«من بين الطرق التي تُؤدي إلى الله اخترت الموسيقى والرقص».
بتلك المقولة الشهيرة للشاعر الصوفي جلال الدين الرومي اختتم المخرج
المغربي لحسن زينون حديثه عن فيلمه «عود الورد... الجمال المفقود».
لحسن زينون في الأصل قادم من عالمي الموسيقي والرقص التعبيري.
حصل على أول جائزة في الرقص من المعهد البلدي بالدار البيضاء سنة 1964.
ولما أصبح راقصاً نجماً اشتغل مع كبار «الكوريغرافيين» (مصممي الرقصات) مثل
بيتر فان ديك، جورج لوفيفر، أندي لوكليرهان فوص وجان برابان. وفي سنة 1978
أسس زينون مع زوجته ميشال باريت مدرسة للرقص وفرقة «باليه - مسرح زينون»
تخرج فيها عدة راقصين منهم ولداه. بعد أن نال لحسن زينون شهرة عالمية قدم
عروضه في الغرب وفي العالم العربي وأسهم في تصميم الرقصات لعدد من الأعمال
السينمائية منها «الإغواء الأخير للمسيح» لمارتن سكورسيزي و «شاي في
الصحراء» لبرناردو برتولوتشي و «ظل فرعون» لسهيل بن بركة. في سنة 1991 أخرج
شريطاً قصيراً لعرض «حالة هذيان» ثم أنجز ثلاثة أفلام قصيرة: «الصمت» 2001،
«البيانو» 2002 و«عثرة» 2003 الذي نال جوائز عدة.
تحرير
الروح والجسد
في فيلمه الروائي الطويل الأول يتخذ المخرج من «عود الورد»
بهويتها الموسيقية شخصيته المحورية. إنها جارية قوية عنيدة تتخذ من العزف
وسيلة لتحرير الروح والجسد، ومخلصاً لها من حياة الرق وجحيم العبودية.
اختطفت «عود الورد» في مراهقتها وبيعت في سوق النخاسة. عندما لمحت عيناها
آلة العود لدي مشتريها تمسكت به، فمنحها إياه ثم باعها إلى أحد عشاق
الموسيقى، وهو معلم فائق الشهرة. في داخل قصره يستشعر السيد الموهبة
النادرة لتلك الفتاة فيُقرر أن يعلمها، ويجعل منها تلميذته الاستثنائية.
يسمح لها بالعزف أمام الجمهور من نسائه وجواريه، أمام الرجال الأشداء
المولعين بالعزف. تُسلط عليها وحدها كل الأنظار. تأسر القلوب بعزفها
الأخاذ، تشعل لهيب الغيرة بين الزوجات والجاريات، خصوصاً عندما يُعفيها
سيدها من الأعمال المنزلية ويُخصص لها حجرة بعيداً عن الخادمات حتى تتفرغ
بجسدها وعقلها وروحها للتدرب على العزف.
تنتهز الزوجات غياب المعلم عن القصر ويُعذبون الفتاة بسلخ جلد
ظهرها بالحجر. مع هذا تتحمل الفتاة أشكال المكائد والمضايقات والآلام حتى
تستمر في العزف، فتتقدم. تهيم روحها أثناء العزف كأنما تبحث في الموسيقى عن
الجمال المفقود. يُجن سيدها بعزفها، بهذا القبس من الضوء في أنغامها. تنهشه
الغيرة. يُكاشفها متسائلاً: لماذا تختصها الطبيعة وهى الجارية السبيّة بتلك
الموهبة، بينما هو السيد المالك للقصر والجواري تفقد روحه هذا الضوء وتلك
الموهبة، لحظة من الصمت.
هذه الغيرة العمياء ربما هي التي أججت عاطفته وولعه بجسدها.
سرعان ما يستسلم معلم الموسيقى لرغبته ويعتدي على تلميذته مغتصباً روحها
قبل جسدها. يغرق هو في نوم عميق بينما تنزوي هي مدمرة في أحد أركان الحجرة،
متكورة على نفسها، منكمشة يسيطر عليها الرعب. مع صعود أذان الفجر تبدأ
المرأة الجارية التي أصبحتها «عود الورد» في التفتيش عما اعتراها، عن روحها
المسلوبة. فتقبض على أوتار العود وتمزقها واحداً تلو الآخر، ثم تحطم جسد
العود ليستيقظ سيدها مذعوراً نادماً. تحتجب عن العزف لكنها تعود بعد
محاولاته استرضائها. تكتشف أنها حامل فتملؤها السعادة، ينتابها إحساس بأن
هذا الجنين هو الجمال المفقود، أنه هو الذي سيُحررها من رقها. تخبئ حملها
عن الجميع، مع ذلك تعلم الزوجات ويُدبرن المكائد للتخلص من الجنين. تجد
«عود الورد» نفسها دخل لعبة مجنونة. تُصبح على يقين أنها عُرضة لاغتصاب
جديد. تحاول الهروب وتفشل، بينما تنجح الزوجات المتأثرات بالعادات والأعراف
الجامدة في إرغامها على الإجهاض في مشهد مليء بالدجل والوحشية.
