من الذي يمكنه، خلال أسبوع واحد ان يجمع بين ياسر عرفات وفيديل
كاسترو والمهدي بن بركة والمهاتما غاندي؟ ربما كُتب التاريخ. وكذلك
بالتأكيد التلفزة الفرنسية التي تقدم، على قنوات فيها متعددة، عدداً لا بأس
به من الأعمال عن هؤلاء القادة والزعماء الكبار الذين شغلوا عقوداً من
القرن العشرين، ولا ريب انهم سيظلون يشغلون عقوداً أخرى من القرن الجديد.
بعضهم عبر ذكراه... وواحد (كاسترو) عبر حضوره المتواصل. وإذا كانت القنوات
الفرنسية تقدم أعمالاً عن هؤلاء الزعماء، فإنها لا يفوتها ان كل واحد منهم
كان إشكالياً، مثيراً للسجال على طريقته: إما بحياته وما فعل – ويفعل –
خلال تلك الحياة، وإما بموته الذي – الى الحزن الذي أثاره وسيثيره حين يحدث
– يطرح ألف علامة استفهام وعلامة. ومن هنا سيلاحظ المتفرجون كيف ان كل عمل
من الأعمال المقدمة، يطلع على شكل تحقيق جنائي، يحاول – من خلال إعادة
الاعتبار الى الزعيم وحياته ونضاله – ان يطرح أسئلة شائكة ولا سيما حول
علاقة كل واحد منهم، من ناحية، بالقوة القمعية و «الإمبريالية» التي
حاربته، ومن ناحية ثانية بقوى التطرف المشبوهة في بلده. ولعل في إمكاننا ان
نقول ان هذا الجانب يلتقي تماماً مع ما يلاحظ من إقبال جماهيري على مسلسلات
التحري والاستقصاء، في التلفزة الفرنسية وغيرها، ما يشي، ربما، بعودة ما
الى عقلانية معينة في عالم مجنون يبدو منذ عقدين على الأقل وكأن جنوناً ما
ورائياً يهيمن عليه ويتحكم في توجهات ناسه.
ومن الواضح ان هذا ينطبق بخاصة، على الفيلم الذي يقدم اليوم
على شاشة «فرنسا 5» ليعاد تقديمه غير مرة في الأيام المقبلة وعنوانه: «آخر
أيام ايقونة». وهذه الأيقونة التي يحكي عنها الفيلم ليست سوى الزعيم العربي
والفلسطيني الكبير الراحل ياسر عرفات. والفيلم الذي يعرض للمرة الأولى إذ
حقق سنة 2007، هو من اخراج وإنتاج فرنسيين. ويبدو لنا هذا، أمراً طبيعياً،
ليس فقط لأن عرفات لفظ آخر أنفاسه في فرنسا، بل لأن فرنسا، منذ ميتران
وصولاً الى جاك شيراك، لعبت أدواراً كبيرة في دعم عرفات ومساندته ومساندة
قضيته، بحيث ثمة دائماً ما يمكننا ان نسميه «فرنسا الفلسطينية» أو «فلسطين
الفرنسية» التي مثلها أبو عمار، على الأقل خلال ربع القرن الأخير من حياته،
أي منذ جاءت السفن الفرنسية سنة 1982، لتهرّب «الختيار»، من طرابلس في
لبنان إبعاداً له من أذى ذوي القربى.
مَن قتله؟
الفيلم أخرجه ايمانويل فرانسوا سابي، الذي يعلن منذ البداية
انه لن يكون محايداً في هذا الفيلم، بل يشتغل عليه كمرافعة اتهامية (من دون
أن يحدد تماماً وجهة أصابعه المتهمة) دفاعاً عن ايام عرفات الأخيرة. وهذه
الأيام يصل عددها، اصلاً الى ثلاث سنوات هي التي عاشها عرفات ختاماً
لحياته، حيناً تحت حصار اسرائيلي «زركه» في «المقاطعة» ساعياً بأي حال الى
التخلص منه، للتخلص من قضية فلسطين عبر تسليمها الى المتطرفين في الجانبين
ينزلون فيها تهشيماً، وحيناً في مستشفاه الفرنسي يحتضر فيه. والمخرج إذ ربط
بين ما حدث في الحين الأول والحين الثاني، حاول ان يجيب عن سؤال شغل منذ
رحيل عرفات (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004) أذهاناً وأفئدة كثيرة: لماذا
مات عرفات. في الفيلم يطرح سابي كل الاحتمالات التي تم تداولها: مات مرضاً،
تعباً، قرفاً، بداء عضال، بإهمال طبي تحت الحصار أو مات مسموماً؟ واللافت
هنا ان الفيلم يرجح الجواب الأخير: بالنسبة إليه لا يمكن القول ان عرفات
مات صدفة أو بداعي المرض. لقد مات مسموماً في لحظة كانت قوى كثيرة، اجنبية
وإسرائيلية ولكن عربية فلسطينية ايضاً، ترى انه بات من الضروري التخلص منه.
غير ان المخرج، في هذا الإطار بالذات يحاول ان ينحو بموضوعه نواحي اكثر
إشكالية بكثير، حيث انه في معرض التحليل السياسي لـ «ما بعد عرفات» لا
يفوته ان يصور كيف ان «إنهاء عرفات» إنما تم لمصلحة محمود عباس. صحيح ان
ليس في هذا التأكيد اتهام مباشر، خصوصاً ان نوع الشهادات التي يستند إليها
الفيلم (ليلى شهيد وتيسير التميمي بين آخرين) لا تسمح أبداً بمثل هذه
الفرضية، لكنه في الوقت نفسه يحاول ان يوحي بأن «من قتل عرفات ليحل مكانه
أبو مازن، كان يتصور ان هذا الأخير سيكون من الضعف بحيث تنهار السلطة
الفلسطينية وبالتالي القضية الفلسطينية على يديه».
كل هذا يجعل من الفيلم عملاً لافتاً ودافعاً الى شتى أنواع
التحليل السياسي. غير ان هذا لن يقول لنا ان اللحظات الوجدانية غير حاضرة:
حسبنا هنا – وبالاستناد الى كثر من المراقبين الفرنسيين الذين لفتهم الفيلم
حقاً – ان نؤشر خصوصاً، الى مداخلة تيسير التميمي في الفيلم، حيث وصف، بلغة
مؤثرة، ايام عرفات الأخيرة وكيف انه هو من نثر تربة جيء بها من فناء
الأقصى، فوق جسد الزعيم الراحل.
* يعرض
اليوم في الساعة 12.55 بتوقيت غرينتش
الحياة اللندنية في 2
فبراير 2008
|