ليست شخصية "ابو عمار"، والتي قدمها فيلم محمود المسعد "إعادة
خلق"، من الشخصيات اللطيفة، أو على الأقل ليست محببة للكثيرين، أبو عمار
نفسه لم يسع كثيرا لنيل رضا من يشاهده. ليس هذا نقدا للرجل، بل شهادة على
صدق وتلقائية حرص عليهما. لم يتبرج لكاميرا المخرج محمود مسعد التي رافقته
لأشهر طويلة، لم يضع وجها تفرضه الظروف الأمنية، والتي تحيط بالرجل ذي
التاريخ "الجهادي" في أفغانستان. كان سيسهل المهمة علينا جميعا،لو اتخذ
مسارا من مسارين، إما التشبث بأفكار الماضي وجهاده، او التبرؤ منه. هو
اختار أن يتوسط الاتجاهين، أن يتيهنا في متاهته، متاهة الما بين بين..
لا يبدو أن محمود المسعد، المخرج الفلسطيني الأصل، الأردني
المنشأ، الهولندي الإقامة، قد خطط لفيلمه هذا الاتجاه، وهذا التصاعد.
المخرج الذي ذهب الى مدينة الزرقاء ليعدّ فيلما عن الارهاربي الأردني "ابو
مصعب الزرقاوي"، والذي كان مهيمنا على الاخبار في كل العالم، ابتعد سريعا
عن معالجة مكررة، عن المكان الذي شهد ولادة الزرقاوي ونشأته في تلك المدينة
الاردنية المحافظة.
أرجح أن المخرج اكتشف سريعا أن كاميرات التلفزيونات قد سبقته
هناك، وأصبح من الصعب إعداد مادة ذات قيمة فنية سينمائية مع كل ذلك الضجيج
الإعلامي. في أحد المشاهد المبكرة للفيلم، يبادر أحد الرجال الى تنبيه
كاميرا المخرج، الى الأمكنة التي صورت فيها محطة الجزيرة الفضائية قبل
ايام!!.
المخرج لم يترك قصة الزرقاوي وتداعياتها النفسية والفكرية على
الناس والمدينة، لكنه جعلها تتراجع كثيرا الى خلفية المشهد، فبدت مثل غيمة
ثقيلة فوق رؤوس الجميع،ولتتحول احيانا الى معضلة أخلاقية، صعبت المواجهة
للكثيرين هناك.
الفيلم قدم بعض الشهادات المرتبكة من ناس تعيش في الحي نفسه
الذي كان يعيش فيه الزرقاوي عن زعيم القاعدة في العراق، شهادات امتنعت عن
إدانته، ولم يتحدها المخرج او يجادل في ثوابتها. شهادات لم تضف شيئا
للفيلم.
قصة ابو عمار التي استاثرت على الفيلم، منحته ديناميكة مختلفه
شديدة الإثارة، يندر أن تتقرب الأفلام التسجيلية العربية الى عوالم
شخصياتها، بالشدة التي اقترب منها فيلم "إعادة خلق".يعجز الكثير من
المخرجين العرب عن تطوير العلاقة العادية بين المخرج والموضوع، الى مستوى
يتجاوز الحوار المتبادل.ويتعداه الى فهم كبير لشخصياته، والظروف التي تحيط
بهذه الشخصيات، وتوجه خياراتها.
تحافظ كاميرا محمود المسعد على مسافة نموذجية من "ابو عمار"،
لا تقترب منه كثيرا، ولا تبدو متعالية البعد عنه، المسافة الملائمة كثيرا،
لتسجيل يوميات الرجل، وحياته التي بدأت أنها تنتظر شيئا ما، شيئا غير العمل
والرزق الذي كان صعبا.شيء مثل انفجار معين يرتب الامور او ينسفها، في حياة
العائد من تجربة القتال في افغانستان، الى حياة في الزرقاء الاردنية.
انشغال "ابو عمار" في تدبير المال لعائلته الكبيرة وزوجتيه الاثنتين، بدا
تاجيلا للسؤال الحاسم، عن الحياة بعد أفغانستان، الحياة بعيدا من السلاح او
الخيارات العنيفة.
ابو عمار الذي لم يحسم أمره، يضعنا نحن في مأزق أخلاقي، بسبب
عدم قدرتنا على إطلاق أحكام نهائية على الرجل، ابو عمار ليس المقاتل السابق
في أفغانستان فقط، هو ايضا الرجل المتألم بشدة بسبب خلاف مع والده، لم يشأ
أن يتحدث بالتفصيل عنه. ابو عمار ليس فقط الرجل الذي "يبشر بالجهاد" في
العراق، هو الأب والعامل المتواضع في أعمال بسيطة.
