انتهت المنافسة بين أكبر فيلم في مسابقة الأوسكار وأصغر فيلم فيها،
بانتصار الشقيق الأصغر وخروجه بستّ جوائز أوسكار، اثنتان منها هما القمّة
بين هذه الجوائز، اثنتان أخريان مهمتان على نحو خاص، واثنتان من تلك
التقنية التي عادة ما تنعكس أهمّيتها على الجهود الفردية للفائزين بها.
فيلم «خزنة الألم» الذي أخرجته كاثرين بيغلو، تكلّف نحو أحد عشر مليون
دولار وجلب حتى الآن أكثر من ستة عشر مليون دولار بقليل، خرج بالأوسكارات
الستّة من بين تسعة ترشيحات، بينما خرج «أفاتار»، الفيلم الضخم الذي أنجزه
السينمائي المعروف جيمس كاميرون بميزانية تزيد على الـ 250 مليون دولار
(البعض يرفع الرقم إلى 400 مليون دولار لكن هذا غير مؤكد أو ثابت) والذي
جمع حتى الآن أكثر بقليل من بليوني دولار محليّا (أي في سوق شمالي أميركا)
وعالميا، بثلاث جوائز أوسكار من ترشيحاته التسعة كذلك.
«خزنة الألم» يتناول يوميات وحدة لنزع الألغام في الجيش الأميركي تعمل
في العراق. وقالت المخرجة وهي المرأة الرابعة فقط التي ترشح للفوز بهذه
الجائزة العريقة «هذه فعلا محطة لا تتكرر في حياة شخص، إنها اهم لحظة في
حياتي». وأضافت المخرجة «أود أن أهدي هذه الجائزة إلى النساء والرجال
العاملين في الجيش الذين يخاطرون بحياتهم يوميا في العراق وأفغانستان وعبر
العالم وأتمنى عودتهم سالمين إلى ديارهم».
في ظل المنافسة بين الاثنين غاب العديد من الأفلام الثمانية الأخرى
المرشّحة في مسابقة أفضل فيلم عن الذكر في النتائج التي شارك في الاقتراع
عليها ستة آلاف من أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية في هوليوود.
أكبر الخاسرين كان فيلم المخرج كوينتين تاراتنيو «أرذال مغمورون» الذي
كانت عدد ترشيحاته وصلت إلى ثمانية لكنه أنجز جائزة واحدة تلك التي منحت
إلى الممثل كريستوف وولتز كأفضل ممثل مساند. التالي له في حجم الخسارة هو
«في الفضاء» لجايسون رايتمان الذي كان رشّح لخمس جوائز لم ينل أيا منها.
كذلك الفيلم الخيالي العلمي «المقاطعة 9» الذي رشّح في أربع مسابقات، بينها
مسابقة أفضل فيلم، لكنه خرج من الحفل بلا أدنى ذكر.
الحال ذاته مع الفيلم البريطاني «تعليم» (ثلاثة ترشيحات - لا شيء) أما
«الجانب الأعمى» فقد منح ساندرا بولوك ثاني جوائزها الكبيرة هذا العام بعد
الغولدن غلوب.
هذا ما جعل ساحة الصراع حكرا على فيلمي كاميرون وزوجته السابقة بيغلو.
الأول خرج بجوائز في مجالات التصوير والإدارة الفنية والمؤثرات البصرية
والثاني في مجالات أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو كُتب خصيصا وأفضل
توليف، وأفضل مزج صوتي وأفضل توليف صوتي وهما جائزتان تقنيّتان تماما؛
تتولّى الأولى تأمين كل الأصوات المطلوبة للمشهد في الفيلم وتمضي الثانية
فتولّف بين كل تلك الأصوات على النحو المتداخل والصعب الذي ينجلي عن شريط
الصوت المصاحب لكل ثانية من شريط الصورة.
