لا أدعي أنني متابعة للأفلام العربية عموما، فأنا عاشقة للأفلام
الأجنبية لما تحويه من واقعية وتشويق وحبكات درامية وتقنيات مدهشة، حتى
حالة الخيال هي الأخرى مقنعة وتقترب لتملأ الفراغات دون أن تسخر من عقل
المشاهد.
المصادفة البحتة هي التي قادتني مؤخرا لمشاهدة فيلم "سكر بنات" أو "كراميل"
للمخرجة اللبنانية "نادين لبكي" التي عرفناها في البداية كمخرجة للأغاني
المصورة على طريقة "الفيديو كليب" وكانت متميزة ومختلفة في ما قدمته.
فيلم "سكر بنات" هو أول أعمالها السينمائية ويبدو من متابعة الفيلم أن
"نادين" كانت تختزن الخبرة والنظرة الثاقبة والمتابعة الدقيقة بشكل كاف
ليضع عملها الأول على طريق النساء اللواتي يطرقن أبواب الممنوعات والمحرمات
والباحثات عن أجوبة لأسئلة تزدحم في رؤوسنا كأنها مطارق تحاول زرع مسامير
الخوف دون أن تسمح لنا بالاعتراض أو حتى الاستفسار.
تتحرك شخصيات "نادين" بذكاء داخل "صالون نسائي" لتنطلق الأسئلة من
خلال عالم نسوى يعج "بالأسرار" والأحلام والمخاوف، نساء بمختلف الحكايات
والأعمار والرؤى رغم انتمائهن لنفس المجتمع، والذي لا يختلف كثيرا عن باقي
المجتمعات العربية، اللهم إلا في الشكل، حيث الأوربة الطاغية أو بقايا
فرنسة يتمسك بها المجتمع اللبناني سواء من حيث اللغة أو أسلوب الحياة
اليومية، ويظهر هذا جليا حيث نشعر للحظة أننا نشاهد فيلما فرنسيا ناطقا
بالعربية، أو شارعا فرنسيا بعُقدٍ شرقية.
ربما أرادت المخرجة من خلال فيلم "سكر بنات" تسليط الضوء على وجه غير
مسموح له أن يرفع النقاب عنه حين قدمت شخصية نسرين "ياسمين المصري" وخطيبها
في مشهد يتطفل فيه الحارس الليلي عليهما وهما في انتظار شخص تحت بناية
سكنية، ومع ذلك يقود هذا التطفل إلى مركز الشرطة بتهمة الخلوة غير الشرعية!
والتكفير! لاستغلال الحارس جملة انطلقت من فم خطيب نسرين وبعفوية لبنانية،
حين صرخ غاضبا: "الله ما بيحركني من محلي" وتحول ضابط التحقيق من رجل أمن
إلى "خياط" ماهر ليفصل تهمة تليق بصيده الليلي! وباسم الدين! فماذا بعد؟.
تعود المخرجة مرة أخرى مع بطلتها "نسرين" لتوجه صفعة قوية بكشفها عن
سر كبير! فتدخلنا في متاهة العذرية والخياطة وتمزج ما بين ماكينة "روز"
"سهام حداد" وبين غرفة العمليات وكأنها أرادت أن تقول "إننا لكل منا أسلوبه
في خياطة جراحه، وحين تغرق محاجرنا بالدموع نبدو كمهرجين في لحظة استراحة".
ببساطة تستدرج "نادين" أبطالها ليسردوا حكاياتهم دون تعقيد، وهي
حكايات لا تختلف كثيرا عن الواقع اليومي في كل مكان، فتمنح شرطي المرور
دورا مركبا ما بين استغلال دوره لضبط السير في شوارع تسودها الفوضى أو لضبط
نفسه متلبسا بالحب وحائرا ما بين أن يشهر المخالفة أو يعلن عن إعجابه!.
المرأة في "سكر بنات" معقدة من ناحية، ومن ناحية أخرى مسالمة جميلة
ومضحية، ترغب أن تكون مختلفة وتتمنى حل مشكلاتها بهدوء فتتشبث بالزمن
وترجوه أن لا يتحرك مسرعا ويتركها دون صباها، لكن الوقت يصر أن يفلت دون
إرادتها فتبقى شخصية "جمال" جيزيل عواد" تحارب الزمن بأساليب باعثة على
الشفقة مرة، ومرة بالعمليات الرخيصة وأخرى بالتظاهر أنها لا زالت تستقبل
دورتها الشهرية وبكثافة لدرجة أنها لا يمكنها التحكم بها فتلوث ثيابها! لكن
"جمال" التي فرضت حظورها على المشاهد تحمل في حقيبة يدها سائلا أحمر يشبه
الدم، وتستمر "جمال" بتقطيره سواء على ثيابها أو المحارم الورقية التي
تستخدمها في دورة المياه، حفاظا على ماء وجهها بعد أن تجرأ عليها الوقت
وسرق سنوات الصبا وضيع الأحلام والفرص، ويبقى الوهم يسيطر على "جمال" خصوصا
أنها شخصية لا خيارات لديها سوى مظهرها الخارجي، وهو أسلوب ذكي من "نادين"
لتقول كلمتها في فلسفة وهم القوة والتظاهر بما لا نملك.
