كما هو منتظر منها، حوت الدورة الستين من مهرجان برلين السينمائي
الدولي التي تنهي اليوم عدداً كبيراً من الأفلام التي تنشد التميّز عن
أفلام السينما السائدة بنوعياتها وفنونها وطروحاتها الثقافية المختلفة .
هذا التميّز بات تحصيلاً حاصلاً وأمراً متوقعاً في المهرجانات السينمائية
المختلفة، والا لما كانت هناك حاجة لمعظمها الكاسح .
مهرجانات السينما لا تُنجز وتنفّذ لكي تحتفي بالسينما السائدة أمريكية
كانت أو فرنسية او مصرية او ايطالية او يابانية، بل لكي توفّر الفرصة أمام
الأفلام ذات القيم والعناصر الفنية والفكرية البديلة لدرجة التناقض عن
السائد لكي تُعرض وتنطلق على شاشات مخصصة لها وذلك بهدف تعاطي ونشر ما
فيها من قيم . كما توفّر، في المقابل، الفرصة أمام الجمهور الكبير
لمتابعتها في ذات المهرجان أو لاحقاً حين توزيع هذه الأفلام حتى ولو في دول
معدودة او على نطاق ضيّق .
في سبيل ذلك، تُنفق المهرجانات السينمائية الدولية أموالاً باهظة في
سبيل تأدية دوريها المذكورين . صحيح أن لها مآرب أخرى (تنمية اقتصادية
وسياحية للبعض او اعلامية اعلانية للبعض الآخر) لكن هذا ليس السبب الذي من
أجله تُقام المهرجانات تباعاً ولا السبب الذي يجعل من بعضها متقدّماً
بأشواط كبيرة على الآخر من حيث نجاحها في استقطاب الأفلام الجيّدة قبل
سواها .
ينبثق الفيلم المختلف من السبب الذي من أجله يكتب السيناريست المادّة
والسبب الذي من أجله يقوم المخرج بالوقوف أمام الكاميرا والمنتج بتمويل
الفيلم مباشرة او من خلال علاقته المثمرة مع شركة التوزيع . انها حالة
ابداعية منسجمة يؤمن من يشترك فيها بأن السينما ليست حالة استعراضية لمصلحة
ماديّة تأتي في المقام الأول، بل وضعاً فنياً وثقافياً وانسانياً العالم
بحاجة اليه كما هؤلاء المساهمون في توفيره لأنه تعبير عن مواقف تسكنهم .
ومنذ أن يبدأ كاتب السيناريو، الذي قد يكون المخرج نفسه، يضع هذا الطرف
الأول من صانعي الفيلم نفسه في أتون الوضع الذي يود طرحه ناسجاً الفيلم
الذي سنراه . كونه يحمل فوق كتفيه رأساً مشبعاً بالأفكار المختلفة التي
يدرك أن وجهتها لن تكون استهلاكية يجعل العمل قابلاً للتميّز سريعاً عن
الفيلم الآخر الذي ينطلق كتاب ومنتجون ومخرجون لتقديمه نحو الجمهور العريض
.
الفاصل التعبيري هو كيفية معالجة الفكرة، ففي السينما السائدة تتقدّم
القصّة على الشخصيات والطروحات، في حين تتقدّم الشخصيات والطروحات، نفسية،
اجتماعية، ثقافية الخ . . . على القصّة بالنسبة للسينما الفنية وتصبح هي
السبب في انتاج الفيلم . كون المشاهد السائد هو مشاهد القصّة التي تلبّي
الحاجة لمشاهدة سياق من الأفكار المرتّبة على نحو يؤمّن الرضا واشباع
التوقّعات الحسيّة المباشرة التي تدفع بملايين الناس كل يوم لدخول صالات
السينما، فان سينما القصّة هي التي تتقدّم سينما الموضوع نجاحاً . وكمثال
يمكن معالجة فيلم “حافة الظلام” المعروض حالياً كقصّة سينمائية محافظة على
تقاليد العلاقة بين السينما وجمهورها، على نحو مختلف مع احتمال التضحية
بتلك العلاقة، كأن يصبح الحديث أكثر عن تلك الرسالة التي تخللته: وجود فساد
في الادارة السياسية الأمريكية تسمح لوجود مؤسسات تصنع الأسلحة لبيعها
لأعداء تلك الادارة مع ما يخرج من هذا الطرح من اسئلة أخرى . لكن، وبما أن
الفيلم مصنوع حسب التقليد فان عليه وضع بطله (ميل جيبسون) في صدارة الحدث
دائماً وابراز عامل الانتقام الفردي (بعد أن قتل مجهولون ابنته) كمفتاح
للفيلم بأسره .
