حتى الآن، وعلى رغم أنه حقق من الأفلام خلال ما لا يقل عن
ثلاثة عقود، ما جعله إمبراطور السينما غير المتوج، والسيد الأسمى لشباك
التذاكر، لا يزال كثر من النقاد يعتبرون فيلم سبيلبرغ الطويل الروائي الأول
«مبارزة» واحداً من أقوى أفلامه. ربما يكون هذا صحيحاً... وهو أمر أكده عرض
راهن للفيلم من على شاشات التلفزة. لكن ما ينبغي التذكير به دائماً هو أن
«مبارزة»، وعلى عكس بقية أفلام سبيلبرغ الكبرى، حقق كفيلم تلفزيوني لا
كفيلم سينمائي. وهو إذا كان عرض سينمائياً على شاشات عالمية وأوروبية
كثيرة. بعد عروضه التلفزيونية الأميركية الأولى، وبعد ثلاث أو أربع سنوات
من إنتاجه، فإنه لم يعرض على الشاشات الأميركية – في الصالات نعني – سوى
بدءاً من العام 1983، وبعدما كان قد حول تقنياً وأعاد صاحبه الاشتغال عليه.
ذلك أن سبيلبرغ كان في ذلك العام قد أصبح سينمائياً كبيراً، وكانت سمعة
«مبارزة» قد عمّت الأوساط السينمائية الأميركية بصفته فيلماً استقبل في
العالم كله كتحفة سينمائية.
إذاً، ملك الشاشة الكبيرة، كانت انطلاقته الأولى تلفزيونية،
مثل كثر من أبناء جيله. وهو ظل على علاقة جيدة مع التلفزة خلال العقود
اللاحقة، ولكن كمنتج، لا كمخرج. سبيلبرغ المخرج بقي وفياً للسينما ولا
يزال. من هنا يعتبر التحول الذي طرأ على مساره منذ «مبارزة» نقطة تحول
أساسية، ليس في مساره الخاص فقط، ولكن في مسار الفن السينمائي الأميركي
ككل. ولكن لماذا نتحدث هنا عن «نقطة تحول»؟ ببساطة لأن سبيلبرغ خلال
المرحلة الأولى من حياته الفنية كان مخرجاً تلفزيونياً... وهذا أمر قد يصعب
تصديقه اليوم على الذين يتابعون مساره ويحللون اللغة السينمائية في أفلامه.
بل يرون أحياناً كثيرة أن مساهمته الأساسية قد تكمن في كونه فتح الطريق
أمام فن السينما، بإضافة مسحة استعراضية عليه، أبعدته عن انحصارية العمل
التلفزيوني، عبر استخدام مواضيع وضخامة إنتاجية ولغة سينمائية لا يمكن
للتلفزة ان تضاهيها، في سبيل أن يبقى للفن السينمائي نكهته وحضوره.
القوي
والضعيف
ومع هذا كله، مرة أخرى لا بد من الإشارة الى أن بدايات سبيلبرغ
كانت تلفزيونية. وكانت ناجحة جداً، حتى وأن يظل من الضروري أن معظم تلك
الأعمال لم يكن مستقلاً. بل ان الاستقلال الحقيقي لم يصل الى أوجه إلا مع
«مبارزة» (1971) الذي سيتبعه في العام التالي «شيء ما... شرير» الذي حقق
لمحطة «سي بي إس». وبهذا الفيلم ختم سبيلبرغ مساره التلفزيوني كمبدع. وهو
على أي حال مسار احتل أربع سنوات فقط من عمر الرجل. فسبيلبرغ الذي كان حقق
وهو بعد في العشرينات من عمره خمسة أو ستة شرائط قصيرة يغلب عليها طابع
الهواية، كان لفت الأنظار سنة 1969 بفيلم «آمبلن» الذي حققه سينمائياً، ما
جعله ينتقل في العام نفسه للعمل في برامج تلفزيونية ومسلسلات من إنتاج بعض
أهم القنوات الأميركية. وكانت التجربة البكر هنا الحلقة الثانية من مسلسل
«رواق ليلي»، تالياً للمخضرم بوريس سيغال الذي حقق الحلقة الأولى.
