من الصعب أن نفصل بين شعبية الرئيس وتأثير التليفزيون في عصره،
فالتليفزيون المصري في عهد الرئيس جمال عبدالناصر كان ثورياً يدعم أفكار
الثورة ويسعي لترسيخ مبادئها ويذيع الأفلام والأغاني التي تساند الثورة
وتمجد أعمالها وتظهر فساد الملكية ويصف الرئيس بالزعيم، أما في أيام الرئيس
الراحل أنور السادات فقد مر التليفزيون بمرحلتين الأولي قبل الحرب يذيع
خطاباته وينشر مفاهيم مثل ثورة التصحيح ومراكز القوي، أما الثانية فكانت
بعد نصر أكتوبر، حيث نشر مفاهيم السلام مع إسرائيل رغم انه كان يهاجم هذه
الأفكار أيام عبدالناصر بل كان يعتبر مروجيها من الخونة والخارجين علي
النظام وكان يطلق علي الرئيس وصف الرئيس المؤمن بطل الحرب والسلام، أما في
عصر الرئيس حسني مبارك فقد سيطر عليه أكثر رجال النظام نفوذاً وذكاء السيد
صفوت الشريف الذي كانت له خلفية سياسية سمحت له بمعرفة كيفية إدارة هذا
الجهاز بحكمة بحيث يرضي الرئيس وفي الوقت نفسه ينشر مفاهيم التليفزيون
الرائد لكنه لم يجد وصفاً للرئيس سوي بطل الحرب والسلام !
كل الرؤساء استفادوا من التليفزيون وساهم في زيادة شعبيتهم لكن أكثرهم
استفادة كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر نظراً لكاريزماته الخاصة فكلما
شاهدت خطاب التنحي الشهير تساءلت هل كانت الناس ستتأثر به وتنزل إلي
الشوارع إذا لم يكن هذا الخطاب مذاعاً بالصوت والصورة؟ وكيف كانت ستصل
إلينا الأفلام والخطب الشهيرة وأوبريتات الأغاني الوطنية وملامح وجهه ونظرة
عينيه ورأسه المرفوعة وهامته العالية لذلك فإن هناك اعتقاداً راسخاً بأن
التليفزيون لم يؤثر في شعبية أي رئيس مثلما أثر في شعبية عبدالناصر، فالناس
عرفت هذا الاختراع علي يديه وارتبطت به من أجل خطبه ولولاه لحرمت الجماهير
من المحيط إلي الخليج من طلة جمال وكان من الصعب عليها أن تتفاعل معه بنفس
القدر بعد مرور كل هذا السنوات علي رحيله إذا لم تشاهده حيا في خطبه وميتا
في جنازته والبلد كله يسير خلفه.
ربما كان يعي عبدالناصر بعقليته السياسية كل هذا، لأن الثورة لم تصل
إلي الشعب المصري إلا بعد أن سيطر الضباط الأحرار علي مقر الإذاعة ليذيعوا
أول بيان للثورة بصوت الرئيس الراحل أنور السادات ليضعوا الملك فاروق أمام
الأمر الواقع ويعلنوا للدنيا بأسرها أن الثورة نجحت وانتهي حكم أسرة محمد
علي باشا وعلي الملك أن يغادر قصره، لذلك أدرك منذ اللحظة الأولي قدرة
التليفزيون علي ربط الشعب المصري به وشعر بأن هذا الاختراع بإمكانه أن يلعب
دوراً مؤثراً في حشد الجماهير خلفه.
عشر سنوات عاشها التليفزيون المصري بصحبة الرئيس الراحل كانت الأهم
والأبرز في تاريخ التليفزيون وفي الوقت نفسه كانت الأكثر تأثيرا في حياة
عبدالناصر وفي قلوب محبيه حيث زاد التليفزيون من تعلق الناس به باعتباره
القائد والرمز وباعتبار خطبه هي المادة الأهم، وساعد علي ذلك أن عدداً
كبيراً من قيادات التليفزيون والمسئولين عنه كانوا من أصحاب الفكر أمثال
الدكتور عبدالقادر حاتم، الذي كان من الدقيقة الأولي مسئولاً عن هذا الجهاز
ومدركاً لخطورته وأهميته مما ساعده علي إنجاز مهمته، خاصة أن مدة الإرسال
كانت قصيرة - خمس ساعات يومياً - وكانت المنافسة غير موجودة فلم تكن هناك
محطات تليفزيونية أخري يمكن أن تقول رسائل أخري للناس.
الرئيس السادات كان يدرك أيضاً قيمة التليفزيون بحكم طبيعته التي تميل
إلي الظهور ونشر المفاهيم التي تتفق مع أفكاره وسياساته، لذلك كان يفضل أن
يخرج بنفسه عبر شاشة التليفزيون ليعبر عن آرائه بل ليصدم الناس أحياناً
ويفاجئهم مثلما فعل في خطابه الذي أعلن فيه استعداده للذهاب إلي إسرائيل
الذي نحفظه جميعاً عن ظهر قلب، بل إننا نحفظ أيضا خطابه في الكنيست «ذاته»
وكل حركاته وسكناته وانفعالاته، خاصة أنه كان يتميز بقدرة غير عادية علي
التأثير في الناس بحركة يديه.
