مطار دبي الدولي، حتى وإن وضعته كاملاً في جيبك عملاً بنصيحة
المضيفة الحسناء التي تودعك على بوابة الطائرة الاماراتية، وذلك كي تضمن
لنفسك مروراً سهلاً ومريحاً على بواباته الالكترونية، فإنه يقدم لك صورة
موجزة عن هوية هذه المدينة النابتة على تخوم الصحراء، والتي ربما لاتشبه
شقيقاتها الأخريات. فهنا الجميع ـ من العرب ـ يحدثونك عن كتاب "رؤيتي"
لحاكم دبي. حتى أن الحديث عن هذا الكتاب يبدو وكأنه يشكل مفتاحا لفهم هذه
المدينة الفتية التي أخذت تنشب مخالبها الاقتصادية والمالية في عمق
الصحراء، وتتوسع أفقيا عن طريق الأبراج العملاقة في كل الاتجاهات الممكنة
..والمستحيلة.
المدير الفني لمهرجان دبي، المخرج الاماراتي مسعود أمر الله آل
علي، أو "نحلة المهرجان" كما تصفه النشرة اليومية يستبقك بالقول إن
استوديوات دبي تستعد للمعركة السينمائية المقبلة. نعم سلطة دبي الحرة
للاعلام والتكنولوجيا تلتفت إلى السينما و تريد أن تقاسم بوليوود وهوليوود
بعض الهموم. لم لا؟ فبامكان النجم الوسيم جورج كلوني الذي تصر زميلتي على
اعتباره الرجل الأكثر وسامة في العالم أن يطأ السجادة الحمراء التي توصل
النجوم بالنجوم في دبي حصرا. تواصل الابتسام من مكانك لأنه لايمكنك بأي حال
من الأحوال أن تمتدح شارون ستون وهي تستعد لمعركتها الخيرية مع الايدز.
لابأس، فالحوار يمكن أن يأخذ منحى آخر وتستمر هذه المماحكات إلى مالانهاية
لولا التحسر الذي تبديه الزميلة حول سفر كلوني قبيل وصولها، اذ لا يمكن
للنجم الأميركي داني غلوفر، النجم الستيني، وصاحب "النومة في الغضب"، والذي
جاء ليشهد على تكريمه بعرض مجموعة من أفلامه، وليقرأ بعض اشعار محمود درويش
في الختام، لا يمكن له أن يحتل مكانة كلوني من حيث وسامته، فقط لأنه يقرأ
شعراً قريباً منك، شعراً يبدو للوهلة الأولى وكأنه يزيد على المشهد نفسه.
ولكن هذا لايعود يمتلك الصحة حين يلتقي النجم الأسود بالروائي
باولو كويلو على جسر الابداع، الجسر الذي بوسعه أن يكون بوابة على الثقافات
الأخرى، الجسر الذي يوصل مواطني العالم ببعضهم البعض، وإلا بماذا يفسر
اقدام غلوفر على انتاج رائعة "باماكو" لعبد الرحمن سيساكو؟!
تترك الزميلة في الردهة الرئيسة لفندق حبتور غراند، وهي تستفسر
روهينا المسؤولة في هذا المكان عن استقبال ضيوف المهرجان، وتبدأ بتقليب
صفحات "دليل المهرجان" الأصفر الأنيق. تقلب صفحاته بتأن بحثاً عن فيلم
لمخرج صديق، أو بحثاً عن فيلم قرأت عنه من قبل، أو حتى بحثا عن عضو لجنة
تحكيم تعرفه أو سبق لك والتقيت به في أمكنة أخرى. تكتشف في الدليل "ضامناً"
حقيقيا لما تردد من قبل من أن ادارة مهرجان دبي لا تخضع الأفلام المشاركة
لأي نوع من أنواع الرقابات المنتشرة في الكثير من الدول العربية.
هنا لا تتوافر أدوات للرقيب ليقوم بأفعاله الشائنة في القص
والتلزيق، لأن الدليل الأصفر يقوم بوظيفة تنبيه الضيف إلى أن هذا الفيلم أو
ذاك يحتوي على مشهد ذي طابع جنسي مثل فيلم "حافة السماء" للمخرج التركي
فاتح أكين. وتسعد وأنت ترى فيلم المخرج العراقي طارق هاشم "دبليو دوت
جلجامش دوت 21" يحوي في التعريف الخاص به بأنه "تتخلل حواراته لغة فظة".
تزيد من حجم ابتسامتك لأنك تتوقع كل شيء من هذا المخرج المقيم في الدول
الاسكندنافية ويصر على ارتداء القبعة الفيصلية وتي شيرت غيفارا معاً.
تنتهي من تقليب الصفحات الملونة كي تكتشف أن هناك حضوراً
مميزاً للسينما اللبنانية الجديدة. فهاهنا شادي زين الدين، الشاب المولود
في عاصمة الغابون ليبرفيل عام 1979، والذي يحتفي في فيلمه الروائي "وعلى
الأرض السماء" ـ 70 دقيقة ـ بأندريه تاركوفسكي. يحتفي به بطريقته من دون أن
يلتقط ميتافيزيقيا هذا المخرج الكبير وقدرته الخارقة على النحت في الزمن
على شريط سينمائي، وخاصة كما يتجلى في فيلمه "المرآة". لكنك تحس بالطمأنينة
لأن شابا في عمره انحنى بهذه الجرأة على عوالم صعبة في شريط سينمائي أول،
وكأنه يريد محاورة الحرب الأهلية التي ولد بعد نشوبها بأربع سنوات بطريقة
ملهمه الكبير في "طفولة ايفان"، فهو فيلم عن الحرب من دون أن تكون الحرب
موجودة إلا في ذاكرة صاحبها.
