القاهرة ـ "المتسقبل": المكان شبه مهجور. كأنه متاهة فعلاً.
فندق قديم محشور وسط بنايات وسط البلد. اسمه غريب: فنواز.. بصمات الزبائن
على الجدران ممسوحة المعالم . ويبدو من لون السيراميك الأزرق في الحمامات
ملامح أناقة هادئة.. في هذه الحجرات كان يلجأ تجار الطبقة الوسطى والخواجات
والفنانون.. هنا كان يجب ان اعرف اشياء جديدة عن فان ليو.
فان ليو كان هناك في الفنواز الذى تحول بحالته الرثة إلى احدى
قاعات معرض فوتو كايرو الذى يحتفي بفن الصورة.. وينظمه غاليرى تاون هاوس.
التاون هاوس مكان مثير اصلاً بداية من موقعه وسط حي شامبليون
المزدحم بالورش والبيوت المتلاصقة وبجوار مقهى الحاج محمد ليبتون الشهيرة..
وهنا يبدو رواد الغاليرى غرباء.. خاصة ان غالبيتهم من الخواجات. كما ان
أماكن العرض اغرب وغير مألوفة في المعارض الفنية. بيت قديم.. مصنع .. كاراج
... حالة مثيرة.. تبدو مناسبة إلى حد كبير لنرى فان ليو وهو يطل مع راندا
شعث.. ونرمين همام.. ولارا بلدى.. ويوسف نبيل.. ولكل منهم أسلوب خاص في
التعامل مع الفوتوغرافيا.. التي بدت في القاعات الغريبة للتاون هاوس...
بقايا أزمنة مضطربة .
اليوناني.. أين بابا ستراكي ؟
تعجب الرجل من السؤال. ويبدو انه سأل نفسه: كيف عرف هؤلاء
الذين يركبون سيارة ملاكي القاهرة.. وبينهم وجوه ليست مصرية. كيف عرفوا هذا
البقال اليوناني العجوز المقيم في الاسماعيلية.. "ماذا يبيع" سألنا الرجل
بتوجس وكان اسرعنا في الاجابة يهوى الصدمات: "..البيرة"
الدهشة أرجعت الرجل خطوات إلى الوراء.. ولم يقدنا إلى "بابا
ستراكي .." لكننا عرفنا الطريق بحاسة البحث عن غرباء.
وهي نفس الحاسة التى التقط بها اكرم زعتري فان ليو.. في فيلم
"هو + هي" (حصل على الجائزة الكبرى لمهرجان الاسماعيلية).
فان ليو. شخص غريب فعلاً. عرفته فجأة منذ خمس سنوات عندما
التقطت من على الرصيف كتالوغاً يضم بورتريات لنجوم قديمة في الفن
والمجتمع.. ولم يكن الحنين إلى زمن مختلف هو سر الاعجاب بالصور. لكنه
الأسلوب الذي جعل من كل صورة حكاية يحكيها المصور بتوزيع الإضاءة وضبط
إيقاع الوجه والجسد مع الفراغ المحيط. وتتحول كل صورة إلى مشهد سينمائي
تستطيع بقليل من التأمل سماع صوت البطل ومتابعة حركته ومزاجه النفسى.
تستطيع ان تتأكد ايضاً من ان فان ليو كان موجوداً في كل صورة.
لا يمكن ان تنساه. تقريباً مثل مخرج السينما الموهوب الذى يقدم لك الممثل
في الفيلم كأنك تراه لأول مرة أو كأنه اكتشف سر شخصيته الفريدة.
زمن ذهبي
في معرض فوتو كايرو.. رأيت فان ليو في زمنه الذهبي.. هو الذي
مات في نيسان 2002. صور شخصية التقطت له في أواخر الثلاثينات وأوائل
الأربعينات. وفيلم صامت بكاميرا 16 ميلليمتراً يسجل فيه حياته العائلية
ومشاهد يظهر فيها الأب والام وشقيقه انجليو الماهر بالرقص على الجليد.
إضافة إلى أصدقاء وصديقات بجوار الاهرامات.
زمن منقرض.. استقبلت فيه مدينة صغيرة مثل الزقازيق عائلة
ارمنية هاربة من تركيا. طفلها المولود في 1920 كان يقترب من سنته السابعة
..وبعدها بثلاث سنوات انتقلت العائلة إلى القاهرة ودرس الصبي في المدارس
الارمنية ومنها إلى الجامعة الأميركية التى تخرج فيها في 1940. واصبح بعدها
فان ليو المصور المشهور الذي كان اسمه الاصلي صعباً جداً: ليفون بويادجيان.
