في الحياة الفنية مئات من حكايات الغرام. ولكن من النادر لحكاية غرام
حقيقية من هذا النوع وفي مثل هذه البيئة أن تكتمل ولاسيما حين يكون كل من
طرفي الحكاية، أو معا، نجما من كبار النجوم. وهنا على أي حال، تضيع
الدلالات وتنعدم الحقائق ويصبح من المشروع التساؤل عما إذا كانت الحكاية
حكاية حب حقيقية، أم حكاية وهمية من اختراع الصحافة أو وكلاء الفنانين، أو
حتى من اختراع الجمهور نفسه، ولعل حكاية «حب» عبدالحليم حافظ وسعاد حسني،
تمثل النموذج الأشهر -عربيا على الأقل- في هذا السياق.
اسمه: عماد عبدالحليم.
مهنته: مطرب وممثل في بعض الأحيان.
مصيره: وجد ذات يوم، قبل أعوام قليلة، ميتا بفعل تناوله جرعات زائدة
من المخدرات.
الذين وصلهم يومذاك نبأ ذلك الموت القاسي الذي كان مصير عماد
عبدالحليم، هزوا رؤوسهم أسفا. فالشاب كان عذب الصوت، وسيما، ذا حضور طيب،
وكان النوع العاطفي الذي اختار أن يغنيه مقبولا ويعد بمستقبل كبير. غير أن
هذه الأمور لم تكن هي ما شغل الأذهان في حينه.
ما شغلها كان أمرا آخر تماما، إذ فجأة استعاد الناس، أو بعضهم على
الأقل، ذكرى اثنين من كبار النجوم الذين مروا على الحياة الفنية العربية
خلال العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، سعاد حسني وعبدالحليم حافظ. وذلك
لأن الحكاية -التي لم يتمكن أحد من إثباتها- تزعم أن عماد عبدالحليم كان
الابن غير الشرعي للعندليب الأسمر. وهذه «العلاقة» كانت طوال فترة طويلة من
الزمن مالئة بعض الدنيا وشاغلي الناس. ولئن غابت عن الأذهان بعض الشيء، فإن
الصعود المدوي لعماد عبدالحليم في عالم الطرب، كما في أفلام قليلة مثلها،
ثم موته العنيف، أعاداها إلى الأذهان. وقيل في ذلك الحين إن صدمة موته هي
التي أصابت سعاد حسني بصدمة أدت إلى انهيار صحتها بشكل لاتزال تعاني منه
حتى اليوم.
لكن هذا -وحتى إشعار آخر- ليس أكثر من حكايات صحف فنية وصحف فضائح
وإشاعات تسري على الشفاه من دون أن يكون ثمة، حتى في حياة صاحبي العلاقة،
ما يؤكدها.
حبيبتي من تكون؟
مهما يكن في الأمر، فإن «الغرام» المفترض بين عبدالحليم وسعاد، كان
واحدا من أحلى حكايات الحب التي عرفتها الحياة الفنية العربية. رويت كثيرا،
وعاش كثيرون على أحلامها، واقتبست منها وعنها قصص وأفلام، ودفعت الناس إلى
أن يبحثوا في عمق أعماق أغاني العندليب منقبين عن أية إشارة تؤكد -لأن أحدا
لم يكن راغبا في إشارة تنفي- وجود ذلك الحب. وكثيرون رأوا في الأغنية
الأخيرة التي غناها عبدالحليم «حبيبتي من تكون؟» تحديا للجميع. وكان الفنان
شاء في ساعاته الأخيرة أن يؤكد أنه مات من دون أن ينكشف سره.
أما سعاد حسني فظلت صامتة على الدوام، حين يسألها أحد عن حبها
لعبدالحليم حافظ، تكتفي بابتسامة حنون ولا تجيب، حتى وإن كان حدث لها مرات
أن نفت مؤكدة أن عبدالحليم «زي أخويه». والطريف أن الفيلم الوحيد الذي جمع
بينهما -في بداياتها وفي حقبة تألقه- كان فيلم «البنات والصيف»، حيث لعبت
دور... أخته في قصة من قصص الفيلم الثلاث.