لم يتجاهل الفيلم أيضا حالة أخرى طالما كانت نقطة ضعف في مجتمعاتنا
وقوانيننا، وهي إهمال كبار السن والمعاقين والمختلين عقليا من خلال شخصية
"للي" "عزيزة سمعان" وهي شخصية مضطربة عقليا تعيش وهم الحب والانتظار
لهدايا الحبيب الذي لا وجود له وهي تعتقد أن أي ورقة مهملة، "رسالة غرام"
ولذلك تبقى "للي" مزروعة في الشوارع وعلى الأرصفة تلتقط كل ورقة تطيرها
رياح الوهم فتتخيلها رسالة وعد من فارسها الوهمي، لكنها في النهاية ليست
سوى قصاصات بلا معنى، ربما ترمز هذه القصاصات إلى سنوات عمر روز "سهام
حداد" الأخت الوفية لجنون "للي" والتي تبقى محنية على ماكينة الخياطة
وحارسة وحاضنة لأختها.
للي سجينة جنونها و "روز" سجينة دورها الإنساني الذي لم يحمله عنها
الوطن، تخيط أيامها العذراء بانتظار فارس أحلامها الذي أضاعته بسبب خوفها
على أختها الضائعة من الضياع، وعلى النقيض "نسرين" تخيط أيامها القادمة
بكذبة! تحت شعار "الذين يكذبون يتجملون".
كان لا بد لـ "ليال" التي أدت دورها "نادين لبكي" أن تستيقظ من
غفلتها، وهي شخصية أخرى ومحورية في الفيلم، شخصية تلتقط بقايا حُب كأنها
تلهث خلف السراب! تعيش باسم الحب على جرس هاتفها بانتظار رجل متزوج لديه
فائض عاطفي أو لديه رغبة بالخيانة أو لديه رغبة بالتغيير، لتبقى "ليال"
تمني النفس بأنها ستتحول يوما ما،، من عشيقة عابرة، إلى زوجة رسمية! وكأن
الدنيا فنت ولم يبق على سطح الأرض سوى رجل واحد ولا بد أن تتقاسمه النساء!
كأن "ليال" تغض الطرف عن سؤال مهم: "هل هي العشيقة الوحيدة لهذا
"الكازانوفا" المتخفي بقناع الحبيب؟ وتعمدت المخرجة أن لا تُظهر وجه هذا
العشيق وهي التفاتة ذكية "فالخائنون لا وجوه لهم" ربما أرادت "ليال" أن
تهرب من الأسئلة التي تلح عليها في غرفة نُزل لبائعات الهوى من أجل وقت خاص
ومختلف اعتادت أن تمنحه خلسة في السيارة بأطراف المدينة وهو مكان يشبه
مكبات النفايات! دارت ليال على كل الفنادق في بيروت لكنهم طالبوها بما يثبت
شرعية علاقتها بهذا الرجل، وتنتهي محاولاتها في البحث إلى غرفة قذرة في
نُزل لبائعات الهوى فقبلت بها! وراحت تحف القذارة عنها وكأنها تريد أن تنظف
العالم وتطهر روحها قبل أن تطهر المكان وتعطره! تزرع الورود في الأركان
المشبوهة! والتي تفوح منها رائحة الخيانة! ترش السكر على الوقت من خلال
قالب حلوى لم تحسن صناعته! ولم يأت كازانوفا! فتكتشف بعد ساعات انتظار أن
رجلها تعود على مغامراته في الشوارع! لتبدأ "ليال" رحلة بحث عن تلك الزوجة
التي لا يمكن هجرها ولكن بالإمكان خيانتها!.
ربما اختارت المخرجة مكب النفايات لتعبر عن رغبة الكثير من الرجال في
التخلص من شهوة هي أشبه بالفضلات ولا تمت بصلة لحالة عاطفية أو إنسانية.
