رنده
الشهّال انطفأت عن
خمسة وخمسين عاماً. سينقص من حياتنا شيء من الجمال والذكاء والجرأة
والاستفزاز في
آن
معاً. لم تكن رنده سينمائية فحسب، بل مناضلة في سبيل السينما، كما كانت
مناضلة
في كل شيء. إصرارها على أن تُخرج وتُنتج أفلاماً متلاحقة على
الرغم من جبال
العقبات، التي
تواجه سينمائيينا الجدد، كان بحدّ ذاته معركة دائمة. لم تكن
رنده
لتيأس،
على الرغم من ذلك. كانت تستطيع، بمعجزة أو بأخرى، أن تطلق دائماً فيلماً
جديداً. جديداً، لكن صادماً ومثيراً وإشكالياً، وموضع سلب وإيجاب، وأخذ
وردّ.
لقد ذهبت
بعيداً في كل شيء، وما كان في مقدور أي كان أن يتخيّل أن هذه الشعلة
الجامحة ستواجه المرض عند المفترق، وسيجبرها المرض على أن
تتوقف. لا بُدّ أن
أفكاراً كثيرة جديدة ومشاريع بلا عدد لقيت الصمت نفسه. فرنده الشهّال في
معاركها
الدائمة، أوحت لنا بأنها دائماً في البداية، وأن أمامها الكثير الكثير. هذا
الكثير
الذي نعلم الآن أنه بات في السرّ وضرب عليه الكتمان.
هنا مقالة
وشهادات
عنها.
محمد ملص:
على
»شاشات الرمل«
حين
نظرت إلى شاشة الموبايل وقرأت اسم راشد عيسى، انقبض صدري وشعرت
بالخوف. مَن الاسم
الذي سيقوله لي اليوم أيضاً؟ حين قال لي رندة الشهّال، بعيداً عن أي مقدمة،
فقد
ألقمني حجراً. سادني صمت بهيميّ، وازدردت الكلمات في الحلق، وتبددت الصُوَر.
انتابتني الرغبة في الهروب إلى السرير، والذهاب بعيداً بعينين مغلقتين، لا
يتناهى
معها إلا
دقات القلب، فبدت لي بيروت تلك. بيروت تلك، التي كنا نفر من خوفنا إليها!
بيروت »السينما«. بيروت الحركة الوطنية بكل صبوتها، بيروت مارون بغدادي
وجوزيف
سماحة و...
بيروت،
هذه الصبية الطرابلسية الصغيرة بكل ألقها السينمائي، وألق
السينما الوثائقية آنذاك. بيروت ورندة الشهّال تحتضننا في »ظريفها«، وتفتح
لنا
وأمامنا كل الحوارات والمرجعيات الشخصية والعامة، الصاخبة
والهادئة، السياسية
والسينمائية.
بيروت،
وهذه الصبية الصغيرة تراجع الحوارات عبر هاتفها مع أمها أو
أبيها، أو مع نهلة، أو مع نصير، أو مع جوزيف، وهي تخرج إلى الشرفة لتعرف من
الذي
يقصف من، وأين سقطت القذيفة. ثم وهي تخرج على عجل لتمضي بنا
إلى ميشيل سورا، ريثما
تعود بعد أن تصوّر لقطةً أو مشهداً في فيلم لم تختره بعد.
بعد
ثلاثين عاماً،
حين احتضنتها في قرطاج بقوة، بعد عرض فيلمها الأخير »طيّارة من ورق«،
انكمشت ألماً
من
قوة احتضاني، وقالت لي: »صدري يؤلمني«. كنت دائماً يا رندة تبدّدين
توقعاتي،
تفاجئينني بقوتك وحيويتك وشجاعتك، بعناوين أفلامك، بسينماك،
باختياراتك، بنصوصك
الجميلة، بأمك، بأبيك، بـ»نهلاك«، بوفائك لصداقاتك، بغياباتك الطويلة
وبقائك كما
عرفتك مشبعة بالحماسة لأي منا، ولأي مشروع سينمائي لأصدقاء الصبا في بيروت
أو دمشق
أو القاهرة أو باريس. كأننا معاً طيارات من ورق، نطير ولا
نطير، وكأنك تدركين أننا
جميعاً شاشات على الرمل.