في فيلم رومان بولانسكي الأخير “الكاتب الشبح” محاولة لدمج الناحيتين
الى حد أكبر . من ناحية هو فيلم قصصي في الدرجة الأولى معالج بالتركيز على
النواحي اللغزية والتشويقية، ومن ناحية أخرى يحاول أن يعكس وضعية المخرج
الذاتية برغبة تمييزه عن الفيلم الآخر الذي قد تنتجه هوليوود . مثل الكثير
من المحاولات السابقة فان محاولة الصيد في سينما القصّة وسينما النوع معاً
تنتهي لتغليب الجانب الأول ويقلل من قيمة الحسنات الفنية المأمولة .
كذلك نجد نزوعاً لطغيان اسم المخرج على المادّة لتقديم فيلم تجاري
مميّز بأسلوبية المخرج الخاصّة في فيلم زانغ ييمو الجديد “امرأة، مسدّس
ودكان نودلز” حيث تم التنازل عن المطلق الفني في سبيل مزج بين الأسلوب
التعبيري والفيلم القادر للوصول على الجمهور العريض .
وفي حين أن هذا التمازج موجود اليوم كحل وسط، الا أن معظم ما ينتج على
أساس أنه فيلم فني وخاص، يحتفظ بقواعده التي تنص، لجانب بحثه في الشخصية
رفع شأن الموضوع الناقل لما تعايشه تلك الشخصيات من أوضاع . بالتالي هي
مقالات ودراسات في مواضيعها تحاول أن ترصد حالة حياة عامة حتى ولو أسندت
القيادة الى فرد في المجموعة .
انتاجياً، فان هذه السينما لديها طقوسها الخاصّة أيضاً . المنتجون
يحاولون تأمين شروط بديلة لجمهور معظمه غائب والعديد من هذه الأفلام تنجح
في تأمين ايرادات مرتفعة لن تكون بحجم “أفاتار” لكنها كافية لاستمرار عجلة
الانتاج وتحويل المبدع الى صاحب رسالة عليه ايصالها عبر هذه الأعمال
المتميّزة .
الخليج الإماراتية في
21/02/2010
اختتام مهرجان برلين السينمائي الـ60
فوز الفيلم التركي "عسل" بجائزة الدب الذهبي
صالح كاظم من برلين
بعد فترة من الترقب والقلق أعلنت لجنة التحكيم لمهرجان برلين نتائج
المنافسة التي جرت بين 22 فلما على الجائزتين الرئيسيتين الدب الذهبي والدب
الفضي، وبينما جاء حصول الفلم التركي "عسل على الدب الذهبي بصفته أفضل
الأفلام التي شاركت في المسابقة، كان حصول الفلم الروماني "إذا أردت أن
أصفر فسأصفر" على جائزة الدب الفضي مفاجئا، حيث كانت التوقعات تتجه الى أن
تمنح هذه الجائزة للفلم الياباني كاتر بيلار. كما قررت لجنة التحكيم أن
تمنح جائزة الدب الذهبي لأفضل مخرج لرومان بولانسكي على فلمه "غوست رايتر –
الكاتب الخفي". وحصلت ممثلة الدور الرئيسي في فلم "كاتربيلار" على الدب
الذهبي كأفضل ممثلة، وأستلم الممثل الروسي جورجي دوبريغين الدب الفضي كأفصل
بالمناصفة مع سيرجي بوسكيباليس على دوريهما في فلم "كيف قضيت هذا الصيف"،
أما الدب الفضي لآفضل كاميرا فكان من نصيب المصورالروسي بافيل كوستوماروف
"كيف قضيت هذا الصيف". وحصل الفلم الذي أفتتح به المهرجان "منفصلون سوية"
على الدب الفضي لأفضل سيناريو. وأثناء إستلامه للجائزة اكد المخرج التركي
سميح قبلان أوغلو على أن حصوله على هذه الجائزة ربما سيكون حافزا للرأي
العام لمتابعة التطورات الخطيرة التي تجري في المنطقة الني جرى تصوير الفلم
فيها، حيث توجد هناك لبناء مفاعلات لإمناج الطاقة في هذه المنطقة، مما
سيؤدي الى آثار مدمرة على البيئة.