أما الرئيس مبارك فرغم أنه أكثر رؤساء مصر ظهوراً علي شاشة التليفزيون
- بحكم طول سنوات حكمه- فإنه الأقل استفادة منه، ربما لأنه لا يملك موهبة
الخطابة التي كان يملكها السادات ولم يتمتع بكاريزما عبدالناصر وربما أيضاً
لأن عهده طال أكثر من اللازم لدرجة جعلت الناس تنصرف عن الاهتمام بخطبه،
هذا بجانب ظهور عصر السماوات المفتوحة وكثرة القنوات الفضائية التي أثرت في
شعبية التليفزيون وقللت من متابعيه الذين أوشكوا علي الانقراض.
الدكتور عمرو هاشم ربيع - الخبير بمركز الأهرام الاستراتيجي - يقول:
تأثير التليفزيون في عهد رئيس ما يختلف حسب شخصية الرئيس وحسب طبيعة علاقة
الدولة بالتليفزيون إلا أن رؤساء مصر الثلاثة جمال عبدالناصر ومحمد أنور
السادات ومحمد حسني مبارك يشتركون في استخدامهم للتليفزيون الرسمي كوسيلة
وأداة لمحاولة إظهار «كاريزما» للرئيس وإلقاء الضوء علي تحركاته واجتماعاته
وسفرياته بشكل يوحي بتحقيقه إنجازات كبيرة.ويشير ربيع إلي أن عهد عبدالناصر
يمكن وصفه بأنه حكم شمولي صريح، بينما يمكن وصف العهدين الأخيرين بالحكم
الشمولي غير المعلن، وأضاف: أحسن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر استخدام
التليفزيون ضمن مجموعة عناصر حققت له شعبية كبيرة هي الحضور أو «الكاريزما»
ومهارته الخطابية والمؤتمرات الجماعية والصحافة ونجح في ذلك لأن الرجل يملك
كاريزما ولديه حضور قوي وقبول أما السادات فكان تأثير التليفزيون في شعبيته
أقل بالرغم من الدور الكبير الملقي عليه تعويضاً عن غياب الكاريزما والحضور
بالمقارنة بعبدالناصر ولكن التليفزيون لم ينجح في أن يحقق له الشعبية
اللازمة.
أما الرئيس الحالي محمد حسني مبارك فقد بذل التليفزيون مجهوداً كبيراً
طوال 30 عاماً من الحكم في محاولة لتحقيق شعبية وكاريزما، لكنه فشل أيضا
بسبب غياب الحضور أو«الطلة» التي تغري الناس بالمشاهدة بالمقارنة
بعبدالناصر، ولذلك فالتليفزيون المصري أصبح مشتتاً أحياناً بعد انتشار
الفضائيات التي يرتفع بها سقف النقد السياسي نسبياً بين الميل للموضوعية
للحصول علي مصداقية وبين الاستمرار في تأدية واجباته ومهامه العتيقة في
«تلميع» وجه النظام ورئيسه وفي النهاية يميل إلي الاختيار الثاني.
الدكتور عماد عبداللطيف، الأستاذ المتخصص في الخطابة السياسية يقول:
أتاح التليفزيون الفرصة لعبدالناصر والسادات ومبارك لاستخدام إمكاناتهم
الأدائية وإبراز خطابتهم المؤثرة وقدرتهم علي التواصل البصري مع الحضور
بطريقة مميزة، كما أنه زاد من درجة القرب النفسي بينه وبين المصريين
متجاوزاً العلاقة الرسمية المحدودة من خلال صورة صامتة داخل جريدة إلي
تواصل إنساني كامل صوت وصورة وحركة وتفاعل الأمر الذي طوي مسافات كبيرة بين
الشعب والرئيس وبجانب هذا التواصل الشخصي أحدث التليفزيون تواصلاً سياسياً
شكل أيديولوجية المصريين في ذلك الوقت من خلال الأفلام الروائية الداعمة
للثورة والأفلام الوثائقية والتسجيلية عن إنجازاتها في المصانع والمزارع
وإذاعة حفلات تسليم الأراضي للفلاحين إلي جانب احتفالات الثورة وخطابات
الرئيس فكان التليفزيون أداة فعالة للترويج لنظام وزعامة عبدالناصر وللدفع
إلي الأيديولوجية الناصرية، خاصة مع زيادة أعداد جمهور التليفزيون، فبالرغم
من قلة انتشار أجهزة التليفزيون في المنازل في ذلك الوقت فإنها انتشرت في
المقاهي وتجمع الناس حولها في انتظار خطابات الرئيس واحتفالات الثورة من
خلال «صندوق الساحر» كما تخيلوه.
ويتحدث عبداللطيف عن خطاب التنحي واصفاً إياه بأنه أكثر مشهد
تليفزيوني مرتبط بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الأذهان والأكثر في
إعادة إذاعته من خلال الأعمال الدرامية والأكثر مشاهدة علي شبكة الانترنت،
مضيفاً قوله: لا يزال مشهد الرئيس عبدالناصر عبر شاشة التليفزيون يعيش،
بيننا بقدر ما تزال آثار الهزيمة بداخلنا وهو من أهم المشاهد التليفزيونية
في العالم في التاريخ المعاصر وقد كان عبدالناصر ذكيا في أدائه أثناء
إلقائه الخطاب فكان ينظر إلي الورق أمامه ليلقي خطبة التنحي «الطويلة نسبيا
لدرجة يصعب حفظها دون الحاجة إلي الورق المكتوب» فبدا وكأنه يحني رأسه
وعينيه انكساراً بسبب الهزيمة وهو ما أثار عاطفة المصريين بشكل كبير.
الدستور المصرية في
13/07/2010 |