وبعد ذلك حقق تباعاً: فيلم «ماركوس ويلبي» (1970) الذي بثته
قناة «اي بي إس» وكان فاتحة شهرته الأساسية كمبدع في مجال العمل
التلفزيوني. ومن بعده توالت الأعمال: أخرج حلقة من مسلسل «رواق الليل»
بعنوان «اجعلني أضحك»، ثم حلقة من مسلسل «ال أي – 2017» بعنوان «اسم
اللعبة»، ثم حلقتين من مسلسل «المحلل النفسي»، ثم حلقة مبكرة من مسلسل
«كولومبو» الشهير عنوانها «جريمة من طريق الكتاب»، إضافة الى بضعة أعمال
أخرى. وهذه الأعمال جميعها حققها سبيلبرغ خلال شهور قليلة. وهو سيقول
لاحقاً إن ذلك العمل التلفزيوني المكثف والمتسارع كان هو مدرسته أو جامعته
السينمائية الحقيقية. «ففي التلفزة، قال سبيلبرغ، يمكنك أن تفهم عامل الوقت
في شكل أفضل ويمكنك أن تفهم أن المال ليس متوافراً من دون حدود».
ويضيف سبيلبرغ انه إذا كان قد فهم هاتين المسألتين الأساسيتين،
من خلال عمله التلفزيوني الذي كان يقبل عليه بكل حب، مدركاً أنه طريقه
الأساسي الى الشاشة الكبيرة فإنه ومنذ البداية وظف في العمل التلفزيوني كل
الأساليب التي كان قد تعلمها من خلال ولعه المبكر بالسينما.
والحال أن مراجعة، اليوم، للأعمال التي حققها سبيلبرغ للتلفزة...
ستضعنا حقاً إن لم يكن أمام لغة سينمائية خالصة، فعلى الأقل أمام مزيج
خلاّق من لغة السينما ومتطلبات التلفزة. وهو أمر، أوصله سبيلبرغ الى ذروته
في «مبارزة»، ذلك العمل الصغير – الكبير، الذي قام ببطولته شخص واحد
وسيارته، وشاحنة تطارده طوال الطريق من دون سبب ظاهر وتريد القضاء عليه
مستغلة حجم سيارته الصغيرة.
وهذه المطاردة هي التي تملأ الفيلم حتى المشهد الأخير الذي يرينا فيه
سبيلبرغ، كما سيفعل في معظم أفلامه الكبيرة المقبلة، كيف يمكن للضعيف أن
يتغلب على القوي.
الحلقة
المقبلة: في مملكة لارس فون تراير
الحياة اللندنية في 19
ديسمبر 2007
تجارب
تلفزيونية خاضها كبار من أهل الفن السابع (3)...
فاسبندر: 15 ساعة مدهشة من أسرع مخرج أوروبي
إبراهيم
العريس
فجأة ومن دون مقدمات، عادت الحياة خلال الأشهر القليلة الماضية
الى واحد من أكبر وأهم الأعمال التلفزيونية الأوروبية التي حُققت خلال
الربع الأخير من القرن العشرين. لعل الفضل في ذلك للمنطق التجاري. ولعل
استعادة ذكرى صاحب العمل هي ما أملى عودته. ولعل الأسباب غير هذا وذاك. لكن
المهم أن مسلسل «برلين الكساندر بلاتز» عاد على شكل اسطوانات مدمجة... كما
عرض في الصالات ليستعيد ذكرى هذا العمل الذي حققه للتلفزة مخرج ما كان أحد
ليتصور أن من شأنه ان يخوض مثل هذه التجربة.