قبل توزيع الجوائز هيمنت العديد من الإشاعات والتصورات على أجواء
المهرجان فيما يتعلق بتوزيعها، في الوقت الذي تابعت فيه هيأة التحكيم سياسة
التكتم فيما يتعلق بالنقاشات التي كانت تجري بين أعضائها وراء الكواليس،
علما بأنه كان هناك شبه إجماع من قبل النقاد الألمان على أهلية الفلم
التركي-الألماني "عسل" للحصول على الدب الذهبي. وكما ذكرت في مكان آخر فأن
أحد الأفلام التي كانت تقود قائمة الأفلام المرشحة للحصول على أحدى جوائز
المهرجان هو "غوست رايتر- الكاتب الخفي" لرومان بولانسكي، رغم ما وجه له من
إنتقادات بسبب عدم وضوح رسالته السياسية، حيث أن هذا الفلم الذي يدور
للوهلة الأولى حول موضوع سياسي حيوي (حرب العراق وآثارها على السياسة
البريطانية) يقودنا في نهايته الى متاهات سيكولوجية، ربما تعودنا عليها في
أعمال سابقة للمخرج، إلا أنها تقف –ربما لهذا السبب بالذات- على الضد من
الميل للتبسيط السياسي في معالجة مواضيع من هذا النوع وفق ما يتلاءم مع
سايكولوجية النقاد.
أما الفلم الإيراني – الألماني المشترك "زمن الغضب" فلم يكن مقدرا له
الحصول على إحدى جوائز المهرجان، رغم توقعات عدد كبير من النقاد بأن يجد له
موقعا مميزا بين الأفلام المتنافسة على الجوائز.
الفلم الآخر الذي جرى الحديث عنه كمرشح لجائزة المهرجان هو
"كاتربيلار" الياباني، وهو فلم يدور عن ضابط عائد من الحرب
اليابانية-الصينية الأخيرة بعد أن فقد ذراعيه وساقيه ليحصل على أوسمة
تكريمية من قبل السلطات، وبعد عودته الى القرية تتجه أنظار سكان القرية الى
زوجته، التي يتوجب عليها من وجهة النظر التقليدية رعاية زوجها سيرا على
مبادئ الإخلاص للقيصر والبلاد.
رغم تميز مواضيع الأفلام المذكرة اعلاه وتنوع أساليب معالجتها من قبل
العاملين فيها، غير أن حصول "عسل" على جائزة الدب الذهبي جاء متطابقا مع
الرأي السائد بين النقاد، وذلك رغم وجود العديد من المآخذ عليه، خاصة فيما
يتعلق برتابة بعض المشاهد وضياع الكاميرا في متاهات الطبيعة الساحرة في
شمال الأناضول. هنا عرض موجز للفلم:
بال - عسل
المخرج التركي سميح قبلان أوغلو يعتبر واحدا من السينمائيين الموهوبين
الذين برزوا في السنوات الأخيرة من خلال مساهماتهم الطليعية في صناعة
السينما التركية، وقد عرف عنه منذ بداياته توجهه نحو تقديم أعمال متميزة من
ناحية الموضوع والعلاج الفني، واكد هذا من خلال تقديم عمل يشمل ثلاث مراحل
من حياة شاعر تركي "يوسف" يعود الى بلده بعد سنوات طويلة قضاها في الغربة
ليستكشف زوايا الماضي الذي أصبح مع مرور الزمن على مساحة منه. وقد لفت
المخرج منذ الفلم الأول الذي يعتبر الجزء الأول من هذه الثلاثية "يورموتا –
بيضة" أنظار النقاد والجمهور في مهرجان كان، وأستطاع بعد أقل من عام أن
يفاجأ جمهور مهرجان البندقية بالجزء الثاني من الثلاثية " سوت - حليب"،
ليأتي هذا العام الى مهرجان برلين بالجزء الثالث "بال - عسل" الذي يعتبر
لحد الآن من ضمن الأفلام الأكثر حظا في الحصول على واحد من دببة برلين،
وربما "الدب الذهبي". بعد أن عالج المخرج في الجزئين السابقين من الفلم
مرحلتي النضوج والصبى لبطل الفلم يوسف، يعود في فلمه الثالث الى طفولة
البطل المولود في قرية أناضولية وسط عائلة فقيرة تعتاش من تربية النحل
والدواجن، تقع في منطقة محاطة بالغابات، يشع منها سحر الطبيعة. وفي الوقت
الذي يتابع فيه المخرج معاناة بطله المنطوي على نفسه في المدرسة ومن معاملة
التلاميذ المحيطين له، يجد مربو النحل ومن ضمنهم والد يوسف أنفسهم بمواجهة
