنادي "، خادمة لدى أحد المهندسين، المتنفذين. أما عقدة القصة، فتمثلت في
إنتهاك " الباشمهندس " لعرض خادمته، وما كان من سعي شقيقتها للإنتقام
لدمها، المباح، إثرَ مقتلها على يد الخال، الظالم ؛ هذه التي تقسم على
الثأر في الفجر التالي للجريمة، والمتناهي فيها تغريدُ طائر الكروان. هيَ
قصة، ما فتأتْ معاصرة اليوم ونعايشُ وقائعَ مشابهة لها، لا في مجتمعاتنا
المشرقية وحسب، وإنما أيضًا في تجمعات المهاجرين في قلب أوروبا: هذه
المرتبطة فيها " جرائم الشرف " بقوم معيّن، بشكل خاص، من يتحدر معظم
أبنائه، المغتربين، من أقاليم تسودها ذات التقاليد، شديدة المحافظة،
المشابهة لما أوردناه آنفًا بشأن منطقة الصعيد، في موطن النيل.
2
قلنا أنّ السردَ في "دعاء الكروان" إختار طريقة ضمير المتكلم.
وبما أنّ بنية الفيلم تعتمد بشكل أساس على الحوار، فما كان من المخرج، هنري
بركات، إلا العهد بالقصة للسيناريست المعروف، يوسف جوهر، لكي يتمّ إعدادها
سينمائيًا. ولكنّ صوتَ الراوي، في الفيلم، بقيَ يتناهى إلينا بين كل فينة
واخرى، من خلال "آمنة" التي دأبتْ على بثّ شجونها ومعاناتها عبرَ مونولوج
شجيّ. وحِرَفيّة المخرج بركات، الأصيلة، أوحتْ له الإشتراك في كتابة
السيناريو والقيام من ثمّ ببعض التعديلات على القصة، الأصليّة، كيما تكون
متوافقة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، مع شرط إنتاجها سينمائيًا. ويمكن لنا،
خصوصًا، معاينة جهد كلّ من كاتبَيْ السيناريو في نهاية الفيلم، المعدلة،
حينما تمّ تقديمها بشكل حتم فيه على " الباشمهندس " الموت برصاص الخال،
إفتداءً لحياة الحبيبة " هنادي ". هذا المشهد، الختاميّ، كان صالحًا تمامًا
لفيلم ذي رؤية رومانسيّة، ومتجاوبًا كذلك مع عواطف جمهور هذا النوع من
الأفلام. بيْدَ أنّ ما غاب عن ذهن السيناريست والمخرج سواءً بسواء، أنّ
النهاية هذه، المقترحة، قد أضرتْ بهدف العمل الروائيّ ؛ وهوَ تشديدُ مؤلفه
على إدانة فكرة الثأر، المترسّخة في بلادنا، عمومًا، من خلال التأكيد على
قدرة الإنسان على التسامح، حتى في أقصى حالات التظلم والغبن والإضطهاد.
ولكن، من جهة اخرى، فالعمل العبقريّ هذا لطه حسين، ربما ما كان قد حظيَ
بتلك الشعبيّة، المطلوبة، لولا إنتاجها سينمائيًا. وهذا نجيب محفوظ، الأديب
الكبير، يقول في إحدى مقابلاته الصحفية عن دور " آمنة "، المؤدى من لدن
فاتن حمامة : " كان شيئًا رهيبًا ورائعًا". ويجوز لنا هنا الإفتراضَ، بأنّ
تأثر حامل "نوبل" العربيّ بقصة هذا الفيلم وأجوائه، الملحمية، كما بدور
بطلته، إنما كان من واردات شخصيّة "ريري"، في رواية " السمّان والخريف " ؛
الفتاة المومس، التي جعلها بطل الرواية، " عيسى "، خادمة وعشيقة في آن، حتى
إذا حملتْ منه قامَ بطردها إلى الشارع على الفور. وكذلك الأمر، في قصة "
قاع المدينة " للأديب يوسف أدريس، المقدّمة شخصيّة المرأة التي يُجبرها
زوجها، العاطل عن العمل، أن تخدم في منزل أحد القضاة، فتضحي إثرئذٍ ضحية ً
لنزواته الجنسية وعقدته النفسية. من ناحية اخرى، وبما أننا في حدود القول
السينمائيّ، فيجدر التنويه بأنّ حسام الدين مصطفى، مخرج كل من القصّتين
هاتين، كان قد تعامل مع النص، هنا وهناك، بمفهوم السينما التجارية، مما
أفقده روحه وهدفه. فكان إهتمام المخرج محصوراً بالتفاصيل الثانوية للحكاية،
وتركيز الكاميرا على مشاهد العري الأنثويّ كما على جوانب من العلاقة
الجسدية بين البطلين. هذا وعلى الرغم من الأداء المميّز، الرائع، في كلا
الفيلمين، للبطلة ؛ الممثلة القديرة نادية لطفي، والتي نالت عن أحدهما (
قاع المدينة ) جائزة التقدير الذهبي، المغربية، عام 1968.
3
وبطلة فيلم " دعاء الكروان "، فاتن حمامة، هيَ بطبيعة الحال،
غنيّة عن التعريف. إنّ نجاح الفيلم، الداوي، والعائد تحديدًا لأدائها
المذهل، المُعجز، قد واشجَ إسمها بإسم مخرجه هنري بركات ( 1912 ـ 1997 ).