المخرج هو الألماني راينر فرنر فاسبندر، الذي رحل عن عالمنا
منتحراً في عام 1982، أي في وقت كان فيه كثر يتوقعون منه، بعد النجاح
الهائل الذي حققه عرض «برلين الكساندر بلاتز» على شاشات تلفزيون بافاريا،
أن يكرر التجربة مع عمل تلفزيوني آخر مأخوذ عن رواية أدبية. وكان ا لهمس قد
جرى بأن فاسبندر سيحقق 14 حلقة جديدة عن رؤية «آل بودنبروك» لمواطنه الكبير
توماس مان. نعرف أن هذا المشروع الأخير لم يتحقق. وأن اهتمام فاسبندر
بالعمل للتلفزيون قد توقف مع تلك الساعات الخمس عشرة (الموزعة على 14 حلقة)
التي يتشكل منها «برلين الكساندر بلاتز».
مهما يكن فإن الذين أدهشهم انكباب فاسبندر على تحقيق ذلك العمل
للتلفزة لم يكونوا محقين في دهشتهم. كانوا، لفرط احتفالهم بسينمائية
فاسبندر، ولفرط حديثهم عن وتيرته السريعة في إخراج أفلامه (كان يخرج
أحياناً خمسة أفلام في السنة الواحدة)، كانوا قد نسوا انه سبق أن حقق
أعمالاً أخرى للتلفزيون مباشرة، أو أعمالاً للسينما من انتاج محطات
تلفزيونية. غير ان «المشكلة» مع فاسبندر كمنت في أن الأمور كانت دائماً
مختلطة لديه. إنه كان، في جملة أحاديثه الاستفزازية يعلن دائماً عن حب
للسينما يستبعد، فرضياً، أي اهتمام بالتلفزة لديه. لكننا اليوم، مع نظرة
تراجعية نرصد مسار فاسبندر، من خلال عمله الرائع «برلين الكساندر بلاتز»
سنتنبه الى أن بعض أعمال فاسبندر الأساسية والكبرى إنما حققت، أصلاً،
للتلفزة. يصدق هذا على «الرحلة الى نيكلاسهاوزن» وعلى «رواد في انغلشتادت»
العملان حققا في 1970). كما على خماسية «8 ساعات لا تصنع نهاراً» الذي حقق
1972. وعلى «نورا هلمر» الذي صوره عام 1973، بالفيديو مباشرة فكان تجربة
رائدة.
في إمكاننا، طبعاً، أن نواصل هذه السلسلة، لنقسم عمل فاسبندر
ككل الى ثلاثة أنواع: أفلام للسينما، أفلام للتلفزة... وأعمال صنعت
للوسيلتين معاً، أو كان يمكن عرضها في الوسيلتين. لكن المهم هنا أن نتوقف
عند العمل الأكبر والأهم «برلين الكساندر بلاتز». فهذا العمل مأخوذ عن
واحدة من أشهر الروايات الألمانية، رواية «برلين الكساندر بلاتز» لألفريد
دوبلن. الرواية تقع أصلاً في قرابة ألف صفحة. وفي البداية أحب فاسبندر أن
يختصر الأحداث لتملأ فيلماً سينمائياً واحداً في ساعتين. لكنه، بعد تفكير
طويل وبعد تردد وإذ كان، في وعيه الباطني، يريد أن يتحدى التلفزة بخوض
تجربة ما كانت مؤهلة أصلاً لاستقبالها (بسبب كآبة الموضوع وحضور تيار الوعي
غير القابل للأقلمة فيه)، ضمن إطار استفزازيته الدائمة... أجرى من
الاتصالات ما مكنه من الحصول على عقد سخي من تلفزة بافاريا، مكنه من أن
يصور ثلاث عشرة حلقة بسرعة قياسية، مضيفاً إليها حلقة رابعة عشرة عنوانها
«ملحق: بصدد حلم فرانز بيبركوبف»...