تفسيرات عدّة وراء خروج الفنانة كاثرين بيغلو لا بهذا القدر من
الأوسكارات فقط، بل بأوسكاري أفضل فيلم وأفضل إخراج. في الموقع الأول هناك
حقيقة أن أعضاء الأكاديمية استوعبوا سريعا أن الفيلم، وهو عمل رصين وجيّد
في كل جوانبه، يحتاج إلى تأييد. في هذه الناحية قد يكون «أفاتار» ساعد
«خزنة الألم» على إنجاز أوسكار أفضل فيلم من حيث أن الناخبين قرروا أن
الفيلم الكبير نال السباق الجماهيري كما لم ينله فيلم آخر في التاريخ وهذا
يكفيه، بينما يستحق فيلم بيغلو الأوسكار لكل ما جسّده على الصعيد الإنتاجي
من صعوبات تمويلية وتنفيذية بميزانية محدودة للغاية.
المبدأ ذاته تكرر تلقائيا حين كان على أعضاء الأكاديمية وضع علامة
صغيرة بجانب المخرج الذي يرونه أكثر استحقاقا للجائزة. كاثرين بيغلو
سينمائية جادّة ولا تشيح بعيدا عن المواضيع التي تتطلب جهدا بدنيا كان حكرا
على الرجال ولا يزال.
في هذا الإطار فإن بيغلو هي الاستثناء أيضا من حيث أنها المرأة الأولى
في تاريخ الأكاديمية التي تنال جائزة أفضل إخراج. ولا بد أن ترشيحها في هذا
المضمار كان لافتا للمقترعين الذين لا شك أدركوا أن الوقت قد حان لمنح
امرأة مثل هذا التقدير الكبير، وهو حان لأن الفيلم والجهد المبذول فيه
يستأهلان التقدير بالفعل.
الجانب الثالث في قراءة الأسباب التي لا بد وقفت وراء تخصيص «خزنة
الألم» ومخرجته بهذا التقدير الكبير، وتحويل ليلة المناسبة الثانية
والثمانين إلى ليلتها الكبيرة، هو أنه بالإضافة إلى منافستها للأخ الكبير
من ناحية واستحقاقها كامرأة من ناحية أخرى، فإن كاثرين بيغلو إنما تعاملت
مع موضوع يتعلّق بالحرب في العراق وبالتالي بالسياسة الأميركية الخارجية
التي كانت توغّلت في تلك الحرب منذ سنوات وما زالت. وفي عام يزداد الرأي
العام الأميركي ترددا حيال توسيع جبهة القتال الأفغانية إلى ما هي عليه
اليوم، فإن الرسالة التي تضمّنها الفيلم حول «أولادنا في جبهات القتال»
والخوف المستعر من وقوع المزيد من الخسائر بين صفوف القوّات الأميركية
المحاربة سواء في العراق أو في أي مكان آخر شكّل دافعا عاطفيا لتبنّي فيلم
معاد للحرب وإن من دون خطابة، مما يكشف عن السبب الذي من أجله لم يفز أي من
الأفلام السابقة المعادية للحرب في العراق بأي جائزة، إذ كانت إما أقل
إبداعا على الصعيد المهني أو أكثر مباشرة في وقت لا يرغب أحد في خطابات أو
مواعظ.
بذلك الفيلم حضر العراق على منصّة الأوسكار كما لم يفعل من قبل، كذلك
لم يفت المخرجة شكر الأردن وأهلها على الاستقبال الحسن إذ تم تصوير الفيلم
فوق أراضيها. ولم تكن المنافسة في الأقسام الأربعة الخاصّة بالتمثيل (أفضل
ممثلة، أفضل ممثل، أفضل ممثلة مساندة وأفضل ممثل مساند) أقل حدّة ولو أن
المرء كان يستطيع قراءة النتائج بقليل من الإمعان.
فأوسكار أفضل ممثلة انتهى إلى يد ساندرا بولوك كتقدير لها بسبب نجاحها
الجماهيري في ثلاثة أفلام متعاقبة («كل شيء عن ستيف» و«العرض» و«الجانب
الأعمى») وهي رشحّت هنا عن «الجانب الأعمى» وفازت، كما كانت رشّحت قبل أيام
قليلة عن «كل شيء عن ستيف» كأسوأ ممثلة للعام وفازت بها أيضا.