هنا لابد من أن نعود بعض الشيء إلى عماد عبدالحليم، لنلفت إلى أن
الفتى كان شديد الشبه بالمغني الكبير الراحل، شكلا وصوتا. بل إنه حين قام
ببعض الأدوار في أفلام قليلة، كان أداؤه صورة طبق الأصل عن أداء العندليب؛
نظراته، الحنان في سماته، حركة يديه. شبه في التصرف وفي الشكل وفي الصوت
يفاجئ. ولا يحتاج الناس، الذين تابعوا لسنوات «حكاية الحب» بين عبدالحليم
وسعاد، إلى أكثر من هذا حتى يروا أن الفنان الشاب لا يمكن إلا أن يكون ابن
العندليب، وهو ما عاد وأكده مسلسل إذاعي كتبه صحافي مصري ورصد فيه حياة
عبدالحليم حافظ جاعلا من حكاية الحب المفترضة جزءا أساسيا منها.
طبعا، أصر أهل عبدالحليم حافظ، دائما على نفي هذا كله.
ومن ناحية سعاد حسني كان زواجها من المخرج الفنان علي بدرخان، في حد
ذاته، أمرا من شأنه أن يوقف «الإشاعة» عند حدها. أما عماد عبدالحليم فإنه،
في العديد من الأحاديث الصحافية التي أجريت معه، كان يبقي إجاباته ملتبسة
بعض الشيء، من دون أن يعني هذا إقرارا منه بحتمية أن تكون الحكاية صحيحة.
وهذا كله يضعف أمام مجموعة من الأسئلة أولها: طالما أن عبدالحليم حافظ
وسعاد حسني شخصان ناضجان، فما الذي كان بإمكانه أن يحول دون زواجهما
وإعلانه، ومن دون اكتمال حكاية الحب بينهما لو كانت الحكاية صحيحة؟ والحال
أن هذا السؤال في حد ذاته قادر على أن ينفي الحكاية من أساسها، لأنه لو
كانت هناك حكاية حب حقيقية بينهما، لما كانت هناك أي ضرورة للف والدوران.
إذا كانت الحكاية كلها مختلقة، كما يمكن للمرء أن يفترض، يبرز سؤال
ثان: لماذا إذا سرت هذه الحكاية أصلا؟ لمصلحة من؟ ومن الذي «فبركها»؟
الجواب البديهي والسريع هو: هوية صاحبيها، وعلاقة الجمهور بنجومه.
فالجمهور يعيش، عادة، حاجته إلى الحكايات التي تلهب مخيلته وعاطفته.
وفي هذا السياق، ثمة تحليلات عديدة تتناول، مثلا، حكاية الحب الأشهر في
الأدب والتاريخ العربيين، حكاية قيس وليلى، لتقول إن حكاية الحب هذه لم
توجد أصلا. خلقها التراكم والتواتر من جيل إلى آخر. خلقتها حاجة الناس إلى
اختراع حكايات يعيشون من خلالها حيواتهم الثانية، ويرمون عليها - كالمشجب -
طبيعتهم الميلودرامية.
والحكاية تختار، عادة، أبطالها بكل عناية.
وعبدالحليم حافظ وسعاد حسني، كانا بطلين نموذجين لحكاية غرامية، وهذا
هو الأساس.
وهنا قد يكون من المفيد أن نتذكر بعض التعليقات التي واكبت توزيع
الأدوار في فيلم «البنات والصيف» - الجزء الذي مثل، فيه، عبدالحليم حافظ
وسعاد حسني وزيزي البدراوي - في الفيلم كانت سعاد، كما أشرنا، أخت
عبدالحليم، وزيزي البداروي حبيبته. الجمهور لم يستسغ هذا الأمر كثيرا، وجد
أن سعاد تليق بعبدالحليم أكثر، وأن زيزي قد يكون من الأنسب لها أن تلعب دور
شقيقته، إذ، على الرغم، من قصر دور سعاد وثانويته في الفيلم، بدت متألقة
كلية الحضور، طاغية تشع بالحيوية والفرح.
وفي لعبة التماهي التاريخية بين الجمهور ونجومه، أحب الجمهور الذكوري
سعاد، وتاق الجمهور الأنثوي إلى أن يكون عبدالحليم فتى الأحلام، ومن هنا
كان الاستياء من تلك العلاقة الأخوية المفتعلة بينهما. وحتى اليوم، من
النادر لأحد أن يذكر وجود زيزي البدراوي في الفيلم.
منذ تلك اللحظة بالتأكيد، تمكن الجمهور من العثور على حبيبة
لعبدالحليم، وكان الجمهور، منذ زمن بعيد، يفتش عن حبيبة لنجمه ومطربه
المفضل. وقد وجد الجمهور سعاد نموذجية للعب هذا الدور.