لن أعترف
يا رندة بفراقك لنا، لأننا لا نزال نريد أن
نهرب من شاشات آلامنا، وأعدك بأننا سنكتب ونصوّر ونعارك، لا لكي ننجو من
الوجع الذي
يحاصرنا، بل لكي نمدّ صورة العمر المشتهاة أبعد قليلاً...
قليلاً
فقط.
أسامة محمد:
في
منام اسمه بيروت
ثم
نهضت عن كرسيها في آخر الطاولة الاحتفالية، المأدبة، الثرية
بالغرائب، ثم التفّت
حول المدعوّين: عمر أميرالاي، الياس خوري، محمد ملص، مارسيل خليفة، إلى أن
أصبحت في
موقع الملاك خلف كتفي الأيمن. وعندما توقّع الإيقاع أنها ستكمل
دورتها، لم يحصل، لم
تظهر من اليسار، حيث ريجيس دوبريه.
اختفت
ورائي. كانت مرئية من الجميع، إلا
أنا.
كان الياس
خوري يرفع للمرة العاشرة نخب »العام القادم في القدس«، مغيظاً
ومربِكاً بطريقة عبثية السيد دوبريه. هنا، هبطت يدها فجأة،
كأنما من لا وعي اللقطة
البصرية. أمسكت بباطن كفي، حيث خطوط الـ DNA.
سحبتها
(كفي) من داخل جيبي ولامستها
الطاولة، ثم دخل همسها من البعد الثاني للأصوات: »تناول هذا يا
هذا«. وكان وجهها
الذي تذكرون، ولداً جنياً شيطانياً، يحبني ويلاعبني ويسخر من ارتباكي ورفضي
الغامض
للطقس الملكي.
حين أكملت
رندة دورتها، كان دوبريه قد غادر من كثرة المرّات
الأولى التي تخرج لي رندة كفي من جيبي. صار هذا مجاز لعبنا. تفاجئني. تقبض
على نفسي
المرتكبة، المرتبكة.
كان هذا
ما كان منزلها في باريس في العام .١٩٨٨ قبلها،
التقينا في بيتها، في منام اسمه بيروت. كان الجدار أبيض عارياً نظيفاً،
تزيّن بحرف
الألف بمنحوتة اسمها الكلاشينكوف. كنا أسرة سينمائية، لمّت
شملها اليساري بثوان.
ولنثبت
إنسانيتنا، كان علينا أن نلج الخطر، المخيمات، الحروب الطائشة، ومعارضة
الاستبداد. في باريس، لم تعد كفي إلى جيبي مثلما خرجت، فلقد أقرضتني رندة
مجازاً
»......«
ألف فرنك فرنسي، ليطبع »معمل جوان فيل« نسخة »نجوم النهار«
وترجمته، فيخرج
الفيلم من جيب السينما.
رحلت
أختنا الثرية رندة. رحلت أختنا التي كنت أظن أنها
ثرية. لا أعرف إن كانت تظن هي كذلك، قبل حربها الأهلية الدامية.
أم أن
كفّها
كانت في
جيبها... بصّرت، فأبصرت كفي.
إميل شاهين:
أختي
الصغيرة
بالنسبة
إليّ، فإن رنده الشهّال أختي الصغيرة. عشتُ في
طرابلس التي ولدت فيها رندة. كنا هواة سينما من جيلين مختلفين، إذ أني
أكبرها بعشر
سنوات تقريباً. كنت دائماً أنظر إلى الذين يحبّون السينما.
هاوية السينما رندة
تتحوّل إلى مخرجة، وأنا بتّ الشخص الذي يتابع أعمال صديقته.
لا شكّ في
أنها
فنانة عظيمة. كنت أتمنّى دائماً أن تكون أفلامها أقلّ تحدّيا أو تحريضا. من
الزاوية
الفنية، كان الشكل سينمائياً. لكني، كما الأخ الأكبر، يُداري شقيقته
الصغرى، لهذا
كنت أقول دائماً، كهاوي سينما، لو أن أفلامها، التي صنعتها
خارج لبنان وفي داخله،
تُعرض في الصالات للناس جميعهم، كي نفرح بها ونفتخر. كانت تصطدم بالرقابة،
وكنتُ من
الذين يرفضون أن يتحوّل الفنانون إلى ضحاياها. أذكر »متحضّرات«: كم عانى
وواجه
صعوبات.