وبيبركوبف المذكور هنا هو بطل الرواية – ثم المسلسل – الذي
تتحدث الرواية عن مرحلة ما بعد خروجه من سجن كان أودع فيه لأربع سنوات
عقاباً على قتله زوجته. وهو إذ يخرج يفاجئه صخب العالم الخارجي وتنكر
الجميع له. إنه الآن يريد أن يعيش على رغم كل شيء. ويريد أن يبقى نزيهاً من
دون أن يقدم أية تنازلات. لكنه على رغم قيامه بالكثير من المهن الصغرى ومن
محاولاته الدؤوبة، بتشجيع من صديقة بولندية يتعرف اليها، في إحدى الحانات
ويرتبط بها، يجد نفسه، تحت وطأة ضغط المجتمع والظروف وقسوة البشر، مساقاً
الى درب الجريمة من جديد... كما يجد نفسه دمية في يد الآخرين.
هذا هو، في اختصار، منطلق موضوع هذه الرواية وهذا المسلسل.
للوهلة الأولى قد يستغرب القارئ أن يكون هكذا موضوع قد تمكن من أن يملأ 14
حلقة تلفزيونية. وقد يتوقع أن يكون العمل، وقد حول الى هذا المسلسل، بطيئاً
مملاً صعباً. ولكن: أبداً على الإطلاق. بين يدي فاسبندر اتخذ العمل سماته
الحية والحيوية ليصبح، لمن يعرف كيف يشاهده، واحداً من أجمل وأقوى الأعمال
التلفزيونية التي قدمها مخرج سينمائي أوروبي، تعامل مع التلفزة بجدية
تعامله مع السينما... وأدرك باكراً أن الوسيلتين لا بد أن تلتقيا يوماً،
شرط أن يكون الإبداع رائد ذلك اللقاء.
الحلقة
المقبلة: سبيلبرغ بين شاشتين
الحياة اللندنية في 18
ديسمبر 2007
تجارب
تلفزيونية خاضها كبار من أهل الفن السابع (2)...
غودار ... مكابرة في غير مكانها ولغة ما بعد حداثة مدهشة
ابراهيم
العريس
خلال الربع الأول من سبعينات القرن العشرين، حين كان العمل
الفدائي الفلسطيني يعيش ذروة تألقه ويطرح أسئلة كثيرة على كبار المثقفين في
العالم، توجه المخرج الفرنسي جان – لوك غودار الى الأردن وهمّه تحقيق فيلم
(لم يعترف في ذلك الحين انه تلفزيوني) عن النضال الفلسطيني بعنوان «ثورة
حتى النصر». لكن غودار بعد أسابيع من التصوير ولأسباب لا مجال للخوض فيها
هنا، بارح الأردن وتخلى عن الفيلم، ليعود اليه لاحقاً محولاً اياه الى فيلم
عن «الميديا» وعن تأثير التلفزيون بخاصة، على حياة الناس العاديين: صار
الفيلم نوعاً من الحوار بين «العمل الفدائي» المصور، وعائلة تسهر في بيتها
تشاهد ذلك العمل على شاشة التلفزيون. كان غودار يريد من ذلك الفيلم الجديد،
أن يفضح ليس اكاذيب الميديا، بل قصورها واعطاءها نصف الحقائق. ومن الواضح
ان صاحب «بيار والمجنون» و «على آخر رمق» والذي يعتبر، عن خطأ أو عن صواب،
واحداً من كبار مبدعي السينما الأحياء وآخر الكبار الباقين من تيار الموجة
الجديدة الفرنسية، كان يواصل بهذا خوض معركته المدافعة عن فن السينما ضد
حرفية التلفزيون.
في منطقه الخاص وبالتضافر مع تاريخه، كان غودار منسجماً مع نفسه ولكن
نظرياً فقط. وذلك لأن الحقيقة تقول لنا إن العدد الأكبر من الأعمال التي
حققها، منذ أنجز الفيلم الذي نتحدث عنه وعنوانه «هنا وهناك» بديل «ثورة حتى
النصر» ومنذ عرض هذا الفيلم على شاشة التلفزة، لم يحقق غودار للشاشة
الكبيرة، من بين الأفلام الكثيرة التي حققها خلال ثلث القرن الأخير، سوى
ثلاثة أو أربعة أفلام... أما الباقي وعدده يتجاوز العشرين، فإنما كان
أفلاماً تلفزيونية، من انتاج تلفزيوني، في لغة مبتكرة تجمع بين عبقرية
غودار السينمائية ومتطلبات اللغة التلفزيونية. وانطلاقاً من مواضيع وثائقية
أو تخييلية من الواضح دائماً أن عالمها تلفزيوني وهدفها مشاهدو التلفزيون.