ابو عمار ليس بطلا، هو مشوش مثل الملايين في المنطقة، العاجزين
عن مواجهة الذات ومواجهة أسئلة الحداثة والدين، مواجهة يبدو أنهم ينجحون في
التملص منها كلما حانت ساعتها. في واحد من مشاهد الفيلم، يظهر ابو عمار
واصدقاؤه وهم يبحثون مسألة حرمة العيش للمسلم في الدول الأوروبية او
اميركيا، في مشهد آخر يجلس ابو عمار في غرفة انتظار في مستشفى مسيحي، وصورة
لمريم العذراء تتوسط الجدار !
وحتى عندما حصلت الانفجارات الإرهابية في قلب العاصمة الأردنية
عمان، وقتلت العشرات من الأردنيين وغيرهم، لم يدفع هذا الحادث شخصيات
الفيلم او شخصيته الرئيسة الى مواقف حازمة من الفكر الذي يقف وراء هذا
العنف، او إشارات على البدء في محاسبته.
ابو عمار يحتجز مع مجموعة من المشتبهين لفترة خمسة اشهر، قبل
ان تطلق الحكومة الأردنية سراحه لعدم وجود أي أدلة تثبت تعاونه مع تنظيم
القاعدة، الذي أعلن مسؤليته عن تفجيرات فنادق الأردن.
لا يطول مكوث ابو عمار في الاردن بعد خروجه من السجن، الرجل
يفاجئ الجميع، برغبة في الهجرة الى واحدة من الدول الغربية، في أحد المشاهد
اللاحقة، يساعد أحد اصدقائه في تعبئة الأوراق اللازمة للهجرة. الصديق نفسه
الذي كان يشارك ابو عمار الرأي بحرمة الهجرة الى الدول الغربية الكافرة!!
المشاهد الرائعة والشديدة التأثير التي قدمها محمود مسعد، تجعل
فيلمه هذا، واحدا من أهم الأفلام التسجيلية العربية على الإطلاق، تقريبا كل
مشهد هو صورة متجددة غير مألوفة لمدينة الزرقاء العادية. في المشهد الاول،
يصور المخرج، أحد الممرات الضيقة في سوق المدينة ومجموعة المحلات هناك،
عادية المشهد تتحول الى شيء باهر، عندما تتحرك الكاميرا ليضم كادرها، اجهزة
التلفزيونات المستعملة وحركة الناس في الشارع الرئيس. مشاهد وجه ابو عمار
المقربة كانت عالية التنفيذ، الوجه الذي لا يمكن الاحاطة بالكامل بتقلباته
او مشاعره. أبو عمار في محل القهوة المهجور وهو يسهر للاشتغال على كتابه
الديني، الذي ينوي كتابته.هناك مشاهد نفذت بطريقة مبتكرة، مشهد الجامع،
والمصلين خارجه، والذين لم تستوعبهم مساحته، المشهد صور من ارتفاع ما يقارب
الخمسة امتار، ليضم مع المصلين، بسطات الباعة المتجولين وهم يستعدون لبيع
بضاعتهم على المصلين عند انتهاء صلاتهم.
تغيب النساء عن الفيلم، والحياة العلنية للمدينة، تظهر الزوجة
الثانية لابو عمار في مشهد واحد وهي مغطية بالكامل بالحجاب،عندما تذهب مع
زوجها الى إحدى العيادات النسائية المسيحية من اجل مشكلة تأخر الإنجاب.هناك
ايضا الفتيات الصغيرات اللواتي كنّ يحملن أكواب الشاي والقهوة للضيوف ،
والذين ظهرن في أكثر من مشهد قبل أن يدخلهن الى الجهة الأخرى من المنزل حيث
تختفي اثارهن واصواتهن.
نهاية الفيلم (الذي بيعت كل بطاقات عروضه في مهرجان روتردام
الدولي السابع والثلاثين، الذي يعقد الآن) غير المتوقعة، تدفع الى المزيد
من التشتت، وتزيد صعوبة الحكم على شخصيته الرئيسة.الأمر كله تأجل الى
مناسبة أخرى، وهو ربما يدفع المخرج المبدع الى تتبع حياة المجاهد السابق
الى حياته الجديدة، من أجل أجوبة، من شخصية، ترفض السكون او الاستسلام الى
حياة ثابتة، هذه الحركة لا يمكن الا ان تكون شيئا ايجابيا وربما ستصل
بالنهاية الى نهاية الطريق او أجوبة تبدو مهمة ، بأهمية النموذج الذي تمثله
الشخصية.
cinema@elaph.com
موقع "إيلاف" في 2
فبراير 2008
|