فان ليو إبن هذا الزمن. زمن التعدد الثقافي (الكوزموبوليتانية) فهو مصري.
رغم أصله الأرمني. يتحدث بلغة هي مزيج من العربية والانجليزية والفرنسية
وهو متسق مع القاهرة. لكنه في نفس الوقت يعيش بإحساس الغريب. جزء من غربته
يأتى من المأساة الارمنية الكبيرة. والجزء الثانى من انه فنان في مهنة
تختلط فيها التجارة بالفن بشكل مقلق لشخصيات مرهفة مثل فان ليو.
مزاج
المصور
كل صور فان ليو داخل الاستوديو 7 شارع 26 يوليو. هنا مملكته.
وغابته التي يروض فيها وجوه النجوم.. طه حسين ورشدى أباظة.. عبد الوهاب
وفريد الأطرش.. داليدا.. وحتى شيريهان وميرفت امين.. والترويض يعني احياناً
ان تترك الحرية بكامل شراستها تنطلق اما الكاميرا كما حدث مع السيدة
القادمة من مصر الجديدة ولم يكن فان ليو يعرفها.. وطلبت منه ان يصورها 12
لقطة وفوجئ هو بأنها في كل لقطة تخلع قطعة من ملابسها حتى أصبحت في اللقطة
الأخيرة عارية تماما.
هذه هي الصور العارية الوحيدة التى احتفظ به فان ليو بعدما
أحرق نيجاتيفات أخرى خوفاً من هوجة المتطرفين الاسلاميين.. واحتفظ بحكايات
كل صورة.. وذكرياته عن صاحبات الصور ومتى استطاع ان يطلب من كل منهن ان تقف
عارية امام الكاميرا.. ومتى كان يستمتع بالتمرد على طلبات الزبون الذى كان
يبحث عن صورة ساذجة.. اكتشف فان ليو ان الفن هو صور الابيض والأسود.. وهو
حتى موته كان يقوم بالتحميض بيديه .. ربما لأن لعبته في التصوير تعتمد على
مزاج المصور.
لكن لماذا ظل فان ليو متمسكاً بفكرة المزاج.. والفن اليدوي في
زمن الماكينات.. والفيديو؟
ولماذا لم يهاجر إلى كندا كما فعل شقيقه؟
هذا ما لا تجيب عنه الصور.
هل أصبح أسلوب فان ليو هو ملهم المصورين الجدد؟ هل تحول إلى
موضة؟ وهل هذا جزء من محاولة استعادة زمن الأربعينات؟ وهل يشبه عشاق هذه
الاستعادة فان ليو أم انهم يتعاملون معه كما يتعامل الخواجات مع دراويش
الصوفية؟
معرض فوتو كايرو يطرح المزيد من الأسئلة. خاصة مع دخول
الكمبيوتر كأداة كما في صور نرمين همام التى تجولت في الموالد.. وسجلت
البشر هناك.. ثم لعبت عبر برامج الغرافيك على تحويل الأشخاص إلى ابطال
بوستر يختصر حالة الدراويش وامتزاج الرموز الدينية تحت غلاف من اللون
الأحمر الطوبى ؟
لارا بلدى لها لعبة أخرى مرة على الفيلم الخام.. ومرة على
زوايا التصوير .. لكنها في الحالتين مازالت تجرب..؟
على المستوى الآخر هناك: يوسف نبيل وراندا شعث. يوسف يلعب على
فكرة القديم. الأبيض والأسود ولتلوين باليد. الحيل القديمة تصبح مع
الكمبيوتر والتكنولوجيا: أسلوب فني خاص. راندا تلعب في الأبيض والأسود.
لكنها تبحث عن علاقة في الشوارع. لا تطارد الحدث فقط. بل تطارد احساساً
بالغربة والخوف من فقدان الأمان فجأة. الصورة هنا لعبة اجتماعية أكثر من أي
شيء.
ألعاب.. تطارد شيئاً غامضاً في الفوتوغرافيا. قسوة الذكرى. ام سخافة اللحظة
الساكنة وتسجيلها للأبد؟!
فان ليو على طريقته سجل تعليقه واحساسه عبر نظرة متبرمة.. من
النافذة... هل هو نادم على انه لم يحب فناً يحرك الصور الساكنة..؟ ولماذا
لم يحب الفيديو..؟
ولماذا نبحث عن فان ليو الآن ؟
المستقبل اللبنانية في 7
يناير 2008
|