عندما تستفيق «عود الورد» تُصبح كمن أصابها مس من الجنون. إنهم
لم يأخذوا جزءاً من جسدها إنما انتزعوا قطعة الضوء التي كانت تدفئ روحها،
انتزعوا منها الجمال المنتظر... تلك الأسطورة التي سمعت بها وظلت تنقب
عنها، أسطورة الجمال المفقود في ثنايا الروح وفي موسيقى الوجود. تُرى هل
تبرأ «عود الورد» هذه المرة من الجروح التي ألمت بها؟ كل محاولات معلمها
تذهب سُدى. ينصحه الطبيب بأن تمكث في المصحة أسابيع عدة.
كهف موحش
والمصحة هذه تُشبه كهف موحش مُقبض، مُتعدد الأقبية، وزاخر
بالقضبان الحديد، إنه أقرب إلى زنزانة سجن أو معتقل رواده من المجانين.
هستيريا النزلاء من الرجال والنساء تبث الرعب والشفقة في قلب المتلقي على
مصير البطلة المأسوي. مع ذلك وفي منتصف الليل عندما تستجيب عود الورد لرغبة
إحدى النزيلات وتدندن بألحانها العذبة. تستيقظ الأرواح، وفي مشهد ساحر يلتف
المرضى حول القضبان الحديد - التي تفصل بين الرجال والنساء - وكأنهم أصبحوا
روحاً واحدة تهيم مع النغم المتصاعد، فنلمس إنسانية هؤلاء المرضى الضحايا
وندرك أن مأساة كل منهم لا تختلف كثيراً عن محنة «عود الورد».
نجح لحسن زينون في أولى تجاربه الروائية الطويلة في خلق تكوين
وتشكيل متفرد وخلاق على مستوى الإضاءة بتدريجاتها المُوحية، والديكور
السوريالي الباذخ، وموسيقى العود برقتها وثورتها، بدفئها تهتك أسرار الزمن،
والأداء التمثيلي لممثليه بخاصة بطلته الرئيسة، الكادرات عنده لوحات
تشكيلية ممتعة بصرياً، تتسم بالاختلاف وتُثير الدهشة، خصوصاً في مشاهد
المصحة بإضاءتها القاتمة الكابية التي تبعث في النفس الكآبة، وفي المشاهد
الصحراوية بجوها الأسطوري وإضاءتها الساحرة وموسيقاها التي تثري الوجدان.
في «عود الورد... الجمال المفقود» يمزج المخرج بين الواقع
والخيال الأسطوري. يتجسد الواقع عنده على مستويين، واقع التاريخ شديد
القسوة في عام 1915، حيث تدور أحداث الفيلم، وواقع حياته وسيرته الذاتية.
يُؤكد زينون أنه لم يقصد العودة إلى عام 1915 لكنه وجد تشابهاً كبيراً بين
الظروف في تلك الفترة والظروف التي يعيشها اليوم. كانت أوضاع المرأة في تلك
الفترة سيئة جداً. كانت تُعامل في شكل مُهين على أنها ملكية خاصة للرجال،
واختار فكرة قهر المرأة لأنها مُعادل قوي لقهر الفن عموماً، وليس الموسيقى
فقط. أليس قهر المرأة وقهر الفن هو وضع حقيقي في عالمنا العربي؟!
ليس الفيلم انتاجاً مشتركاً مع المؤسسات الفرنكفونية كما زعم
البعض. صحيح كان له شريك في الإنتاج «فرنكفوني» لكن الشريك حصل على الأموال
من الفرنكفونية بتزوير التوقيع وذهب لإنتاج فيلم آخر في الهند، مع ذلك أصر
لحسن زينون على إنتاج الفيلم بجهوده الذاتية فتكلف 6 ملايين ونصف المليون
درهم. لم يكن يفكر في تكلفته أو في العائد المادي. كان الفيلم بالنسبة إليه
تحد، لأنه يُعبر تقريباً عن قصته مع القهر، وربما قصة ولديه.
يفتح لحسن سرداب الذكريات: «بدأت حياتي كموسيقار، كنت أعشق
الموسيقى لحد الذوبان. فتحت أمام ذهني الكثير. خلصت روحي. بعد أن أتقنت
العزف شعرت بالرغبة في الرقص فتعلمت الرقص. عندما علم والدي بعشقي للموسيقى
طردني من المنزل. كان يعتبر الفن حراماً. لم يفهمني، وخيرني بين أن أعود
إنساناً طبيعياً مثلهم أو أترك عالمهم، فتمسكت بحلمي».
الحياة اللندنية في 25
يناير 2008
|