غودار لم يوافق على هذا صراحة على الإطلاق. بل هو يخلد الى
الصمت حين يقال له ان حتى الأفلام «الروائية» القليلة التي حققها، للسينما
منذ ذلك الحين، مثل «انقذ ما يمكن (الحياة)» و «تحري» و «موجة جديدة»
وصولاً الى «مديح الحب» و «موسيقانا»، كانت أفلاماً من انتاج التلفزيون
وحققت عروض بعضها التلفزيونية اضعاف اضعاف النجاح الذي حققته العروض
السينمائية. غودار المكابر دائماً، كابر هذه المرة أيضاً. ولكنه اذ خلط
الأمور ببعضها كيلا يتحدث صراحة عن تلفزيونية هذه الأفلام، ما كان يمكنه
فعل الشيء نفسه بالنسبة الى أفلام أخرى له، تلفزيونية خالصة هذه المرة، مثل
«موزار الى الأبد» و «المانيا العام 90» و «ج.كا.غ – ج. ل. غ» (الذي هو
عبارة عن سيرة ذاتية له، فيما كان سابقه – «المانيا العام 90» – أشبه بصورة
لواقع المانيا مصورة عبر نوع من البورتريه للممثل الفرنسي الألماني الأصل
ايدي كونستانتين الذي كان غودار قدمه في واحد من أفلامه السينمائية الأولة
«الفافيل») و«جولة ودورة في فرنسا»... ان مشاهدة هذه الأفلام، بين أعمال
عدة أخرى مشابهة ستضعنا بالتأكيد أمام صورة العبقري الذي يقبل التحدي، لكنه
لا يعترف به. صورة بيتهوفن مثلاً، وهو لحن الجريدة الرسمية الهولندية،
لمجرد أن يثبت انه قادر على ذلك. بل ان ثمة، هنا ما هو أكثر من هذا: في هذه
الأفلام وفي دزينة غيرها حققت للتلفزة ومعظمها لم يعرض إلا على الشاشة
الصغيرة، أو في صالات متخصصة ومهرجانات، زواج غودار بين لغته السينمائية
المعهودة، وهي اللغة التي تحولت مع الوقت لتصبح أشبه بكولاج حقيقي، وبين
كلاسيكية (حداثية) صارمة. ومن هنا لم تعد لغته لغة سينمائية خالصة، ولم تعد
في المقابل لغة تلفزيونية خالصة. بيد ان هذا لم يجعل منها لغة هجينة. بل
لغة ثالثة جامعة، تنتمي عملياً الى ما كان من شأن الفيلسوف جيل دولوز، الذي
كان اهتمامه بالسينما وبفن غودار على وجه الخصوص سمة أساسية من سمات عمله
الفلسفي، كان من شأنه أن يعتبره أسلوب ما – بعد – الحداثة، حيث يزول كل
تصنيف وتحل اللغة الجامعة وموج المواضيع محل صرامة أرسطية لم يعد لها من
مكان.
كل هذا واضح وصريح، ومشروع بالنسبة الى فنان بدا – ويبدو
دائماً – قادراً على التقاط روح العصر وجوهر الحدث واعتبر – ويعتبر دائماً
– انه كفنان مسؤول عن كل تجديد يجب أن يطرأ على الفنون وعلى العلاقة بين
الفنون.