لحين بدا للبعض هنا أن الممثلة الجديدة غابوراي سيديبي ستخطف من
ساندرا بولوك وهيلين ميرين وميريل ستريب وكاري موليغان ذلك الأوسكار وذلك
بسبب قوّة حضورها (ولا أقول قوّة تمثيلها) في «بريشوس» لكن المسألة من
الأساس لم تكن في هذا الوارد ولو أن الفيلم سجل نجاحين آخرين إذ فاز بجائزة
أفضل سيناريو مقتبس وأفضل تمثيل نسائي مساند نالته الممثلة مونيك التي لعبت
دور الأم القاسية للشخصية التي لعبتها غابوراي سيديبي. رجاليا حدث المتوقّع
كما المأمول: جيف بريدجز الذي كان رشّح أربع مرّات من قبل ولم يفز، أنجز
النقلة ووجّه حديثه إلى والديه الراحلين شاكرا إياهما على توجيهه كممثل.
الفيلم الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل أول، هو «قلب متيم» (أو «مجنون» حسب
الترجمة الحرفية) وفيه وضع بالفعل كل ما لديه من جهد في سبيل إتقان دور
مناسب له يؤدي فيه شخصية مغني «كانتري أند وسترن» فاتته فرص النجاح فبقي
على رصيف محطّته بلا تقدّم. فجأة يحدث عودة ناجحة ولو محدودة، ويقع في حب
امرأة تصغره كان يمكن لها أن تمنحه فرصة جديدة، لكنه يخفق في إنجاز المأمول
له.
هذا النوع من الأداء الدرامي فاز على أداء مورغان فريمان في «إنفيكتوس»
لاعبا شخصية نيلسون مانديلا وعلى تمثيل جورج كلوني في فيلم جايسون رايتمان
«في الفضاء». كلاهما كانا المنافسين الأكثر أهمية. أما كولين فيرث عن «رجل
أعزب» وجيريمي رَنر عن «خزنة الألم» فتم النظر إليهما كجديدين يستطيعان
العودة مرّات أكثر في المستقبل.
هذا الاعتبار لم يدخل في حسبان المصوّتين على الجوائز حين نظروا إلى
جائزة أفضل ممثل مساند فمنحوها لكريستوفر وولتز علاوة على خبرة كريستوفر
بلامر وستانلي توشي. كما الحال مع ساندرا بولوك، العام كان عام وولتز وليس
سواه. وفي حين توجّهت هوليوود سياسيا حين اختارت الفيلم الفائز، ابتعدت عن
السياسة تماما حين اختارت الفيلم الأجنبي الفائز. استبعدت «عجمي» المقدّم
باسم إسرائيل لاسكندر قبطي ويارون شاني، وهي حسنا فعلت ولو فقط من حيث أن
الفيلم الفائز، الأرجنتيني «السر في عيونهم» لخوان جوزي كامبانيلا فيلم لا
يعلوه في مستواه الفني إلا فيلم واحد آخر في المجموعة وهو الترشيح الألماني
«الشريط الأبيض» لميشيل هانيكه. في بعض جوانبه المهمّة، هذه الدراما
المشغولة كحكاية بوليسية غير عنيفة، لديها قدرة ساحرة على جذب المشاهد
إليها يخلو منها فيلم هانيكه على جودته. النتائج مثيرة لمن تابع السباق من
البداية، وكانت أقل من ذلك بكثير لمن لم يشاهد من بين كل الأفلام المشتركة
سوى «أفاتار» و«الجانب الأعمى» الذي نالت بولوك جائزتها عنه خصوصا أن
متابعتها على التلفزيون، كما يفعل ملايين المشاهدين حول العالم تكشف عن
حفلة أخرى يقبّل كل من يعتلي المنصّة كل الموجودين في توزيع أوكسترالي
مدروس. صحيح أن الخطب كانت ملتزمة بالوقت الضيّق والشكر والثناء لم يرتفع
كوتيرة إلا في الساعة الأخيرة (من ثلاث ساعات ونصف) إلا أن تلك خطب المدح
في كل مرشّح على حدة، خصوصا بين الممثلين والممثلات، كانت أشبه بسوق شعر
مفتوح. بعد قليل، يتمنّى المرء لو أن إعلان الفائزين يتم نشره في المواقع
الإلكترونية والصحف اليومية وينتهي الأمر. لكن هذا لن يحدث مطلقا. كل
هوليوود تنتظر اليوم الذي مضى وتعتبره عيدها الخاص.
الشرق الأوسط في
09/03/2010 |