وما بين شادي زين الدين، والمخضرم برهان علوية يحضر أيضا وسام
شرف الدين وباسم بريش وماريان زحيل ومحمود حجيج. وهناك أيضا مي المصري،
الفلسطينية التي تحولت إلى لبنانية خالصة في فيلمها "33 يوم"، وكأن حرب
تموز2006 بوسعها أن تحول الجميع إلى لبنانيين، وبوسعها أن تفرقهم أيضاً.
ففيلم "تحت القصف" لفيليب عرقتنجي الذي حصد جائزة المهر الذهبي بايعاز من
مايكل شيمينو رئيس لجنة التحكيم، وصاحب "صائد الغزلان" 1978 فرّق بين
اللبنانيين في دبي. لم تعد السجادة الحمراء هي ما يجمع بينهم وتوحدهم أقله
في ألق السينما بعد أن اختلفوا في بيوتاتهم حول أشياء كثيرة. نعم كان
الافتراق من حول الفيلم أيضا، فالبعض رأى فيه ديكورا مزيفا يتقول الحرب
بطريقة جشعة.
أيا تكن الآراء التي اجتمعت أو تفرقت من حول الفيلم، فإنك
تتفادى بعض ذيولها بالهرب أبعد من نوايا شيمينو نفسه. تلجأ إلى مكتبة
الفيديو لمشاهدة بعض الأفلام التي فاتتك لحظة عرضها بالتوازي مع أفلام
أخرى. تذهب إلى فيلم "جيروزاليم أتش دي" للمخرج السوري عمار البيك، وتقرر
في لحظة امتلاء بصري أن لهذا الشاب القدرة على تأريقك عندما يعمل وحده ومن
دون مشاركة أحد. فيلم يحضك بصريا على التفكير لولا بعض الانشغالات غير
المهمة التي قام بها المخرج نفسه في فيلمه مثل ادعائه بأن فيلمه مايزال في
غرفة المونتاج. كلام نافل يسعد بعض المخرجين السوريين، لكنه هنا لا يعني
شيئا طالما أن الفيلم عرض وانتهت قصته.
في اتجاه آخر يبدو فيلم "مغارة ماريا" للفلسطينية بثينة خوري
المقيمة في بلدة الطيبة ـ رام الله ـ وقد فاز بجائزة المهر الفضي للأفلام
التسجيلية، وكأنه يمنحك الشعور بامكان ولادة سينما فلسطينية تسجيلية
متفوقة، كأنما الفعل هنا يؤكد استعارة البيك نفسه في فيلمه على أن الوثائق
والصور تعود للفلسطيني، ولليهودي كل ماهو روائي ومتخيل. ربما يفسر هذا في
أحد وجوهه عجز الأفلام الروائية الفلسطينية عن أن تكون نافرة تماما. بالطبع
لايمكن اعتبار مهرجان دبي في دورته الرابعة (9 ـ 16 كانون الأول 2007) وقد
اختصر مسابقاته الرسمية على الأفلام العربية على أنه اختصاص لبناني
وفلسطيني، فهناك حضور مهم للمغرب العربي، يؤكد عليه أحمد المعنوني وعبد
اللطيف قشيش وعمر حكار. وهناك الأفلام التي أثارت حنق بعض الضيوف العرب مثل
"لولا" للمغربي نبيل عيوش الذي رأى فيه محمود ياسين مؤامرة على العرب،
وكذلك الأمر بالنسبة إلى فيلم "أميركي شرقي" للمصري هشام عيساوي الذي رآه
البعض نافذة كبرى للتطبيع مع اسرائيل، وخاصة عندما يختصر قيس ناشف "بطل
الجنة الآن لهاني أبو أسعد" الصراع العربي الاسرائيلي من حول القدس بصراع
امرأة يهودية وامرأة مسلمة على عضو الذكورة عند الرجل. مامن شك أنها سخرية
ناشفة لا تذكر بالموروث اليهودي الخاص بالسخرية من الذات. سخرية ملتبسة
وعاجزة في آن ..!!
في جهات أخرى من المهرجان الضخم تستضيف المدينة الطالعة من
الصحراء للتو 80 منتجاً عربيا وعالمياً، كما يؤكد مسعود أمر الله، بغية
التأسيس للصناعة السينمائية الموعودة. الصناعة التي تفتقر لها الدولة
المضيفة وتتطلع إليها اذ لاشيء يبدو هنا مستحيلاً، فليس الأفلام التي تعرض
في الزمن الحاضر ونصفق لها أو نتبرم من حولها من دون أن نعطي رأياً بشأنها
هي كل شيء. هناك أفلام في الأمام سوف نتذكر عنها أشياء فيما بعد، فأنت
تغادر موقعك وقد تناوبت على مخيلتك كل تلك الصور التي قيض لك أن تشاهدها،
فالليل يرخي سدوله في هذا الوقت من السنة على دبي بطريقة خلابة تخال فيها
أن النهار يبدأ حتماً في هذه الساعات من الليل وأنت تسترخي في منتجع
الليسلي الصحراوي برفقة 900 مدعو وعلى رأسهم مايكل شيمينو... الذي لاينزع
نظارتيه، ما يؤكد أن الوقت نهار وأبيض مستثار..!!
المستقبل اللبنانية في 29
ديسمبر 2007
|