غير ان المشكلة تبدأ مع غودار، حين يرفض الاعتراف بذلك،
مجازفاً بأن يبدو صاحب ازدواجية غير واعية. وهي صورة مخطئة بالتأكيد... لا
تنطبق على غودار ولا على زميله الألماني الراحل راينر ورنر فاسبندر، الذي
بعدما قدم عشرات الأفلام للسينما في فترة قياسية، ختم حياته بعمل تلفزيوني
قد يصح أن يوصف، اليوم، بأنه أروع ما قدمه مخرج أوروبي للشاشة الصغيرة.
الحلقة
المقبلة: 15 ساعة مدهشة من فاسبندر
الحياة اللندنية في 16
ديسمبر 2007
تجارب
تلفزيونية خاضها كبار من أهل الفن السابع (1)...
روسليني: رائد الواقعية الجديدة غامر وانتصر
إبراهيم
العريس
ليس من الصعب تتبع جذور عداء أهل السينما للشاشة الصغيرة ولكل
ما يمت إليها بصلة. فمنذ بداياتها اعتبرت هذه الشاشة مقتلاً للفن السابع.
وساد حذر كبير تجاه تطورها التقني والفني، وراح محبو السينما وصالات عرض
أفلامها يتابعون الأرقام والإحصاءات وقلوبهم تخفق مع كل تضاؤل في عدد
مرتادي الصالات، ومع كل تحسن تقني يطرأ على أداء التلفزيون. ونعرف انه، من
غودار الى جارموش، ومن صلاح أبو سيف الى ساتيا جيت راي، وعشرات غيرهم من
مبدعي الفن السينمائي، جرى التعبير في شكل أو في آخر عن «كراهية» ما
للتلفزيون. ومع هذا، إذا نحّى المرء كل تلك العواطف جانباً، وتناسى ردود
الفعل التي لم يعد في الإمكان اليوم اعتبارها منطقية، سيدهشه أن كل تلك
المخاوف والاعتراضات لم تكن أبداً في محلها. ذلك أن تتبع التاريخ الراهن
لحركتي السينما والتلفزيون سيكشف بكل تأكيد عن ان التقارب بين الوسيلتين
كان أكبر حجماً وأكثر أهمية من التباعد بينهما. طبعاً لن نسترسل هنا في هذا
الحديث النظري، لأن مكانه دراسات مطولة وربما أيضاً بحوث جامعية تعتقد أن
أوانها قد آن. هنا، وفي حلقات مقبلة، نود التوقف فقط عند بعض تجارب قام بها
عدد من كبار مبدعي السينما، في العمل التلفزيوني. وهي تجارب تدحض عملياً
فكرة الصراع بين الوسيلتين. وهذا الدحض العملي يمكن أن يضاف الى سلسلة من
أمور تكشف بدورها عن ان الترابط بين السينما والتلفزيون كان دائماً
حاضراً... وعلى الأقل منذ آخر سنوات الخمسين من القرن العشرين، حين –
بالتحديد – بدأت شاشة التلفزة تكبر فيما راح حجم شاشة السينما يتقلص مع
تضاؤل حجم الصالات وتقسيم الصالات التاريخية الكبرى الى صالات أصغر. وكذلك
حين بدأ التلفزيون الملون في الظهور. ففي ذلك الحين لم تجد الشاشة الصغيرة،
أفضل من أفلام السينما مادة للعرض، ما حوّل التلفزيون الى مكان للعرض
السينمائي وكذلك الى متحف لذاكرة السينما. لكن هذا لم يكن الأهم. الأهم كان
أن هوليوود حين بدأت تشعر بالحاجة الى دم جديد يضخ في شرايينها، لجأت الى
من سيسمى لاحقاً جيل التلفزيون ليمدها بالمواهب. وهكذا تحول التضافر بين
الاثنين الى حقيقة لا تزال ماثلة حتى اليوم.