فشكلا معاً، لاحقاً، ثنائياً فنياً، أسهمَ في العديد من الأفلام الجيّدة،
الإجتماعية المواضيع، في العقدين الممتدين بين الستينات والثمانينات ؛ مثل
" الباب المفتوح "، " الحرام "، " الخيط الرفيع "، " لا عزاء للسيدات "، و
" ليلة القبض على فاطمة ". لا غروَ إذًا أن يُصَنف " دعاء الكروان "، في
إستفتاء صحفيّ، محليّ، كواحد من أفضل عشرة أفلام مصرية. فضلاً عن ترشيح
الفيلم لجائزة " الأوسكار "، ضمن خمسة أعمال أجنبية، ثمّ تمثيله بلده في
مهرجان برلين السينمائي. حين البدء بتصوير " دعاء الكروان "، كانت فاتن
حمامة في أواسط العشرينات من عمرها. على أنّ براءة وطفوليّة ملامحها، علاوة
على عفوية حركاتها، قد أهلها لدور " آمنة " ؛ البنت المراهقة، الأمية، ومن
كانت في مستهل الحكاية ذات حضور غير ملفت. حتى إذا وقعت الحادثة المأساة،
المودية ظلمًا بحياة شقيقتها الكبرى، "هنادي" ( الممثلة زهرة العلا )،
قرباناً للتقاليد البدوية، فإنّ بطلتنا ما أسرعَ أن حسرتْ اللثام عن
شخصيتها القوية، العنيدة، الساعية للإنتقام والثأر. مشاهد الفيلم،
والمُرافقة بموسيقا مؤثرة، ملحمية، من وضع أندريه رايدر ؛ هذه المشاهد،
كانت من القوّة في التعبير أنها تصدم مشاعر المتفرج. كما في تلك الحركة،
المفاجئة، التي يغدر فيها الخال بإبنة أخته. وما تبعها من هروب " آمنة "،
ومرورها بذات البقعة الصحراوية، الشاهدة على الجريمة، وما كان من دوران
الكاميرا بأشجار النخيل، العملاقة، حول بطلتنا المنهارة، والمُتبدّية
لبصرها كأشباح أولئك الظالمين، من مجتمعها الذكوري. ثمّ واتتها الفرصة
للإنتقام من " الباشمهندس " ( النجم أحمد مظهر )، الباعث لمأساة أسرتها،
حينما تخدم لدى عائلة ميسورة في المدينة. إذ يتقدّم الرجل لخطبة إبنة
العائلة، ولا تلبث هذه أن تواجهه بالرفض، بعدما تكشف لها " آمنة " دوره في
مقتل شقيقتها. وكان مما له مغزاه هنا، أنّ البطلة حينما توجهت لاحقاً للعمل
كخادمة لدى " الباشمهندس "، فإنها كانت قد نالت قسطاً معقولاً من التعليم
على يد إبنة العائلة تلك. هذه الحقيقة، تفسّر لنا إحجامها، المرة تلو
الاخرى، عن إيقاع العقاب العادل بمخدومها، ما دامت أضحتْ أكثرَ وعياً لقيمة
حياة الإنسان ؛ وهيَ الحياة غير ذات القيمة بحسب التقاليد المتعسفة لريفها،
شبه البدويّ، التي تربّت عليها. على أنّ جزاءَ " الباشمهندس " لم يتأخر، في
واقع الحال ؛ هوَ من كان قد توله بحبّ " آمنة "، ثمّ ما عتمَ أن علمَ منها
الحقيقة وأنّ " هنادي "، التي هتكَ عذريتها، كانت أختها. ويمكن القول، أنّ
ثنائية القرية / المدينة، شكلتْ أساس ثيمة " المكان "، المرهونة لها مصائر
الأسرة المشرّدة. فالمرأة الريفية " زهرة " ( الفنانة أمينة رزق )، تحاول
إنقاذ بنتيها من الوقوع في شرك الإغراءات المدينية. ولكنها لا تلبث أن تقف
عاجزة، سلبية، أمام مأساة " هنادي "، ومن ثمّ فرار شقيقتها وعودتها للمدينة
طلباً للثأر. وعلى ذلك، فثمة قطبا الخير والشرّ يتمثلان الثنائية تلك :
الريف ؛ بنموذجَيْ الأب المستهتر والخال الظالم ( الذكورة ) / الأمّ
المتفانية وإبنتيها المسكينتين ( الأنوثة ) = المدينة ؛ بنموذج المهندس،
المتهتك ( الذكورة ) / إبنة العائلة، الطيبة والمثقفة ( الأنوثة ). وخاتمة
الفيلم، بدورها، تقدّم لنا مفارقة بيّنة، مماثلة لبدايته : " هنادي "
المغتصَبة، تقتل في بداية الحدث بيد الخال / " الباشمهندس " المغتصِب، ينجو
من العقاب ويتابع سيرته المستهترة = " آمنة " المُستهدفة من لدن خالها تنجو
في نهاية الحدث وتتابع مسيرة حياتها كإنسانة حرة / المهندس المحبّ يكفر عن
خطيئته بحق الشقيقة الراحلة، حينما إفتدى " آمنة " بحياته ووقع صريعاً
برصاص الخال المنتقم.
Dilor7@hotmail.com
موقع "إيلاف" في 7
فبراير 2008
|