لا أتحدّث
عن أفلامها الغربية، كـ»الكفّار« (الخائنون)، الذي تناول
مواضيع أساسية ومهمّة، كالمثلية الجنسية التي يعيشها أبطاله.
هناك دائماً
تحدّ/تحريض في أفلامها.
تجلّت
فرحتنا الكبيرة عند حصولها على جائزة من مهرجان
البندقية، عن فيلمها الجميل جداً »طيّارة من ورق«، الذي تعاملت فيه مع عدد
من
الفنانين الجيّدين، كجوليا قصّار ورندى الأسمر. كما أدخلت
الفنان زياد الرحباني من
خلاله إلى السينما اللبنانية للمرّة الأولى، بعد مشاركته سابقاً في فيلم
جزائري.
عرفت كيفية الاستفادة من موسيقاه. »طيّارة من ورق« من الأفلام التي توضع في
خانة
السينما اللبنانية التي تشقّ طريقها محطّة تلو أخرى على طريق الإقناع.
صُدمت
عندما بلغني نبأ رحيلها. لم ألتق بها منذ وقت طويل، ولم أكن
أعرف أنها مريضة. صدمني
نبأ وفاتها. إذ دائماً كنتُ أنتظر أن أسمع منها أو عنها أنها أنجزت فيلماً
جديداً
وجميلاً، لكن الفاجعة الكبيرة كانت أني سمعت هذا النبأ الأليم. مع هذا،
تبقى تعزية
الفنانين أنهم، عندما يرحلون، فإن أعمالهم تخلّدهم، فنذكرهم
ونتذكّرهم من خلالها.
لا يسعني
هنا إلاّ أن اذكر مارون بغدادي، الذي رحل باكراً تماماً كما رندة
الشهّال. لقد حافظا على لبنانيتهما، وأعطياها عالميتها.
سمير
ذكرى:
»متحضّرات«
في الذاكرة
أسف وحزن
شديد لغياب السينمائية
رندة الشهال. لقد حقّقت شيئاً ليس من السهل أن تحقّقه امرأة، كشخص أو
كمخرجة. كما
أن
الأشواط التي قطعتها للوصول إلى هذه المكانة، التي تتّسم بالتحرّر والجرأة
والانفتاح الداخلي والصلابة، هي أشواط بالغة الصعوبة،
باعتبارها من بيئة محافظة.
من الجميل
أن سينماها وطنية ومتحرّرة في آن واحد. في هذا الزمن، هي رمز للمرأة
التي ظلّت، حتى آخر لحظة، تدافع عن فكرة الحرية في زمن ظلاميّ
وصعب وشديد التخلّف.
وللمفارقة، كانت دائماً تخطر في بالي، هي وأختها أطال الله في عمرها، حين
أرى على
الشاشة أقرباءهم من زعماء التيار السلفي المتطرّف في طرابلس.
أفلامها
تظل في
الذاكرة.
يعجبني من بينها فيلم »متحضّرات«، الذي اتّسم بجرأة ونضج سينمائي، واشتغال
على الأسلوبية.
بهيج حجيج:
جرأة
واستفزاز
تعرّفت
إليها في باريس في السبعينيات الفائتة، عندما كنت
أنهي دراستي السينمائية. وصلت حينها. كانت ضائعة ومهضومة. وسريعاً، بتنا
صديقين. ثم
أنهت دراستها هناك. إنها من النساء القلائل في تلك الفترة
اللواتي اخترن السينما،
على نقيض هذه الأيام التي تشهد حضوراً نسائياً كبيراً في المجال السينمائي.
يومها،
لم
تكن هناك إلاّ هي وجوسلين صعب وهيني سرور.