وفي الوقت نفسه كان سينمائيون كبار قد بدأوا يبحثون لدى
التلفزيون عن نوافذ يطلون منها على العالم، بعدما اكتشفوا في الشاشة
الصغيرة إمكانات ودروباً لهم. وقد كان في مقدم هؤلاء، ذاك الذي يمكن اليوم
الحديث عنه بصفته رائداً سينمائياً في العمل التلفزيوني: الإيطالي روبرتو
روسليني، الذي كان قبل ذلك بأكثر من عقد قد ساهم في تأسيس الواقعية الجديدة
في السينما الإيطالية. ولنقل هذا ان موت تلك الواقعية هو ما قاد روسليني
الى التلفزة – ولكن دائماً بلغته السينمائية الغنية – ومن هنا، وفي وقت كان
زملاؤه السينمائيون لا يزالون يشتمون التلفزيون، راح هو يحقق عملاً تلو
الآخر للشاشة الصغيرة، مدافعاً عن مشروعه هذا، معلناً أن المستقبل هو
لاختلاط السينما بالتلفزيون.
مغامرة
طبعاً لم يعش روسليني حتى أيامنا هذه ليشهد بأم عينيه تحقق
توقعاته. لكنه عاش بما يكفي ليحقق – للتلفزيون – تحفاً لا تقل أهمية عن
تحفه السينمائية. بل كذلك تحفاً حددت أسساً مهمة للعلاقة بين التاريخ،
كماضٍ وكواقع متحرك، وبين فن الصورة المتحركة. وحسبنا هنا أن نقول ان
روسليني لم يحقق، عملياً، سوى أعمال تلفزيونية، منذ انصرافه عن السينما
أواسط الستينات من القرن العشرين وحتى رحيله. أي منذ رائعته «استيلاء لويس
الرابع عشر على السلطة»، وحتى فيلمه الأخير «السيد المسيح» (1975). وربما
يكون من المهم أن نذكر هنا ان من بين العشرين فيلماً – تقريباً – التي
حققها روسليني للتلفزيون ومن انتاج هذه الأخيرة، كان هناك نحو نصف دزينة من
أفلاماً، عرضت أولاً على شاشات السينما، في باريس أو في روما وعوملت بصفتها
أفلام سينمائية. غير أن هذا لم يخدع أحداً... إذ منذ البداية كان واضحاً
أنها أفلام تلفزيونية، خصوصاً أن من بينها سلسلة أفلام حققها روسليني عن
فلاسفة كبار من ضمن مفكري البشرية، بدءاً من سقراط، وصولاً الى باسكال
وديكارت، كما كان من بينها سلسلة أفلام وثائقية عن «عصر الحديد» و «نضال
الإنسان من أجل البقاء» و «حوار مع سلفادور اليندي»... ناهيك بأعمال ذات
طابع ديني – تاريخي، مثل «أعمال الرسل» و «السيد المسيح». إذاً، حتى وإن
كان بعض هذه الأفلام قد عرض، أولاً، سينمائياً، من المؤكد أنها إنما صنعت
للتلفزة. ومن هنا ها هي اليوم بعد أن نسيتها الصالات الكبيرة نهائياً، تعيش
بقية حياتها على الشاشات الصغيرة، إذ يعاد عرضها بين الحين والآخر هنا
ليذكر بكم كان متبصراً روسليني الذي فهم باكراً أنه إذا كان منطقياً أن
تكون صالات السينما هي الضحية المثلى لحرب الشاشتين التي لم تقع في الحقيقة
أبداً... فإن لغة السينما انتصرت منذ البداية وحتى الآن، خارج الصالات.
كان لروسليني إذاً فعل الريادة في هذا المجال. كان الذي علق
الجرس في ذنب الثعلب. ورضي أن «يغامر» بسمعته السينمائية مفضلاً أن يكون
واقعياً ويؤقلم الزمن مع أفكاره، بدلاً من خوض معارك دون كيشوتية، على غرار
زميله جان – لوك غودار الذي كان، في ذلك الحين بالذات يتحدث عن العرض
التلفزيوني باحتقار قائلاً: «ان السينما يشاهدها المرء وهو مرفوع الرأس...
فيما لا ينظر الى التلفزيون إلا ورأسه منخفضة».
* الحلقة
المقبلة: غودار ولعنة الميديا
الحياة اللندنية في 16
ديسمبر 2007
|