لكن ليال تجمع شجاعتها لتتساءل بصوت عال وتقول: أي حب وهمي هذا الذي
أعيشه؟ أي حياة هذه المتعلقة بجرس هاتفي أي علاقة هذه التي لا يليق بها سوى
الشوارع؟ لماذا أنسى رجلا حقيقيا دائم البحث عني يحوم حولي منتظرا ومتخيلا
لنظرة من عيني، يختلق حديثا مشتركا بيني وبينه ويصور المواقف والكلمات
والهدايا، لدرجة أنه مرة يستوقفني ليمنحني مخالفة سير على عدم التزامي
بقواعد المرور ومرة يستسلم ويقبل بدخول عالمي ويسلم قلبه قبل وجهه لأزينه
كما أريد عله يعجبني وأقبل به شريك عمر لا عشيقا طارئا.
تتناول أحداث الفيلم بحياء بعض الحالات التي نرفضها، ولكنها موجودة
شئنا أم أبينا، فشخصية "ريما" " المتشبهة بالرجال والتي ترفض مغازلة رجل
حقيقي! بينما تعتبر أن الحظ قد ابتسم لها من خلال دخول شخصية مريبة على
الأحداث وهي امرأة غاية في الجمال ليس لها أسم أو عنوان، لكنها حزينة
وخاوية فتلتقطها "ريما" القوية والتي يُعتمد عليها في إدارة الصالون وتدوير
الماكينات حين تتعطل! وبحياء يختلسن ريما والمرأة المجهولة النظرات على
أنها لغة جسد، وعلى المشاهد هنا أن يغادر بناءا على اعتذار صريح حيث
توشوشنا ريما وتقول: "أرجوكم اعذروني وتقبلوني كما أنا فالشهوات عندي
مضطربة!.
يطرح "سكر بنات" عقدا كثيرة في مشاهد ذكية وسريعة وحاذقة: "روز" التي
ضحت بحياتها من أجل إعالة أختها المختلة عقليا فتدفع ثمن غفلة الأوطان
وانشغالها بالنزاعات عن احتياجات الإنسان الحقيقية، فهي ببساطة لو كانت
تنتمي إلى مجتمع يُُُُكفل فيه اليتيم والمعاق والمجنون والكبير في السن لما
اضطرت إلى فناء عمرها لرعاية أختها المجنونة، والتخلي عن رجل وصلها في زحمة
الوقت الضائع وبعد أن فض المجلس وغادر المدعوون.
كما يقدم حالات مختلفة وخصوصيات نسوية لا يعرفها الكثير بدءا بالمشاعر
والأحاسيس والأمنيات مرورا بالأحاديث والممارسات وانتهاء بعمليات التجميل
كأن "نادين" أرادت أن تقول هذا عالمي فأين عالمكم؟ هذه حياتي فأين حياتكم؟
هذه عواطفي ومحبتي ومخيلتي وأشواقي وأخطائي،، فهل بامكانكم أن تبوحوا
بأسراركم وخفاياكم؟.
ربما لم تكن "نادين" تقصد النهايات السعيدة حين جعلت "ليال" تتزوج من
شرطي المرور الهائم بحبها! علها خافت من أن تكون "روز" أخرى تبدد الوقت
بالانتظار وتكتشف بعد فوات الأوان أنه يمضي ولا ينتظر، كما تركت "جمال"
تدور في دوامة الوهم و "نسرين" تكتم سرها وتبدأ حياتها بكذبة! "نحن لا نقبل
الحقيقة"! وأغرقت الزوجة المخدوعة في كثير من الرشاوى كي تستمر الحياة دون
تعقيد! وتمضي "روز" في طريق أختها "للي" تشاركها جنون الرسائل الفارغة التي
تأتي بها رياح الانتظار!.
هل أراد "سكر بنات" أن يشير إلى تناقضات مجتمعاتنا حسب المكان والهوية
أم حسب النوايا والاصطياد بالماء العكر؟ هل أرادت "نادين" أن تطلق صرخة
بوجه الزمن ليوقف الحروب والنزاعات وما تخلفه من جنون وانكسارا ت وتخلف،
ليتسنى للأوطان أن تبني الإنسان كما يجب؟. هل كان على "نادين" أن تخترع
كلمة أخرى غير كلمة "نهاية" لتنهي ما بدأته من تشابك؟ هل تركت لنا الأبواب
والخيارات لنشترك معها في حل الألغاز؟ في النهاية لا بد أن نتحلى
بالإيجابية ونقبل واقعنا على علاته، ولكن هل هذا الواقع يقبلنا على علاتنا؟
أم أنه يغرقنا بالشروط والواجبات دون أن يترك لنا خيارا ؟ فنختار الوجبات
الباردة وربما الفاسدة، ونجد أنفسنا في النهاية أننا مجرد أفراد نولد
بالصدفة ونموت بالصدفة.
إيلاف في
31/07/2009 |