ومن هناك كانت الحكاية. ولكن لماذا عبدالحليم ولماذا سعاد؟
منذ ظهور عبدالحليم حافظ على مسرح الغناء العربي، بداية الخمسينيات،
تميز بغناء عاطفي حنون لم يكن قد عرف على مثل ذلك النطاق. وحده فريد الأطرش
كان قبله مغني العواطف والحب والشجن. ولعل أول ما تعلمه عبدالحليم من فريد،
أن المغني حين يكون وجداني الغناء إلى هذه الدرجة، تقوم بينه وبين جمهوره
-النسائي خاصة- علاقة حب وتماه يصعب معها تصوره زوجا وربا لأسرة. مغني
العواطف يجب أن يظل بكرا. وبكورته هذه تشكل جزءا كبيرا من علاقة الجمهور
به. فريد الأطرش لم يتزوج أبدا. ولكنه حوصر بحكايات الغرام، التي كانت تشكل
مادة وجدانية لأغانيه، كما حوصر بحكايات الخيبة العاطفية، كان يحب امرأة
يسرقها منه الملك فاروق، أو يغرم بأخرى تصبح زوجة قريب... إلى آخر ما
هنالك. وكان غناء الفنان يتغذى من هذا كله. غير أن زمن عبدالحليم حافظ كان
يختلف بعض الشيء عن زمن فريد الأطرش. من هنا إذا كان من الضروري اختراع
حكايات حب مستحيل تنتج علاقة التماهي بين أحزان الجمهور الدائمة وشجن أغاني
فريد الأطرش، حكايات تبقي للمغني عذريته، فإن هذا النوع من الغرام
المستحيل، كان من الصعب ربط عبدالحليم به. عبدالحليم يحب أن يحب. لكن الزمن
زمن صعود قومي وعلاقات صحية، وانقشاع في شفافية حياة النجوم، فهنا لا فوارق
طبقية ولا قصور، من النوع الذي ينتج لفريد الأطرش مأساته. ولكن هنا ثمة
عقبة أكبر في وجه اكتمال رجولة عبدالحليم بالزواج: مرضه، فالفتى أصيب بداء
البلهارسيا منذ كان طفلا. وهذا الداء شكل مع حكاية عبدالحليم، المانع عن
الزواج الذي شكلته مأساة أخرى عاشها فريد، فاروق اختطف له حبيبته.
كل هذا كان خلطة عافية ممتعة.
وهكذا، منذ «البنات والصيف»، برزت الحكاية. قبل ذلك كانت الصحافة
الفنية تتفنن في نسب حكايات حب للعندليب، عشرات المرشحات، ممثلات أو سيدات
مجتمع، نساء غامضات أو معروفات. لكن أيا من تلك الحكايات لم تبدُ مقنعة،
ولم تعش أكثر من شهر أو شهرين. كل هذا كان في انتظار الحبيبة النموذجية.
وحين ظهرت سعاد في فيلم عبدالحليم وإلى جواره، حدثت المعجزة.
وكان وراء ذلك تشابه حكاية صعود كل منهما، وارتباطهما بالظروف العامة،
في الحياة الفنية، كما في الحياة الاجتماعية والسياسية.
فالاثنان صعدا كالشهاب في فضاء الفن العربي، مع فارق ستة أو سبعة
أعوام.
هو ظهر منذ أولى أغنياته، كبيرا عاطفيا، صاعقا، كسف في طريقه كل
المطربين من أبناء جيله ومن أبناء الأجيال السابقة عليه، كانت «على قد
الشوق» و»صافيني مرة» كافيتين لجعله أول المغنين. وكان محمد عبدالوهاب هناك
لاحتضانه، إيمانا بموهبته من ناحية، أو مكاية بفريد الأطرش وكارم محمود من
ناحية أخرى. وهكذا، خلال سنوات قليلة صارت أغنيات العندليب تعد بالعشرات،
ومثل في سلسلة أفلام حققت من النجاح ما لم يكن أحد يتوقعه.
ولأن نجومية النجم لا تكتمل، إلا بحكايات الحب... راحت الحكايات
تتوالى.
ولكن الجمهور في أعماقه، رفض الحكايات المرتبطة بفنانات معروفات، لأنه
كان يرى أن أيا منهن لا تستحق مطربه العاطفي، ورفضت الحكايات الأخرى مع
نساء غامضات لأن الحكاية لا تكتمل بالغموض في هذا النوع من العلاقات. صحيح
أن بعض الحكايات المتداولة قبل بداية الستينيات عاشت أكثر من غيرها وتم
تداولها بشيء من القبول، ولكن ظهور سعاد حسني بدل كل شيء.