لديها
أسلوبها الخاص في العمل:
نوع من الجرأة في طرح المواضيع، بل واختيارها أيضاً. فيلما »متحضّرات«
و»طيّارة من
ورق« مثلاً: فيهما شيء من الاستفزازية. هذه طريقتها في تحريك الفكر
اللبناني
والعربي. حتى في فيلمها الوثائقي أيضاً، »حروبنا الطائشة«،
الذي يُعتبر نوعاً من
سيرة ذاتية مطبوعة بالجوّ الثوري الذي كانت مؤمنة به، هي المتحدّرة من
عائلة
مناضلة. إن سينماها نضالية مغلّفة بمناخ روائي.
ثم إنها
كانت تدرك كيفية
استعمال الرموز بشكل ذكي. مثلاً: تعاونها مع زياد الرحباني في »طيّارة من
ورق«. في
سينماها هذه، جمالية خاصّة بها. ففي »طيّارة من ورق«، كانت طريقة تصويرها
النساء
جميلة. لديها شغفٌ بتصوير النساء، أكثر من تصويرها الرجال.
إن موتها
مؤسفٌ
للغاية.
عبد اللطيف عبد الحميد:
ذكرى
بيضاء
التقيت
رندة الشهال في القاهرة لمرّة واحدة وأخيرة. كان
اللقاء، بكل ما جرى فيه، أشبه بطقس سينمائي حزين. في العام ،٢٠٠٣ كان هناك
عرض خاص
بفيلمها »طيّارة من ورق«، وقد حاز حينها جائزة مهرجان فينيسيا.
كنتُ أعرض فيلمي »ما
يطلبه المستمعون«. بدت المناسبة، بكل ما جرى فيها وبمن فيها من
السينمائيين، كأنها
مشهد
من فيلم. شاهدت رندة في تقديم الفيلم، وقد قدّمه حينها المنتج
الفرنسي آمبير
بازان، وتحدّث بحب عن الفيلم. كان يرتدي لباساً أبيض، هو الذي انتحر في ما
بعد. في
تأبينه، كان المعزّون جميعاً يرتدون الأبيض. ثم سلّم الحديث إلى يوسف
شاهين، الذي
تحدّث عن فيلم رندة، وعن رندة كذلك. كان بدوره يرتدي الأبيض،
وكان التعب بادياً
عليه، وهو بدوره قد رحل أيضاً.
انطفأت
الأضواء. دخلنا في أجواء الفيلم، لنرى
عروساً سورية ترتدي الأبيض. إنها حقاَ ذكرى بيضاء لأناس رحلوا. هذا الأبيض
هو ما
يعزيني، وهو ما يبقى.
أكرم الزعتري:
المشاغبة
عندما
بلغني نبأ وفاتها، كان أول شعور انتابني هو أني
مشتاق إليها كثيراً، وأن وقتاً طويلاً قد مرّ من دون أن نلتقي.
أما
أفلامها،
فتحتاج
إلى نقاش كثير، لأن لا اتفاق حولها. ربما هنا تكمن أهميتها، إذ لدى رندة
شيء
ما
في شخصيتها مُشاغب. في »الكفرة« مثلاً، ذهبت بموضوعه إلى الحدّ الأقصى.
لكن، على
الرغم من المآخذ التي يُمكن سوقها حول صناعتها السينمائية،
فإنه من الواضح أنها حين
تتناول موضوعاً معيناً، فإنها تذهب فيه إلى الآخر.
الفيلم
المفضّل عندي هو »حروبنا
الطائشة«، لأنها التقطت فيه مرحلة في لبنان لم يلتقطها أحدٌ، والتقاطها هذه
المرحلة جاء صادقاً وصريحاً.
تكمن
أهميتها في محاولتها أن تدفش الأمور إلى
النهاية. ربما شخصيتها وطبعها ساعداها على هذا. لا أنسى أحد أفلامها، وهو
»شاشات
الرمل« مع ماريا شنايدر. هذا فيلم منسيّ كلّياً في السينما
اللبنانية والعربية، مع
أنه طرح مواضيع مهمّة. »الكفرة« أيضاً منسيّ، وحظوظ عرضه قليلة جداً. على
كل حال،
من
يصنع أفلاماً مشاغبة، يدفع ثمناً باهظاً يتمثّل في أن حظوظ عرضه قليلة.
السفير اللبنانية في 27
أغسطس 2008
|