عاهة تصيب النحل وتقتل أعدادا كبيرة منه، مما يدفع والد يوسف الى البحث عن
موقع بعيد في المرتفعات لينصب فيه أعشاشا خاصة به لتربية النحل. غير أن
الأب لا يعود من هذه الرحلة، مما يدفع الصبي يوسف لشد رحاله بحثا عن ابيه
وسط الغابات وفي شعاب الجبال. يقودنا الفلم من خلال أجواء شاعرية وسط غابات
شمال الأناضول دون أن يحاول كشف مدلولات الطبيعة التي تضع المشاهد
بمواجهتها مثل أحداث مبهمة، تكشف بين وقت وآخر عن سحر باهر يلغي، ولو
للحظات، حالة الصحو الذهني التي عودتنا عليها حياة المدن، غير أن هذا يحصل
دون أن يضعنا المخرج في متاهات الصراع بين ما يسمي بـ "سحر القرية" و"خراب
المدينة"، وإنما من خلال لمسات تذكرنا بالرسم. ولكون الفلم يعتمد بالدرجة
الأولى على الإنطباع الذي تتركه الصور، فأنه يبتعد عن الحدث الدرامي ويختزل
اللغة الى حد كبير، بحيث تبدو الحوارات أمرا عابرا وسط بحر من المشاهد
البطيئة التي تحفز مخيلة المشاهد، تلاحقه بعد مغادرة قاعة العرض. ولا شك
بأن ما ورد على لسان المخرج في مقابلة أجراها معه موقع
Critic
الألكتروني (12.01.2010) حول فلمه الأول بأنه نادرا ما يستخدم المونتاج،
وذلك بهدف "الحفاظ على نقاء المشهد بلا قطع، لكي يشاركني المشاهد في الشعور
بهذه اللحظة وأن يكون حاضرا فيها. أعرف أن هذا يكون مملا بعض الأحيان."
ينطبق بنفس الدرجة على فلمه الأخير. ورغم أن بطل الفلم هو طفل في السادسة
من عمره، غير أنه من غير الممكن تصنيف هذا الفلم في إطار الأفلام التي
تعالج الواقع من منظور الطفولة، وأنما هو فلم شاعري يرتدي فيه المخرج رداء
الطفولة لكي يقترب من خلال ذلك من جوهر الأشياء الخفي الذي تفصلنا عنه مع
تقدم السن تراكمات الذاكرة واللغة. فوق هذا جاء إداء الطفل "بورا التاس"
العفوي لدور يوسف ليغني الفلم من خلال موهبة إستثنائية في إيصال ما يعتمل
في داخل يوسف من مشاعر أثناء رحلته وسط مصاعب الحياة اليومية وفي أحضان
الطبيعة. لهذا فأنه ليس من المستغرب أن يعلن المخرج في مقابلة مع التلفزيون
الألماني: "لولا بورا لما تمكنت من إنجاز الفلم.."
ومن الجدير بالذكر أن العديد من الأفلام التي عرضت أثناء المهرجان
ووجهت بموجة عاصفة من الرفض من قبل النقد والجمهور ومن ضمنها الفلم
الألماني "يود سوس- فلم بلا ضمير" الذي يعالج الظروف التي أحاطت بإنتاج
الفلم النازي المعادي للسامية "يود سوس – اليهودي سوس" وكذلك فلم مارتين
سكورزيزي الذي عرض خارج المنافسة وجاء حسب رأي بعض النقاد بعيدا عن النهج
السينمائي لمخرجه.
قائمة الفائزين
- الاسد الذهبي لافضل فيلم: "عسل" للمخرج التركي سميح قبلان اوغلو
- الاسد الفضي - الجائزة الكبرى للجنة التحكيم: "اذا اردت ان اصفر،
ساصفر" للمخرج الروماني فلوران سربان.
- الاسد الفضي لافضل مخرج: (الكاتب الخفي) الفرنسي البولندي اخراج
رومان بولانسكي.
- الاسد الفضي لافضل ممثل: مناصفة للروسيين غريغوري دوبريغين وسيرغي
بوسكيباليس عن دوريهما في "هاو اي اندد ذيس سامر" (كيف انهيت هذا الصيف)
للمخرج الكسي بوبوغريبسكي.
- الاسد الفضي لافضل ممثلة: اليابانية شينوبو تيراجيما عن "كاتربيلار".
- جائزة افضل عمل اول: "سيب" للمخرج باباك نجفي (السويد).
- الاسد الذهبي لافضل فيلم قصير: "هاندلسي فيد بانك" لروبن اوستلاند
(السويد).
- الاسد الفضي للفيلم القصير: "هايريدا" لشائي ميدزينسكي (اسرائيل).
- كاميرا البرليناد (جائزة فخرية): المخرج الياباني يوجي ياماما.
إيلاف في
20/02/2010 |