فصعود سعاد لم يكن أقل من صعود عبدالحليم سرعة، وبقدر ما أحبه الجمهور
مغنيا وتماهى معه منذ أغنياته الأولى، أحب الجمهور سعاد منذ لقطاتها
الأولى، في «حسن ونعيمة» وفي «البنات والصيف» و»إشاعة الحب»، بسرعة صار
عبدالحيم أول المغنين، وبسرعة صارت سعاد أولى النجمات.
وكان من الحتمي أن يلتقيا، غراميا، في أذهان الجمهور. ولكن فقط -في
اعتقادنا- في أذهان الجمهور. فالحال أن من عرف عبدالحليم حافظ عن قرب، ومن
عرف سعاد حسني عن قرب، كان في إمكانه أن يؤكد استحالة أن يقوم بين الاثنين
حب حقيقي. فإذا كان صعود الاثنين متشابها، يمكن العثور على نقاط تشابه أخرى
عديدة بينهما، أولها الذكاء الشديد، الذكاء الذي يصل إلى حد التحصن التام
ضد الانغمار في العواطف وعفويتها. وحسبنا هنا ما كان يشكو منه علي بدرخان،
زوج سعاد حسني طوال عشرة أعوام وصديقها الدائم حتى اليوم، من أنها كانت
تقدم فنها وحياتها العملية، دائما، على عواطفها وحياتها الشخصية. لقد عرفت
سعاد دائما بكونها امرأة عملية ذات حسابات. فهي التي اضطرت لمعايشة حكاية
صعودها وفرض نفسها، كانت تعرف أن أية هفوة منها كافية لنسف ذلك كله، بما في
ذلك الوقوع في أسر العواطف. ثم إنها كانت تعرف أن حياة «الثنائي» سواء كانت
زوجية أو عاطفية، تعني خضوعا واحدا للآخر، ولو بشكل تدريجي. وسعاد كان لها
من الكبرياء والاعتداد بالنفس ما يمنعها من الخضوع إلى أي كان، حتى ولو
باسم الحب.
فهل نحن بحاجة لأن نقول إن هذا الكلام نفسه ينطبق، وفي حذافيره، على
العندليب؟
لقد عرف هو الآخر بطبعه العملي وبكونه رجل حسابات دقيقة. وعرف أيضا
بأنه كان مريضا حقا وأن لا شفاء من مرضه. وهو كان يعرف، من ناحيته، أن
تحوله من عاشق -في أذهان الناس- إلى عاشق وزوج حقيقي، حتى ولو كانت سعاد
حسني هي الطرف الآخر، أمر سيكون من شأنه أن يفقده الكثير من جمهوره.
من هنا تركت سعاد، وترك عبدالحليم، حكاية الحب متقدة في أذهان
جمهورهما. أسطورة أخرى من أساطير القرن العشرين. ولما كان لابد لحكاية حب
من هذا النوع ألا تكتمل أبدا، كان جزء من اللعبة تركها، في دائرة الغموض
غير مكتملة.
فعاشت الحكاية في أذهان الناس، وربما لاتزال تعيش حتى اليوم. بينما
المرجح ألا يكون لها في الواقع وجود حقيقي. هذا بغض النظر عن الاحترام
المتبادل والود الذي كان كل واحد منهما يشعر به تجاه الآخر.
ولكن... يبقى لغز صغير، في الأمر كله. لغز يظل بحاجة إلى حل. اللغز
متعلق بعماد عبدالحليم. إذ، من أين جاء هذا التشابه بينه وبين العندليب؟
واللغز يتعلق من ناحية ثانية ببعض العبارات التي يحلو لسعاد أن تطلقها
بين الحين والآخر، حسبما جاء في كتاب أصدرته الناقدة ماجدة موريس عن سعاد
حسني. عبارات قد -وقد فقط- يستشف منها أن ثمة شيئا ما، غامضا على شكل
أحجية، في نظرة سعاد إلى عبدالحليم.
ويتعلق هذا اللغز أخيرا بالسؤال الذي طرحه عبدالحليم، وربما عن صدق،
في أغنيته الأخيرة، «حبيبتي من تكون»؟ فإذا كانت سعاد حسني هي تلك
الحبيبة... ما الذي كان يمنع الاثنين من إعلان ذلك؟
@مأخوذ من كتاب «حكايات صيفية»
الوسط البحرينية في
23/07/2009 |